لا للشرطة، لا للعنف، فما الحل؟
تاريخ النشر: 25/11/17 | 9:35تم يوم الثلاثاء الماضي افتتاح مركزين لشرطة إسرائيل في بلدتين عربيتين داخل إسرائيل وبحضور رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الداخلي جلعاد أردان وروني الشيخ قائد عام الشرطة الإسرائيلية. ابتدأت الاحتفالات في قرية جسر الزرقا الواقعة على شاطئ المتوسط ، جنوب مدينة حيفا، حيث شارك إلى جانب رئيس مجلسها المحلي ضيوف وشخصيات برز في مقدمتهم رؤساء مجالس أخرى حضروا ليحيوا الحفل ويعبروا عن دعمهم للخطوة رغم أنها لاقت معارضةً خافتة في بعض الأوساط المحلية ومن آزرهم من محترفين حزبيين أو قلة من نشطاء في حركات سياسية ودينية ومؤسسات جماهيرية أعلنت معارضتها لمخطط الوزير أردان بفتح أكثر من عشرة مراكز للشرطة في مواقع عربية وتجنيد أكثر من ألف عنصر جديد ينضافون إلى الأعداد التي تخدم في جهاز الشرطة وحرس الحدود ومصلحة السجون، علاوة على الجنود المجندين في الجيش الإسرائيلي.
من جسر الزرقا انتقل الموكب إلى قرية كفركنا، قانا الجليل، وفيها اعيدت نفس المراسيم وكيلت الوعود والتبريكات أمام من حضروا، فإلى جانب رئيس مجلسها برزت وجوه عديدة وعدد من رؤساء مجالس وبلديات عربية جاءوا متضامنين ومهنئين من مدن وقرى قريبة وبعيدة على حد سواء.
ومثلما حصل في قرية جسر الزرقا تكرر مشهد المظاهرة التي شاركت بها أعداد من الأهالي ومعهم نشطاء سياسيين وقفوا معلنين رفضهم “لتدنيس تراب البلدة” ومعارضتهم لإقامة مركز شرطة فيها.
أسدلت الستائر وانفض المحتفلون والمحتجون وانقضى فصل آخر في “مشوار” الجماهير العربية الغارقة في بحور من الالتباس وعشوائيات القيادة وفوضاها المحبطة.
قبل تفاعل قضية فتح مراكز الشرطة الإسرائيلية في قريتين عربيتين وَمَض على شاشات مجتمعنا العربي خبر يتعلق بنشر نائب رئيسة المحكمة العليا سعادة القاضي العربي سليم جبران مسوغات قراره “الاشكالي” في مسألة شرعية الاستيطان الإسرائيلي و”حقوق” المستوطنين اليهود في السكن والمأوى على الأراضي الفلسطينية المحتلة .
في الواقع لم ولن يعلق من هذه القضية رذاذ كثير على شبابيك الحدائق العامة ومراكز الأحزاب والمؤسسات المدنية وصناع القرار العرب، فباستثناء بعض التغريدات الخاطفة عند سريعي “التعمشق” على الحيطان الفيسبوكية وما تتيحه فضاءاتها من نطنطة حرة تعفي أصحابها من أثقال الجاذبية والغوص العميق في لب المواضيع المتفاعلة، لم تستثر هذه القضية عناية الأكثرية، وسوى قلة قلية انتبهت وحسمت أن البلاء ليس وقفًا على قرار القاضي جبران، من دون اعفائه من وزر ما أقره، بل هو أعمق وضارب في بنى القانون الإسرائيلي وما سمي “محكمة عدله العليا”.
في الهواء سيبقى صدى طنين من حاولوا صفع وجه القاضي جبران معيرينه ومخونينه حتى من دون أن يقرأ معظمهم ما كتب، بينما ستبقى المأساة في أن “ساقية” القضاء الإسرائيلي ستستمر تدور ” كالقدر” وتستل دلاءها من أنهر العتمة ومن غيوم الخديعة، فهي، ومنذ أن أقحمت نفسها في شؤون الاحتلال و”حقوقه وواجباته” تعمدت أن تكون اداة لتسويغ موبقاته وشرعنة ظلمه للفلسطينيين وكانت في الواقع مقلعًا لذر رماد “الكوانين” في عيون الفلسطينيين والفقهاء القانونيين والمجتمع الدولي! فالقضية كانت وستبقى “القضاء” الإسرائيلي وليس القاضي فلان!
لن أتعاطى مع القرار من وجهة نظر حقوقية ولن أتطرق لمضمونه وبُنيته، فهذا سأقوم به لاحقًا في مقالة أخرى، لكنني ساستقدم اللاحق وأقول بعيدًا عن مقاصده وما أفضى اليه عمليًا قراره في القضية العينية، أنه أخطأ بحق نفسه أولًا، وبحق مفهوم العدل الإنساني وبحق حكمة تاريخ الشعوب المظلومة التي رفضت أن يصبح الجلادون أصحاب “رواية” وموقف يستدرون به “عاطفة” من كان يجب أن يبقى كما كان “سليمًا” رافضًا الشر كصاحب الرمح “جبران” .
كثيرون من السياسيين يؤثرون تسفيه ما جرى في جسر الزرقا وكفركنا أو تهميشه، لكنني أنصحهم بأن يراجعوا ما شاهدناه في الاحتفالين ويقيّموا حضور هذا العدد من رؤساء المجالس والبلديات العربية وبعضهم كان قد انتخب وهو مدعوم من قبل تلك الأحزاب والحركات السياسية والدينية الرائدة والبارزة بين الجماهير العربية.
من الجدير كذلك متابعة ما قاله الرؤساء في خطبهم، خاصة في ضوء غياب موقف مغاير من لجنة الرؤساء العليا والتي تعتبر الضلع الثالث في مثلث القيادة المكون من” اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية في إسرائيل” و”القائمة المشتركة” و”اللجنة العليا لرؤساء البلديات والمجالس العربية”، فاغفال هذا الواقع هو بعينه أحد المسببات للبلبلة السائدة والخيبة ولا أريد أن أقسو أكثر .
من الحاضرين في احتفال جسر الزرقا كان رئيس مجلس قرية “الفريديس” الذي أعلن موقفه من اقامة مركز للشرطة في بلدته قائلًا: “باعتقادي وهذا هو الواقع أن مطلب خدمات الشرطة هو مطلب الجمهور والمواطنين، مجتمعنا العربي يعاني من آفة العنف واطلاق النار الحي وظواهر اجتماعية صعبة وحوادث طرق دامية الأمر الذي يتطلب تدخل الشرطة..” مع أنه لن يطالب بفتح مركز في بلده لأن مركز شرطة زخرون يعقوب لا يبعد أكثر من كيلومتر واحد عنهم، إلا أن تصريحه كان لافتًا ويكشف عن مكنون واقع تلك البلدات.
من السهل تفنيد ما جاء على لسان رئيس مجلس الفريديس والذي عبر في الحقيقة عن معظم زملائه في الحاضر والماضي؛ ففي كثير من المدن والقرى العربية افتتحت مراكز شرطة قبل سنين دون أن يثير ذلك عاصفة ومعارضات مثلما هو الحال اليوم.
سجل الشرطة الإسرائيلية حافل بالفشل وبعضه خبيث ومتعمد وتاريخها ينضح قمعًا ورصاصًا ومفاهيمها التي تؤسس تعاملها مع الجماهير العربية معطوبة ومبنية على استعداء الجماهير، وكل ذلك واضح ومثبت، لكنه غير كاف لتبرير عزوف القيادات العربية ورفضها تلمس امكانيات كسر هذه القلائد الخانقة؛ فمن واجب القيادات المسؤولة ايجاد الحلول والمخارج لضائقات المجتمع خاصة والناس ترزح تحت وطأة العنف المستشري وفقدان مشاعر الأمن الشخصي والسلم المجتمعي في حين تقاطع قياداتنا السياسية جهاز الشرطة وترفض التعامل معه مما يترك حالة من الفراغ المحبط والضياع المخيف بين الناس.
في هذا الواقع يسأل المواطن البسيط ما الحل؟ ويسأل كذلك منتخبو أولئك المواطنين، كما سمعنا من رؤساء مجالس كثيرة، ما الحل؟
وصل وضع المواطنين في القرى إلى حد تخاف فيه الضحية ان تشتكي الفاعل والمتجبر، لان الشرطة غير موثوقة وغير مؤتمنة، وحاضنات المجتمع الحامية قد تفككت وتقطعت أحزمة أمانه، وفي حاراتنا غابت المظلات السياسية الواقية والهويات الجامعة وصارت القيادات التي لا تخشى ولا تقامر ولا تتملق مواضيع للتذكر والقصيد.
في تصوري نحن أمام مشهدين مرتبطين عضويًا وأن بديا عكس ذلك فالموقف من الشرطة ومكانة القاضي العربي في المحكمة العليا هما حالتان اسميتهما في الماضي “ديليمات-معضلات” وطنية طارئة، وهي مسائل/عقد وجودية أفرزتها حياتنا كجماهير عربية تعيش في دولة ترفض هضم وجودنا الطبيعي من جهة، ومن جهة اخرى تتصرف معظم قياداتنا بهدي نزعة انفصالية عن الدولة وأجهزة الحكم فيها وترفض تطوير أي عقد إجتماعي سياسي معها حتى ولو مؤقت.
هنالك حالة من “الهدنة الخبيثة” بين الفرقاء؛ فالدولة تشعر بنوع من “الراحة” وهي تتعامل مع مواطنيها العرب كأنهم على أهدابها عالقون “كالقذى” فتهمله حينًا وتداريه أحيانًا وتتحين الفرصة للتخلص منه لتستعيد كامل “النظر”، وبالمقابل، تتصرف معظم القيادات التي تنزع إلى انفصالية مطلقة بحكمة التقية والتستر والايمان بأن إسرائيل ليس أكثر من كيان هش وعثرة عابرة أو ندبة على ظهر الزمن لن تصمد في وجه الرياح وحجارة السماء الحتمًا آتية!
في هذا الواقع نشأت معاضل لم تواجه وعقد لم تفكك ولم توضع لها الحلول، فالقيادات تعارض فتح مراكز شرطة لكنها سكتت لعقود حين كان الشباب يتجندون لصفوف هذه الشرطة وحرس الحدود ومصلحة السجون وجميع فروعها الاخرى، والقيادات طالبت بحصة الجماهير العربية في جميع الوظائف العامة لكنها تغافلت عن الإجابة ماذا يشمل ذلك؟ فهل سلك القضاة مثلًا مشمول والشركات الحكومية والمؤسسات الادارية والوزارات الاقتصادية وما مثلها؟
لقد تساءلت منذ سنوات هل تؤيدون انخراط الشباب في وزارة العدل، كما بدأنا نشاهد؟ حتى وان تدرجوا إلى أعلى المناصب! أو في بنك إسرائيل أو مكتب الضرائب والجمارك؟ وهل يجب أن يقاطع الفلسطينيون المحكمة العليا أم نطالب بأكثر من قاض عربي فيها؟ أو هل نطالب ان يكون مراقب الدولة عربيًا أو نكتفي بنائبه؟ او نقاتل من أجل عربي يسكن مكتب مدعي الدولة أو نائبه؟ وماذا مع مدراء الألوية والمفتشين وسياسة وزارة المعارف؟ هل يجب أن نمنع عربي يعمل كرئيس قسم في مستشفى حكومي ان يرأس وفد إسرائيل لمؤتمر دولي ونحن نعرف كم وكيف ستستغل الدولة هذه “اللفتة” لتثبت للعالم حدود ديمقراطيتها؟ هل يجب أن يرفض بطل رياضة عربي المشاركة في دورة العاب أولمبية لأنه سيهدي انتصاره للدولة واقفًا ينشد “هتكفا” تحت العلم؟
أسئلة كثيرة طفت مع السنين وبقيت في مهب الحيرة والضباب، فلقد سألنا ولم نسمع جوابًا وقلنا أنها “معاضل” سنواجهها وستعصف بكياننا، وقد حان الوقت للوقوف عندها، فبعد سبعين عامًا لم نعد أقلية مقيمة على ضفة واد وسفح رابية منسية، وإسرائيل لم تهزمها الرمال والصلوات والرياح، وإذا ما فككنا شيفرة هذه المسائل، سنكتفي بالهتاف مجددًا عند كل هفوة قاض قاصر لأنه يعمل من بطن الحوت، ونعلق عليه خيباتنا وأوهامنا . وان لم نجد حلًا لأمن مجتمعاتنا وسلامة أبنائنا سيبقى المواطنون قلقين وحيارى ويركضون وراء أحبال نجاة حتى اذا كانت مجدولة من وهم أحمر وسراب ليلكي وأمل أزرق !
يتبع
بقلم جواد بولس