أعذارهم سيئة كذنوبهم
تاريخ النشر: 18/11/17 | 8:46ما زالت أخبار صفقات عقارات الكنيسة الأرثوذكسية المقدسية تتهافت علينا في مشاهد توحي بأن القائمين على هذا الملف في البطركية شارفوا على انجاز مشروعهم كاملًا، بعد أن أتموا توقيع عدد كبير وغير معروف بالتحديد من الصفقات العقارية وفقًا لخطة شاملة شارك بتنفيذها البطرك ثيوفيلوس ومجمعه ومستشاروه القانونيون ومعهم وسطاء وطواقم تخطيط استراتيجي ومكاتب إعلام مهنية محنكة.
ولمن نسي البدايات نذكّر بأن موقف رؤساء الكنيسة اليونانيين وبجانبهم أرهاط المرتزقة المنتفعين والمقربين منهم أنكروا بامعان حقيقة وجود هذه الصفقات، حتى أن بعضهم كان أكثر “أرثوذكسيةً “من البطريك، فوصفوه بحامي حمى فلسطين وعقاراتها وعابوا على كل من اتهمه بعكس ذلك.
ومن أشد الظواهر استفزازًا وايلامًا في السنوات الماضية هو عدم تصديق معظم القيادات الوطنية والمؤسسات العربية المسيحية لما عرض عليها من وثائق دامغة تثبت بشكل قاطع قيام البطركية بالتوقيع على عدة صفقات شملت مواقع تاريخية واستراتيجية، حتى جاءت “الصحوة” على ايقاع نغزات مهاميز “العدو” والصدمة من الأخبار المنشروة في صحافته، فأفاقوا على ما ملأ صدور الجرائد العبرية من تفاصيل دقيقة وهي تشرح عن عقود “البيع البطركية” وصور الكواشين الجديدة وهي تثبت كيف سرب الكهنة وأعوانهم عشرات العقارات الوقفية النفيسة في القدس ويافا وطبريا وقيساريا، فيما أسميناه “مذبحة الأرض المسيحية” الكبرى.
وكأنها عقارات “لقيطة” لأنها تقع في مناطق ال ١٩٤٨!
مع انتشار المعلومات تراجعت أبواق القصف الدعائي المغرض واستبدلت مواقف الانكار بحنكة التبرير، فالبطركية وبعد أن اعترفت مضطرة بابرامها صفقات بيع، ادعت، مستخفة بعقول الناس، انها أجبرت على ذلك لأن أوضاعها المالية كانت مضطربة وصعبة مما دفعها إلى التخلص من “عبء” هذه العقارات!
بدأت جوقات السحيجة المدربة بالترويج لهذه الفقاعة ولكن سرعان ما تعرت عبثيتها وظهرت خالية من أي منطق وحقيقة، فكل عاقل يعرف أن إدارة وتدبير شؤون العقارات المباعة من قبل شركات مهنية ومتخصصة ومن خلال تعاقدات قانونية سليمة وشفافة وباشراك واطلاع ممثلي الرعية والجهات الوطنية الفلسطينية والأردنية المعنية، كان كفيلًا بتأمين مداخيل مالية خيالية لصندوق البطركية بشكل منتظم ولفائدة المجتمع والمصلحة العامة، مع التأكيد على أنه لم تكن حاجة حقيقية للبيع ولا مبرر “للتخلص” من رقبات هذه العقارات وهي في الأصل أوقاف لا تباع وجزء من أرض الوطن وهويته؛ هذا علاوة على أننا لا نعرف ما قيمة المبالغ الحقيقية التي دفعت في جميع هذه الصفقات وما كان مصيرها ولأي حسابات هربت، فكل ما جرى حيك بالعتمة وبمعرفة ثلة قليلة من المنتفعين والوسطاء المستفيدين.
ومع بهوت هذه البدعة استنبطت آلة الاعلام الكنسية الموحدة ادعاءً جديدًا يفيد بأن معظم تلك الصفقات تمت على عقارات وأراض موجودة داخل “الخط الأخضر” أي في أراضي ال ٤٨ حيث لا ولاية سياسية لفلسطين ولا للأردن عليها !
ومرة أخرى لم تستسغ المؤسسات العربية الوطنية والمسيحية تلك الفذلكة الخطيرة فكل أراضي الوقف المسيحي هي جزء من الهوية ومن الوطن، وهي بدون شك إحدى دعائم الوجود العربي المسيحي المشرقي الأصيل في فلسطين التاريخية منذ كانت البشارة في الناصرة والعرس في قانا والكرازة في بحرالجليل/ طبريا، وعليه فمن يتنازل عن دوار الساعة في يافا العربية يتكامل في الواقع مع أصحاب نظرية “المحو والإحلال” الصهيونية، ومن يبيع شاطيء بحيرة طبريا لشركة تجارية يهودية يطعن خاصرة المسيح ويُبكي “مرايم” الجليل الأبية، ومن يتخلى عن كبد “الطالبية” ويقطع ذراعي “مأمن الله” يعرّض القدس للضياع ولطمس الهوية. فلماذا فرطتم بالأرض وضيعتم كواشين ميلاد القضية؟
تصوروا مثلًا لو توجهت “اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس” في فلسطين إلى ثيوفيلوس ورجالاته وطالبته بأن يحكر جميع ما بيع في تلك الصفقات إلى شركات تنشئها السلطة الفلسطينية وتسجلها وراء البحار، ويتم تكليفها برعاية الأملاك على أن تدفع مقابل ذلك للكنيسة ما تستحقه بالفعل وتبقي الاملاك وقفيات وممتلكات وطنية محمية.
كم كان تنفيذ ذلك سهلًا، لو توفرت النوايا وتم التخطيط لها ولو لم يتعاملوا مع هذه القضية “كلقيطة”ومع العقارات المسيحية “كزوائد دودية” وحمولات أضافية.
وطن يباع ويشترى، فهيا للعمل، وحدة وطنية وأجماع عربي أرثوذكسي،
مع كشف المزيد من الصفقات ضعفت حجج البطركية الواهية أصلًا . معظم المؤسسات الأرثوذكسية ومعها معظم القوى الوطنية الفلسطينية استفزت وتنادت إلى مدينة المهد حيث اجتمع المئات من أبناء فلسطين تحت راية الشعار الذي أعلن أن “قضية الأوقاف المسيحية هي قضية هوية وتراب ووطن ” فعادت إلى سماء بيت لحم نجمتها وعلا الصوت مؤكدًا ” موطني، موطني، لا نريد ذلنا المؤبدا، وعيشنا المنكدا، لا نريد، بل نعيد مجدنا التليد، موطني..”. وكان المؤتمر والميلاد وطنيًا والعهد وليدًا.
لقد توقعنا أن تشتد هجمة المتورطين في تلك الصفقات، خاصة وقد تكشفت معلومات جديدة شملت مواقع في أراضي ال ٦٧، وعلمنا بأن المسؤولين في الكنيسة وأعوانهم يستعينون بجهات مهنية متخصصة بحملات الدعاية والتشويه الاعلامي، وعرفنا أنهم نجحوا باستخارة بعض من ابتعدوا عنهم وضموهم جنود تعزيز ودفعوا بهم إلى صدارة المواجهة وقاموا مجتمعين بتعليل تلك الصفقات بعد انكشافها بأنها ابرمت مع جهات عربية وذلك في محاولة للتعتيم على ما سبقها من صفقات تفريط، ومتغافلين عن تبعات هذه البيوعات لشركات مجهولة المالكين ومسجلة وراء البحار أحيانًا، وأحيانًا لشركات قد تكون مملوكة لجهات عربية “نظيفة” حسب ما صرح به بعضهم.
فالمشكلة كما قلنا مرارًا، تبقى بما قد يتبع عمليات “الخصخصة” والبيع لصالح أفراد وتغيير مكانة العقارات القانونية واسقاط صفة الوقف عنها وتحولها إلى مجرد أجسام تجارية خاضعة لشروط ومعطيات السوق وقوانين الربح والخسارة، فمن يشتريها اليوم قد يضطر أو يختار بيعها غدًا، واذا كان المشتري اليوم هو زيد أو عمر فقد يصير غدًا شلومو أو بنحاس، لأن للسوق إغواءات وللتجارة ضرورات، وأصحاب المال قلّابون وطمّاحون/ طمّاعون، و”غدهم بظهر الجيب والغيب”، ولنا في مثل صفقات البطركية هذه تجارب وعبر وأوجاع .
لقد اشتد الخناق الوطني على من قاموا بهذه الصفقات بعد أن غدت الظاهرة واضحة المعالم والبيوعات صارت شواهد على نزيف قاتل، واذا ما حيّدنا العناصر السياسية المرافقة لهذه القضية وتداخلاتها وتأثيراتها المتفاوته حسب أصول منشئها ومواقعها المختلفة، فسنجد الجميع يشجبون البيوعات ويدينونها وهذا يشمل موقف معظم المؤسسات الوطنية والمسيحية العربية، بما فيها “اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس” التي وإن اختلفنا مع بعض مواقفها المعلنة ونصوص بياناتها، إلا أننا نعرف أنها عبّرت عن إدانتها لجميع صفقات البيع وطالبت المسؤولين عنها في البطركية بضرورة العمل على ابطالها واستعادة الأملاك.
اذا لم تستح ولم تخف فتبجح كما تشاء،
في هذه الأجواء شهدنا قبل يومين خطوة تصعيدية غير مسبوقة قامت بها رئاسة البطركية المقدسية، وذلك حين نشرت بيانًاخطيرًا مليئًا بالتلسن على جميع القوى الوطنية والفعاليات الشعبية والملية والشخصيات التي شاركت في مؤتمر بيت لحم معتبرة جميعهم أصفارًا ومدّعين ! لأن “ما سمي تضليلًا المؤتمر الوطني العربي الأرثوذكسي في بيت لحم بداية الشهر الماضي لا يمثل سوى من نصّب نفسه عدوًا للأرثوذكسيين ومن تم تضليله …” ثم أتبعت ذلك بالتهجم بلغة مستفزة وغير معهودة على قامة من قامات الحركة الوطنية الفلسطينية وقائد فلسطيني تاريخي فيعلنون مقرّعين به ومؤكدين أنهم “وبعد مراجعة الجهات الرسمية الفلسطينية حول تصريحات السيد محمود العالول في الشأن الأرثوذكسي تبين أن ما صرّح به المذكور وما لحقه من تصريحات له بالشأن الأرثوذكسي لا يمثل أي موقف رسمي فلسطيني وأن استخدام العالول لمنصبه للتعبير عن آراء شخصية مغايرة للموقف الرسمي الفلسطيني هو أمر مرفوض من طرفنا هذا مع احترامنا لحقه بالتعبير عن مواقفه الشخصية وإن كانت مضلله وبعيدة عن الحقيقة..”
هل يوجد أكثر من هذا بجاحة وتماديًا مرفوضًا، فنائب رئيس حركة “فتح” والعضو في لجنتها المركزية يُتهم باستغلال منصبه السياسي كي يضلل مئات الشخصيات الوطنية الوافدة من أرجاء فلسطين، ويصبح عند تجار العقارات مجرد “المذكور” ومواقفه الوطنية المعارضة لبيع أجزاء من الوطن تعتبر في هذا الزمن العربي العاقر “مرفوضة ومضللة” .
أخالني أننا نعيش ” في زمن علا قدر الوضيع به” ولولا حرقة الوجع لضحكت مع “ابن الرومي”، لكنني أصرخ معكم ومن عجب: فلقد هزلت.
بالمقابل، قد تكون هذه الوقاحة السافرة ناتجة عن استشعار من نفذوا تلك البيوعات بأن فلسطين هذه المرة لن تُشترى “بخمسة قروش” ولن تسامح ولن تنسى، فسجل العقارات محفور في الذاكرة وفي النذور، والتاريخ كفيل بفضح كل من كان شريكًا وتأبط أموال الوقف وهو “مسعود”، وأحفاد الرعاة صحاة ومؤمنون بتعاليم أجدادهم، فللوقف “رب” يثأر له ويحميه، ومن يعتدي عليه يعش متعوسًا ومال الوقف لن يغنيه، وأما الوطن فالكرام تذودًعنه وتبنيه، وأبناؤه، كميشيل ومحمود، بالغوالي تفديه.