حين يستحضر الفيسبوك مدارج طفولتي: وفاءً للأستاذ المرحوم سليم يحيى
تاريخ النشر: 30/10/17 | 5:33د. تغريد يحيى- يونس
دون استئذان ودونما أدنى تحضير يُقحم الفيسبوك على شاشة هاتفي الذكيّ صورًا آلفُها! لحظة! هي “الدار” كما في لغة العائلة، دار سيدي، و”دارنا العتيقة”. فحص ضوئيّ السرعة يوصلني إلى المصدر، فأتحقق من الموقع. الأخ رائد مصالحة ينشر بوست في صفحته في فيسبوك، بوست عرفانًا ووفاء لأستاذه للّغة الانجليزية، المرحوم الأستاذ سليم يحيى، عمي سليم. بالطبع أعرف عائلة رائد، لكنّي لم أعرفه إلا معرفة افتراضية منذ فترة وجيزة. مشاركته هذه اليوم تضيف إلى معرفتي به، وأعتقد معرفتنا جميعًا به، خُلقّا جميلًا آخرًا وجانبًا إنسانيّا جديدًا وفريدًا في شخصيّته. نِعم الانسان والتلميذ! يحفظ لمعلّمه، المرحوم الأستاذ سليم يحيى، وفاءً جميلًا بدرسه، وعرفانًا بفضله، ويعْزو إليه ما زرع فيه من أمل… بارك الله به وكثّر أمثاله.
سأدَع لوحة المفاتيح بين يديّ تعبر عن انفعالي بهذه المشاركة بانسياب، لا يميّزني عادة. إن انفعالي العميق من مشاركته (هذا البوست) لا يقف عند هذا السبب فحسب، وإن هو على درجة من الأهمية كما أحاول أن أشير. إنّه يشير بالكلمة والصّورة إلى بيت جدّي لأبي وبيتنا الأول، فجعلني هذا أعود، على غير موعد، إلى حيث ولدتُ وإلى حيث سنوات طفولتي الأولى ومدارجها وما تلاها وخلا من سنين. لعمي سليم، رحمه الله وطيّب ثراه، وهو لا يغيب عن البال وإن غيّبة الموت، مكان ومكانة خاصان في طفولتي وصبايّ وشبابي. لطالما رغبتُ أن أنشر ما كتبتُ فيه بعد وفاته عن عمر ناهز السادسة والسبعين، وهو بكامل عافيته إثر نوبة قلبيّة قبل السنتين والنصف، لكنّ ما تخبؤه لنا الأقدار وانشغالات الحياة حال دون ذلك حتى الآن. لن أوفيه هنا حقّة، وسأنشر في الموضوع في الوسيلة والوقت والصيغة المناسبة.
أجدُني مشدودة لأوفر هنا صورة أوسع وسياقًا لمن مرّوا بالمشاركة أعلاه وشاهدوا البيت والغرفة والأماكن المعروضة في الفيديو المرافق للبوست. احتجت لهنيهة كي استدرك وأركّز: إنها “الدار” كما في لغة العائلة، دار سيدي، دار ستي إم يوسف، رحمهما الله، “دارنا العتيقة”. مِنْ لا مكان انتصبتْ أمام ناظري صور لأماكن أعهدها، ل”قُصَّة” درجتُ فيها أولى خطواتي، ولساحة لهوتُ فيها وجريْتُ، لدرج تسلقتُه إلى ال”عِلِّيّة”.
غرفة كبيرة يفتح بابها على براندا (القُصّة) نحو الشّمال، أحد شباكَيْها يطلّ إلى الغرب حيث “جنينة” صغيرة، تحولّت إلى حظيرة بعد عقود وبعد أن غادرها كلّ الساكنين، وثانيهما شماليّ يطلّ على البراندا. عبر باب داخليّ في حائطها الشرقيّ تفضي الغرفة إلى حمّام و”منافع”، كما كان يسمّى المرحاض باللغة المحكيّة الدارجة، وبجانبهما مطبخ. المطبخ كبير فيه سدّة عالية تخزّن فيها بعض مؤن العائلة الكاملة وأغراضها ذات الاستعمال الموسميّ. بابه الخشبيّ مقابل للدّرج الذي يوصل للعليّة. كان هذا البيت الذي أعدته العائلة لابنها البكر، أبي، وزوجه مستقبلًا ، أمي، وهو أقصى ما كان يحلم به الزوج الشّاب، حتّى في الأسر المقتدرة، في الخمسينيات من القرن العشرين. سكنه والداي منذ زواجهما (1960)، (وعليه غبط الوالدَ أصحابُه ومعارفُه) إلى أن انتقلنا (1965) إلى البيت الذي عمّره والدي لنا في الجهة الشرقيّة القصوى، آنذاك، من القرية.
هذا الجزء من الدار يقابله البيت القديم، بفخامته وهيبته التاريخيّة والعقود الخشبيّة الضخمة التي توسطتْ سقفه، والطاقات الجميلة المتقابلة في حائطيه من جهتي الشرق والغرب، تعكس الضوء أشكالًا وألوانًا في فضائه وعلى حيطانه، تبعًا للساعة من اليوم، وهو ما لم تسعف التكنولوجيا توثيقه بشريط فيديو، كما نفعل اليوم حيث غالبنا لا يتحرك إلّا مزوّدًا بكاميرات هواتف ذكيّة، وبعضنا لا يتوانى عن تشغيلها.
بين البيت القديم والجزء المذكور من الدّار ساحة يتوسطها “البير”. استقدم جدي من خبراء الصنعة المحليين من يحفر البير وينظفه ويقصره ثم ينظفه، ومُدّت إليه الأنابيب التي توصل ماء المطر من الأسطح النظيفة الطاهرة فقط، ليكون مستودعًا صالحًا لتجميع الماء السماويّ بحذر يجعله قابلّا للاستخدامات المنزليّة، بما فيها الشرب والطهي، طوال السنة. وقد تعهّد والدي البير ليكون آمنًا حيث جهّز له سقفًا من الباطون وصمّم له بابًا حديديًّا يغلق بقفل وطلب تنفيذ التصميم لدى حدّادٍ “خواجا”.
العِلِّيّة هي الموقع الأعلى في الدار، عمرانيًّا ومكانةً. إحدى الوظائف الرئيسية التي أشغلتها العليّة كان أنها غرفة عمومتي في شبابهم. استقدمت العائلة البناة لتشييدها في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين. يقود إليها درج عال، في حافتيْه درابزين بفرزة فنّية شرقيّة جميلة، وينتهي في أعلاه بباب حديديّ صغير مماثل. أمام العلية ذات الشبابيك الخشبيّة الخضراء مطبخ صغير وحمام ومرحاض وبرندا[ه] ببلاط ذي نقش شرقيّ جميل هو الآخر، وهي تفضي إلى مساحة مطلّة على كروم زيتون العائلة والأقارب وسهول اللوسّية غربًا، تلك هي مساحة سطح “بيتنا العتيق”. لم يكن الوصول إلى هذه الأجزاء من الدار متوفرًا وخاصة للحفيدة/ات الأوائل في العائلة إلّا بصحبة بالغ/ة، فالسطح غير آمن! لكنّ للعليّة سحر خفيّ اجتذبني بلا مقاومة، فقد احتوت لاحقًا على جهاز “البتيفون”، آلة لإسماع اسطوانات الموسيقى والأغاني آنذاك، وهي قمّة أدوات الترفيه التي كان يمكن اقتنائها في سنوات الستينيات المتأخرة والسبعينيات الأولى، حيث اقتناها أصغر أعمامي، عمي إبراهيم، وبواسطتها نَعِمْنا بالاستماع إلى أغاني الزمن الجميل. أمّا المحتويات الأخرى للعلّية فقد أضفت عليها قدسيّة ما بعينيّ طفلة، ولتحاشي الإطالة سأوردها في فرصة أخرى. ومن سحر هذا الجزء من “الدار” ما كان يكشفه من مساحات غربيّ القرية وعلى امتداد البصر إلى ما عرفناه لاحقًا عندما كبرنا بجبل الصندحاوي.
إنها غرفة-العليّة التي جعل منها عمي سليم، رحمه الله وطيّب ثراه، في آخر المطاف غرفة لاستقبال التلاميذ وطالبي العلم والمعرفة في مراحل تعليمية مختلفة، من الابتدائية وطلبة الدراسات العليا، فتية، شبابًا وزملاء له، ممن أرادوا فكَّ طلاسم اللغة الانجليزية، أو التخلّص من عناء مقارعتها، أو التقويّة فيها وتملّك مفاتيحها من مصدر أمين، حيث كان انتشارها بينهم وسبل ترجمتها وتعلمها والتمكّن منها نادرًا جدًّا. الأستاذ سليم الأمين كان طلائعيًّا في التمكّن من الإنجليزيّة في كفر قرع، دون أن يبرح الوطن إلى ما سواه من بلدان ناطقة بالإنجليزيّة. وقد كانوا يحتاجونه في التحقّق من التاريخ أو الأدب أو القواعد، وهي من معارفه التي أجاد، بالرجوع إليه شخصيّا ولمكتبته الغنيّة. فإلى جانب الدروس الخصوصيّة التي أعطاها للتلاميذ ولطلاب الامتحانات النهائية في المرحلة الثانوية (البجروت)، فقد استعان به طلاب الدراسات العليا في كتابة وظائفهم وأبحاثهم، دونما مقابل ماديّ حين قصدوه لأمر عينيّ، حتّى وإن استغرقه ذلك وقتًا طويلًا وكلّفه جهدًا جهيدًا. جلّ ما أراد أن ينشر المعرفة والعلم ويشجّع التلاميذ والطلاب والزملاء كي ينهلوا منهما أكثر.
هؤلاء الطلبة والزملاء لم يكسبهم الأستاذ سليم اللغة الانجليزية والعربيّة فقط، وإنما فبرفقِه وعطائه المتدفّق السخيّ وتواضعه الملحوظ أكسبهم معارف وعلوم كثيرة قد لا تعرف لها اسمًا وفق المجالات المعرفيّة المتعارف عليها في المؤسسات والمعاهد التعليميّة العليا، وساهم في فتح أبواب أمامهم، بل ولا أبالغ في القول إنّه أكسب الأسر أولادها وأكسب البعض من روّاده الأوفياء ذواتهم ، وهو ما عرفناه في الغالب بعد وفاته، إما خلال أيام العزاء به وإما بعد ذلك، إضافة إلى أعمال الخير التي كان يقوم بها دون ان تعرف يسراه ما تعطي يمناه، والتي جدير بها أن نبقيها كذلك، كما أراد لها ان تكون.
لعلّ ما كتبتُ هنا وإن كان مختمرًا في البال، جاء باندفاع لحظيّ حين أومض البوست أعلاه هذا النهار، موثّقًا بالكلمة والصورة وفاءً للأستاذ المرحوم سليم أمين يحيى، ووقوفًا على أطلال الغرفة التي درّس فيها، ولعلّي استطعت أن أضيف هنا للصورة سعةً وعمقًا وسياقًا، وهي وإن طغى عليها زخم الذكرى الشخصيّة والعائليّة، إنمّا تشكل منفذًا شبه أنثروبولوجيّ يوثّق لحقبة من تاريخ كفر قرع عبر قطعة من فسيفساء الحياة فيها.
طيب الله ثراه ابونا ومربينا الفاضل الاستاد سليم يحيى
وسلمت اناملك دكتورتنا على هذه اللفتة المؤثرة
فقد حركت في داخلي مشاعر اشاطرك بها بهذا البيت
(داركم العتيقة كما اسميتها )
لي ذكريات كثيرة انا ووفاء عند جدتي ام يوسف رحمها الله وعند استاذنا الفاضل رحمه الله
اصبت الوصف وابدعت
عزيزتنا ريم! تعرفين جيّدا أن معزتك عندنا كبيرة …
تعيشي وتتذكري وتترحمي. بارك الله بك على تعقيبك الطيّب.
والواقع أنّه كلّما مررت بتعقيب لك وجدتُه طيّبًا، فأهل الطِيبِ
لا يصدر عنهم وعنهنّ إلا كلّ طّيب.
رحمه الله
عجيبه… كلماتك عجيبه.. اسلوبك عجيب.. درستيني في الثانويه( علم اجتماع) ومع اني كنت من المتفوقين في موضوعك الا وايضا كنت من المشاغبين. ولطالما نصحتيني باني ساصبح شيء يوم ما! فصدقت يا معلمتي التي افخر فيكي واقرا كل مقالاتك من منطلق انك عجيبه. ولك عندي معزه خاصه.. بوركت على هذه الكلمات التي تغرس فينا حب المسكن وحب الطفوله.. وما اجملها من ايام.. شكرا
رحم الله خالي سليم وطيب ثراه .اعادة الى السنين الجميلة .
وهداة البال .
ان زمننا الحاضر كاد يخلو من كل جميل .
الذكرى جميلة .وايامها كانت جميلة .
ومن امن برسالة واتقنها ذكراه تبقى عطرة .
بوركت دكتوره تغريد لقد ذكرتيني بايام ستي حليمه وستي امنه وسيدي عيسى وعمي عبد الجبار والاستاذسليم رحمهم الله جميعا تللك الحاره التي لم ارى مثلها في حياتى كم كانت تربطنا ببعض علاقات حميمه مليئه بالحب والنخوه كنا عائله واحده فش مناسبه تصير الا والكل حاضر وواقف ومستعد لاي طلب كم كانت افراحنا جميله وحتى الموت كان له طابع خاص ومحبوب مقارنه مع هذا الزمان لا لايشعر الاخ باخيه كنا اذا توفى احد لانفتح لا الرديو ولا تلفزيون الكل مشارك بالحزن ايام جميله لن تعود ولكن ستبقى ذكراها حلوه وجميله بوركت جارتي وصديقتي دكتوره تغريد
الله يرحمو لن ننساهو ابدا في القلب دائما
كلام جميل ام المجد لن ننساه ابدا نتذكره داىما كانت اياما جميله قضيناها مع عمي. سليم الله يرحمو
الله يرحمه ويجعل مثواه الجنة استاذي الفاضل.وبارك الله بك معلمتي الدكتورة على هذه اللغة الرائعة.
مازال الماضي الزاهر بطيبته يشدنا
الئ أولئك الذين يعتبرون ذكر الماضي وانتصاراته علامه خذلان وتقهقر
اقول لهم
منه نتعلم لننير الحاضر والمستقبل
كما يفعل المنتصرون علينا ،يشيدون متاحفهم وارثهم
بغباءنا بتركنا تراثنا وديننا الحنيف
موسسه المجلس غاءب دوركم بحفظ الماضي وتاريخ وتراث البلد
ربي احفظ هذا البلد وساءر بلاد المسلمين المرابطين
مش بس رجعتينا للتاريخ والتراث وللزمن الجميل والناس الطيبين.
منك نتعلم دكتورة تغريد اللغة العربية والأسلوب والأفكار.
من كتابتك هنا تعرفنا على كلمة “مدارج”. نصادف كلمات معينة لأول مرة
في أقوالك وكتاباتك. بصراحة مرات نحتاج أن نبحث عن معنى الكلمة، نعود
إلى لغتنا العربية نتقوى في اللغة ونبدأ باستعمالها.
بارك الله بك ودمت للغة والثقافة وللخير.