نقد أدبي لرواية عين خفشة
تاريخ النشر: 19/10/17 | 8:44الرّواية: عَين خفشة
دار النّشر: الأهليّة للنّشر والتّوزيع، بيروت-عمّان
الرّوائيّة: رجاء بكريّة
“..وكذلك تعمد الكاتبة على توظيف الخطاب الكولنياليّ الاستعماريّ، الّذي روّج له الآخر تبريرًا لتنفيذ مآربه الأيديولوجيّة، وأظهرر صورة الأنا الفلسطينيّ البسيط والعاجز عن تطوير المكان وإعادة بنائه، مقابل إظهار صورة الآخر اليهوديّ القويّ المحنّك والممنهج، المهيمن القادر على التّنمية، التّطوير والإصلاح” (د.لنا وهبي)
نقد: د. لنا وهبي
عن الرّواية
تحمل رواية عين خفشة سمات الرّواية التّجريبيّة، من حيث الشّكل والمضمون، فالرّواية تعجّ بلغة غرائبيّة ومفردات مبتكرة وجديدة، هذا بالإضافة إلى التّشظي الزّمني والتكثيف اللّغوي الّذي تتّسم به.
في المستوى الشّكلي يُلحظ كثرة العناوين الفرعيّة والحكايات الّتي تمتدّ على ثلاثة فصول مطوّلة، أمّا الفصل الرّابع فهو مؤلّف من صفحتين، تلخّصان دلالة الرّواية.
عين خفشة هو اسم المكان الّذي تنتقيه الكاتبة لأحداث روايتها، إذ تعكس الرّواية طابع الحياة القرويّ بموروثه الخاصّ في المستويين الاجتماعي والسياسيّ.
اسم المكان “عين خفشة” من كلمة خفش وتعني ضعف بصره، ويرتبط العنوان “عين خفشة” بالمضمون الرّوائي ارتباطا عضويّا، إذ تهيمن الضبابيّة، وعدم الوضوح والاستقرار على المتون السّردية نتيجة لمعاناة أهل القرية من التّهجير، التدمير والنّزوح عن الوطن، والملاحقة والاضطهاد الذي يعيشه ويعانيه الفلسطينيون عامة وأهل “عين خفشة” على وجه من الخصوص، من الآخر الإسرائيليّ الّذي يدبّ الرعب في نفوس سكان القرية ويعمي بصرهم وبصيرتهم، ويسدّ أفواههم عن التّصريح بالحقائق ونقل الرّواية، ليصيروا بذلك كالّذين يخفشون خفشا في مشيهم ولا يبصرون الواقع.
شخوص تحكي
من اللافت للنظر أنّ الطفلة “لبيبة” بطلة الرواية تعي مقدار وحجم الظروف السياسيّة المأساويّة وتأخذ على عاتقها مسؤوليّة كشف الحقائق من خلال حثّ جدّتها لأبيها في إماطة اللّثام وإخراج المكبوت إلى العلن بجرأة غير مألوفة تتمثّل في إيراد العديد من الأوصاف السّلبيّة، واللا إنسانيّة للآخر الإسرائيليّ إثر سياسة التّهجير التي طالت الفلسطينيين بما فيهم الجدّة الّتي ذاقت الأمرين بعد تهجير ابنها “خير” قسرًا عن المكان، وقتل زوجته. من هذه المفردات نجد: ” تعمشقي عالسّدة ليؤذوكي ولاد هالحرام” {…}، “هدول ما بيرحمو حدا” {…}، “لو يعرفو هلكلاب إنهن أخذوا عمري يوم جرّوك قدام البرودي لبلاد العار”، (ص 12،13) “وولاد هالعايبة يخوفوا بهنّاس ويبهدلوا بآخرتهن. وهيك جرّوهن يا ستّي برمشة عين عالسّفن” (ص86). {..}”هجموا علينا مثل هالجراد وطرّونا (ص110)، {…} “بلا راس المقاطيع جابوا مرته من البريّة وكوّموها فوق البحصات حتى ما يشوفهم حدا وفكحوا مثل الولايا” {…} “انهزموا ولاد هالميتة (ص111). “الله يغضب عليهم شو يتّموا ورمّلوا وقتّلوا هالبعدا” (ص 248).
إيراد مثل هذه المفردات باللهجة الفلسطينيّة المحليّة من شأنه أن يضفي بعدًا واقعيّا ملموسًا على الأحداث، كذلك يُستشّف من توظيف لغة الجدّة أنّ التّجربة المأساوية ليست فرديّة تخصّ الجدّة فقط، إنّما هي تجربة ترسّخت في الوعيّ الجمعيّ لكلّ فرد فلسطينيّ عاش هذه التّجربة.
تمثّلات الأنا والآخر في الرّواية
تحضر ثنائيّة الأنا الفلسطينيّ والآخر، على امتداد الرّواية في مستويات عدّة، إذ نجد صورة الآخر النّقيض قوميا، اجتماعيّا، دينيا وسياسيا. ومن خلال علاقة الآخر الإسرائيليّ بالأنا الفلسطينيّ يتمظهر الصراع الجغرافيّ، الديمغرافيّ، السياسيّ والعسكريّ. ويُلحظ معاناة الأنا الفلسطينيّ من حالة الضعف، الضياع والسّلبيّة مقابل، المُخططات والنّشاطات الفعليّة المدروسة للآخر الإسرائيليّ الّذي يعمل دون انقطاع على تدعيم هيمنته وإحكام سيطرته في المكان، فالظروف الّتي عاشها الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال منذ عام 1948، أدّت إلى خلق صور سلبيّة ترهيبيّة للآخر الإسرائيليّ المستعمِر والقاهر في أذهان الأنا الفلسطينيّ المستعمَر، كما يتمظهر فيما يلي:
” لخمتني جدّتي بحكايا اليهود في طفولتي. فتنتني بما لا أعرفه عنهم، وملأتني حقدًا عليهم” (ص14).
“على لسان جدّتي لأبي فهمت بكثير من الألم أنّ اليهود طردوهم من بيوتهم في ال 48، وسكنوا مكانهم وأنهم أُرسلوا بالسفن إلى الدول العربيّة من ميناء يافا وعكّا وحيفا حفاظا على حياتهم” (ص35).
“لغزوات اليهود حكايا دامية في رأسي” (ص56).
“خافوا فزّاعات اليهود الّذين استوطنوا بين ليلة وضحاها أحراشهم، وصاروا إلى أصحاب مكان” (ص81).
” جعّروا بكراتينهم، اتركوا بيوتكم واخرجوا، البيوت راح تنزل عليكم” (ص109)
“يومها كان المحتلّون يقربطون بالغنيمة، ويسجّلون أسماءهم على خشبها كمالكين جدد، لأملاك متروكة” (ص127-128).
وكذلك تعمد الكاتبة على توظيف الخطاب الكولنياليّ الاستعماريّ، الّذي روّج له الآخر تبريرًا لتنفيذ مآربه الأيديولوجيّة، وأظهر صورة الأنا الفلسطينيّ البسيط والعاجز عن تطوير المكان وإعادة بنائه، مقابل إظهار صورة الآخر اليهوديّ القويّ المحنّك والممنهج، المهيمن القادر على التّنمية، التّطوير والإصلاح. كما يتمظهر في الأمثلة التّالية:
“أيظل اليهود متفوّقين في جيشهم وحيلهم أيضا؟ ألم يستوطنوا فلسطين بذريعة إصلاح الأراضي الزّراعيّة، وبعد أن فعلوا سحبوا أراضيها وزراعتها ومزارعيها؟ ضحكوا على القطّاع والقطيع” (ص139-140).
“ليش هنّي اليهود خلّوا التّاريخ يحكي. كلّوا تزوّر وتشحّر. خلّونا زي جرس الريح معلّقين بعنق سنديانة، كلّ ما هب عليها الهوى غنّت بحسرتها” (ص286).
ومن اللافت في هذه الرّواية أنّ صورة الآخر لا تقتصر على الإسرائيليّ أو اليهوديّ، إنّما تعدّتها لتطال الآخر العربي والفلسطينيّ، الأمر الّذي يدلّ على التشرذم والتفكّك في مقوّمات الهويّة القوميّة العربيّة عامّة، والفلسطينيّة خاصّة إثر الهزائم، التّهجير، القتل والدّمار الّتي عاناها الشعب الفلسطينيّ منذ 1948. ومن هنا نلمس جرأة الكاتبة في توجيه نقد سياسيّ لاذع يتمظهر في تحميل المسؤولية للأنا العربيّ والفلسطينيّ للمصير المأساوي الّذي آل إليه الفلسطينيون. وهذا ما نستشفه في الأمثلة التّالية:
“أستاذ شريف الّذي يسمّي سكّان المخيّمات إرهابيين مش فلسطينييّ {…} معلّم التّاريخ يكذب علينا ويعلّمنا غلط” (ص34)
“كانت الحقائق أكبر من عقولهم {…} اعتقدوا أنّهم سيخسرون ما تبقّى في خوابيهم للأبد، فلاذوا بصمت قاهر. اختبأوا داخل حقائقهم المزوّرة وتحدّثوا بلا نهاية مع الريّح والحمام والشجر” (ص81).
“لماذا لا يحبّ أبي أناشيد البلاد العربيّة وحمامها الزّاجل {…} لماذا لماذا لا يحبّهم؟ {…}
“هم أحرار يغنّوا لبلادهن وولادهن شو دخلنا؟” (ص177).
“كلهن خونة يا ستّي، ما في حدا همّه غُلبنا، وذلنا، وقلّة حيلتنا. يا ويلي علينا” (ص179).
إنّ توظيف ثنائيّات الأنا والآخر في هذه الرّواية جاء ليفضح المستور والدّفين في ثنايا التّاريخ، فقد عمدت الكاتبة على إحياء قضيّة المكان والإنسان الفلسطينيّ من خلال نبش الذاكرة في الصعيدين الفرديّ والجمعيّ، ربّما خوفًا من تزوير الحقائق، وضياع الحقّ والهويّة. وبهذا تكتسب الرّواية قيمة وثائقيّة تهدف إلى ترسيخ الوعي في أذهان الفلسطينيين فيما يتعلّق في هويّة المكان والإنسان، والعمل على نقل الحكاية للأجيال المعاصرة والقادمة.