عندما زلّ شوقي
تاريخ النشر: 29/11/17 | 8:40سأتحدث عن أحمد شوقي القامة الشامخة في أدبنا العربي، عن أمير الشعراء بحق وحقيق متوقفًا
عند بعض أخطائه، وسألمّه على شعَث.
إذ كيف يصل الحال بشوقي إلى أن يمدح الاستعمار الإنجليزي، فيهبط من سمو الإشراق إلى هاوية النفاق.
قبل أن أذكر لكم بعضًا مما أراه مأخذًا أؤكد أن له وطنيات كثيرة، ولن نعِدم في شوقي طاقته الإبداعية والوطنية، فمن منا ينسى سينيته التي يقول فيها:
وطني لو شغلت بالخلد عنه *** نازعتني إليه في الخلد نفسي
ومثل ذلك كثير.
..
قلت سأتوقف على ما أنكره فيه، وما كان أغناه عنه!
يخاطب شوقي قاضي محكمة دنشواي، وهو قاض مصري عمل في خدمة الإنجليز، فيقول وهو يرفض حكمه الجائر:
لو كنتَ بعض الإنكليز قبِلتكم *** ملكًا أقطّع كفّه تقبيلا
فلماذا هذا القبول والاستخذاء من سيد إنجليزي مستبد؟
..
في قصيدته اللامية التي مطلعها:
المُلك فيكم آل إسماعيلا *** لا زال بَيْتُكُمُو يُظِل النيلا
شوقي يهنئ السلطان حسين كامل الذي تولى العرش بحماية الإنجليز، فيمدحهم وهم الذين خلعوا ولي نعمته عباس، و جاءوا بحسين سلطانًا مكانه على مصر، فيعتبر عمل الإنجليز هذا خدمة لمصر و حفاظًا للوائها، و يشبههم بالمسلمين الأولين، كما يسميهم- الأحرار العادلين:
الله أدركه بكم وبأمة *** كالمسلمين الأولين عقولا
حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم *** أرقى الشعوب عواطفًا وميولا
أعلى من الرومان ذكرًا في الورى *** وأعزّ سلطانًا وأمنع غيلا
لما خلا وجه البلاد لسيفهم *** ساروا سِماحًا في البلاد عدولا
فشوقي يعتبر الإنجليز كالمسلمين الأوائل، ومن يدري، فربما يقصد الصحابة، وهم “حلفاؤنا الأحرار”، وهم أشهر من الرومان، فأيديهم بيضاء على مصر، والسماحة والعدالة دينهم وديدنهم، وها هم يأتون لمصر بحسين كامل:
وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها *** ملكًا عليها صالحًا مأمولا
جرى ذلك بعد أن أعلنت الحماية على مصر في يوم 18 من ديسمبر 1914، وفي يوم 19 من ديسمبر خُلع عباس عن العرش ووُلي السلطان حسين كامل، وقد قوبل تسنمه العرش في مصر بسخط شعبي وهيجان.
(عبد الرحمن الرافعي: ثورة سنة 1919 ج1، ص 20).
…
من النفاق للإنجليز كذلك نقرأ لشوقي في مطلع همزيته لشكسبير:
أعلى الممالك ما كرسيّه الماء *** وما دِعامته بالحق شماء
ودولة لا يراها الظن من سعة *** ولا وراء مداها فيه علياء
وكان ودهمُ الصافي ونصرتُهم *** للمسلمين وراعيهم كما شاءوا
..
وثمة نصوص أخرى في إطراء الإنجليز تجدها في (الشوقيات المجهولة).
..
من المآخذ على شاعرنا كذلك- أنه هجا عرابي باشا وثورته التي قام بها ضد الإنجليز والخديوي، فهم في نظره “العصاة”، وفشل الحركة العرابية “نصر من الله”، فيحمل على أحمد عرابي و يعده خائنًا :
صَغار في الذهاب و في الإياب * * * أهذا كل شأنك يا عرابي
..
من هنا لم يرثِ شوقي أحدًا من رجال الثورة، وحتى الشاعر البارودي الذي سار وفق رؤيته الشعرية في كثيرٍ، ولم يرث الإمام محمد عبده وهو على مكانته المرموقة- اللهم إلا في ثلاثة أبيات ليست بذات أثر، ذكرها في (الجزء الثالث، ص 33 -دار الكتب العلمية) من (الشوقيات)، بينما رأينا هذا الجزء حاشدًا بمراثي الرجال، وبعضهم ليس له أدنى شهرة.
..
ترى هل كان التحول إلى الوطنية بعد أن انتهى دور إسماعيل وتوفيق وعباس حلمي؟
وقد قال فيهم:
أأخون إسماعيل في أبنائه *** ولقد ولدت بباب إسماعيلا؟
هل بدأ – بعدهم- ولاؤه للوطن، وحنينه الشديد إليه؟
أم لأن المد الوطني هو الذي ساد، فكان التحول طبيعيًا مجاريًا للواقع والمجتمع.
…
ما دمنا في هذه السنوات – العقود الأولى من القرن العشرين، أتساءل:
هل سمع شاعرنا بقضية فلسطين والصهيونية وبوعد بلفور؟
لم أجد في شوقياته ما يشي بذلك.
..
مع ذلك يظل إبداع شوقي وإمتاعه، وتظل عظمته- بمسرحياته، وبموسيقاه الشعرية، بأدبه للأطفال، وبقصائدة على ألسنة الحيوان، وبأناشيده المختلفة، ويظل بذلك أميرًا للشعر وللشعراء.
ب. فاروق مواسي