قراءة في كتاب “شاهد على عصره”
تاريخ النشر: 24/10/17 | 12:13قد تكون هزيمة الجغرافيا والتاريخ مجرّد جريمة قتل عابرة مقارنة بهزيمة الذاكرة التي تُعتبر مَجزرة.
يقول الفيلسوف العربي ابن خلدون في المقدمة :”إن حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم” ويعني بذلك أن الحياة المدنية هي أساس التاريخ، وليس تاريخ السياسة والملوك والحروب بل هو في الحقيقة جميع أنشطة البشر العاديين من فكرية واقتصادية واجتماعية.
فالتاريخ غير مُجرّد وغير مُطلق، وعادةً يكتبه المنتصر ولذلك هناك ضرورة ملحّة لتوثيق روايتنا الشفوية الصادقة، المُهمّشَة والمُغيّبَة ، فالشهادات الشفوية مهمّة جدا، شهادات مَن بقي ليروي قصّته وقصّة ذويه لأن المتبقّين من المنتكبين من أبناء شعبنا يتناقصون ويموتون وتموت معهم حقيقة ما حدث علّها تكون عبرة لمن اعتبر، وحبّذا لو نحكيها، نُدوّنها ونُوثّقها كي لا تموت “الحقيقة الكاملة” ونكتب التاريخ غير المزيّف.
لذا هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل تلك الشهادات للباقين ممن عاشها، كما رأينا في المشروع الذي بدأ به وديع عواودة وغيره، أو كما أطلق عليها الكاتب المقدسي محمد عمر يوسف قراعين في مقدمة كتابه “شاهد على عصره” الصادر عن دار الجندي للنشر والتوزيع المقدسيّة ويحوي في طيّاته 264 صفحة “ما يشبه التاريخ الشفوي”، ثم أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وعدم تركها لل”مؤرخين”، ولو جُمِعت تلك الشهادات لشكّلت اللوحة التاريخية الصحيحة فالذاكرة الجماعية سلاح لتحقيق العدالة!
يقول قراعين عن الطبقة الوسطى : “لم يكن لديها القوة بعد، لتأخذ دور القيادة في الحركة الوطنية وهذا لا يعني الطعن في وطنية ملاكي الأرض وشيوخ العائلات والمخاتير، فالجميع كانوا وطنيين صادقين، إلا أنهم لم يكونوا على مستوى الأحداث. فسياستنا فشلت، ليس فقط بسبب الاستعمار والقوى المتعاونة معه، بل لأن هبّاتنا كانت تُمثّل ردّات فعل آنية ووقتيّة، ليس لها طبيعة الاستمرار، وكثيرًا ما كانت تسيطر عليها العاطفة . ومع أن الأحداث كانت حقيقة أقوى منا، إلا أننا مع ذلك لم نكن في مستوى القرن العشرين. يُحكى أن كبار القوم في إحدى القرى أو المدن في آخر أيام الانتداب اجتمعوا مع شيخهم، وأشار عليه أحدهم أن يسافر إلى لندن، ليشتري لهم استقلالا يعلّقونه على باب الحارة، حتى لا يدخل عليهم أحد – غريبا كان أم قريبا”.
الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية شمولية وأفقية لشعب بكامله، ليست بسيرة ذاتية شخصيّة لكاتبه، إنه سيرة تمزج بين الأحداث الشخصيّة لكاتبها والأحداث العامّة التي دارت في فلسطين وعدّة دول عربيّة، مركّزة على المفاصل المهمّة في تاريخها، مرورا بالنكبة الفلسطينية والنكسة وحروب لبنان والانتفاضتين وحرب الخليج، دون أن تتحول هذه السيرة إلى سرد للتاريخ، ولا إلى منبر للتنظير السياسيّ وفرض وجهة النظر، فاستطاع أن يقدّم صورة واضحة غير منحازة، من وجهة نظر شخص عادي مطّلع على الأمور للأحداث الهامة على مدى خمسة عقود.
الكاتب يعود إلى الماضي، منذ طفولته حتّى شيخوخته، لكنّه يعي الحاضر وعيًا تامًا، فيربط أحداث الحاضر بصراعات الماضي، وآلام الحاضر بأخطاء الماضي، آملا أن لا تتكرّر الأخطاء وأن لا يستمرّ الانحدار نحو المجهول. يستحضر الأحداث التاريخيّة المختلفة من زاوية أخرى، دون تكرار لما لا نقرأه في كتب التاريخ أو في الروايات، فهو يحكي ما حدث بلغة الناس العاديّين الذين عاصروا الحدث، فينقله بصدق وأمانة، ويسدي برأيه أحيانا مبيّنا كيف كان ينظر إلى الأمر في حينه وكيف ينظر إليه الآن بعد إن انكشفت دواخلَه وبانت نتائجه. هو مؤمن بأنه لا بدّ من الوقوف على أحداث الماضي من أجل فهم الحاضر ورسم مستقبل أفضل.
قراعين نسويٌّ بامتياز، فهو نصير المرأة قولًا وفعلًا، فالأم مبادرة وصاحبة طابون (ص. 8)، ولها دور هام في الحياة الاقتصادية في سلوان ، “فقد كانت العامل الرئيسي في زراعة أراضي البستان، وجني الثمار، وتوريدها في سلال خاصة محمولة على رأسها إلى السوق، للباعة في البازار وخارجه”(ص. 45)، وكنّ “يحملن تنكات المياه ذات العشرين لترًا على رؤوسهن من آبار سطوح الصخرة إلى سلوان” (ص. 53)، الزوجة تعمل مدرسّة في الكويت، ومعها طفلهما ليتفرّغ للدّراسة في لندن (ص. 139)، وهي المتعلّمة والمعلمة، ويبلغ ذروته حين أصبح جدًا لأول مرة، فرحّب بحفيدته ديار، ابنة الدكتور عمر، وقال شعرًا :
“جاءت الأخبار تُنبئُني بأني صرتُ جدًا
قلتُ مرحى
إنه الوقت المناسب
فقد تفشّى الشيبُ في رأسي
وجلّلني الوقار
يا هلا بكِ باكورة أحفادي ديار
يا ست الحبايب”
وهذا ليس بمفهوم ضمنًا في مجتمع ذكوري كشرقنا!
في شاهد على عصره نرى إِنسانًا واثقًا بنفسه، متحدّيًا كلّ الصّعوبات، طَموحًا إِلى أبعد حدود.
لم يولد وفي فمه ملعقة من فضة كما جاء في مقدمّة الكتاب، بل كافح مثل أبناء هذا الشعب العامل، بالانتقال هنا وهناك، من أجل الرزق وقسط من التعليم العالي. أطلّ علينا بشهادة موسوعيّة : فالتجربة عريضة والثقافة مُميّزة، والمُتابعة دقيقة، والتحليل يستندُ إلى معلومات تفصيلية تتجاوز الأخبار، والذاكرة المميّزة التي تحتفظ بشبابها … كل ذلك يحضر مع محمد قراعين فإذ هو دائرةُ معارف: يعرفُ الكثير الكثير من المرجعيّات السياسيّة، ويعرفُ عن البلاد وأحوالها، اقتصادا وثقافةً وتوجُهات . ذاكرته نضِرة، ومعلوماته شاملة، ثم إنه متابعٌ دقيق وخزينَه المعرفيّ يُسهّل عليه تحليل الحاضر واتجاهات الريح، ما يُمكّنه من استقراء المستقبل.
كتب قراعين بوضوح رؤيةٍ ورؤيا، فهو مُطّلع على خبايا الأمور لحنكته وتجربته الحياتيّة وكتابه يتّسم بمصداقية عالية كشاهد عيان على ما حدث وليس كمؤرخ سمع عن الحدث أو باحث قرأ عن الحدث في بطون الكتب.
يقف قراعين أمام محكمة التاريخ ليصرخ صرخات همنغواي، بابلو نيرودا وديستوفسكي في “بيت الموتى”، كتب ونشر كي لا يُقال : ما من شاهد على ذلك العصر!
نحن سعداء بهذا الإصدار، ولكن لم يحالف الحظ الكثير من أهلنا الذين لم يحظوا بنشر نتاجهم، وحبذا لو قامت مؤسساتنا بنشر ذاك التراث الغنيّ ليكون عبرة لمن اعتبر، وخاصة أن روايتنا مُهمّشَة ومُغيّبَة وهناك ضرورة ملحّة لنشرها وأرشفتها لبناء المخزون الثقافي والسيرة التاريخية الصحيحة لتلك الحقبة لكونِها وثيقةً تأريخيّة متكاملة. فهل من سامع ومجيب!
المحامي حسن عبادي