مدينة النجّار
تاريخ النشر: 24/12/17 | 21:12حيفا –حوريّة البحر- تغرق في هذه الأيام في بحر من المطر والعتمة ، هذه العتمة التي تُلملم أذيالها وتهرب من أمام ضوء المصابيح في الشوارع الرئيسة ، كما يهرب المارّة من زخّات المطر الغاضبة ، فيلوذون برفرفِ دكّانٍ أو يحتمون داخل المحالّ التجاريّة .
وفي الحقيقة ما كان المارّة في هذه الليلة كما في سابقاتها كُثُرا ، فكانون جاء في هذه السّنة مُزنّرًا بالعواصف والأمطار والثلوج ، ممّا جعل النّاس يُفضّلون البقاء في البيوت والانزواء قريبًا من المدافىء ينعمون بدفئها، وبوجبات ساخنة يتناولونها على مَهَل أمام أجهزة التلفاز او الانترنت أو بين صفحات كتاب او صفحات صحيفة يوميّة .
وفي بيت صغير قديم قابعٍ في حارة من حارات هذه المدينة الفاتنة –حيفا- تعيش عائلة صغيرة قدِمَت من روسيا قبل سنتيْن ونيِّف ، عائلة هانئة!! مُكوّنة من أبٍ نشيطٍ يدعى بتروفتش وأمّ جميلة حنون تدعى آنا والطفلة ايرينا التي لم تتعدَّ العاشرة من عمرها ، والتي تفيض نشاطًا وبراءة.
جلست ايرينا الصّغيرة في حضن والدها بقرب المدفأة وراحت تعيد عليه اسطوانتها اليوميّة : انّها تريد ان يُحضر لها كما وعدها في العام الماضي شجرة للميلاد لكي تُزيّنها بالمصابيح الملوّنة والدّمى، وتقيم أمامها مغارة يتوسطها الطفل السّماويّ وحوله الرُّعاة والأبقار والأغنام . انها تحبّ الطفل المضطجع في المذود وتتمنّاه في بيتها تستأنس به كما كانت تحنو عليه بل قل يحنو عليها.
تنهّد الأب للمرّة العاشرة وراح يحاول جاهدًا أن يُقنع صغيرته ايرينا بأنّ الظروف تغيّرت ، وأنّها أكبر منه ، وأنّ الأمر أضحى صعبًا في بلدٍ جاؤوا اليه بصفتهم يهودًا…وهمس الأب قائلا : ” لعن الله الظروف ـ لعن الله الفقر “. صحيح أنّ طفل المغارة يعيش في قلوبهم ، وينام في حناياهم ، ولكن ما العمل والعيون تلاحقهم والألسن تلوكهم ، وسيف الحرمان مُسلّط فوق رقابهم إن هم أظهروا شيئًا من محبتهم ليسوع ..أو بمجرد أن يدخل الشّكّ أو بعضه إلى نفس إنسان واحد يعمل في الوكالة .
وتمرّ في خاطر الأب صورة جورجي هذا المسؤول في الوكالة اليهودية ، الرّوسي الأصل والذي بيده مفتاح الخزنة والسيولة ، فيرتجف ويحاول طرد هذه الصّورة القاتمة من مخيلته.
” يا الهي…ماذا سيفعل بنا هذا ابن جلدتنا لو علم بالأمر ؟ وماذا سيكون مصيرنا في بلادٍ ربطنا بها مصيرنا ؟ ..لا شكّ بأنه سيحرمنا من المًخصصات ، بل قد يغلو فيأمر بطردنا من البلاد ويعتبرنا خدّاعين غرّرنا به وسرقنا أموال دولة اليهود!!
وفي الحقيقة ما أحسَّ بتروفتش مرة واحدة أنّ هذا الموظف شرس غليظ القلب ، ولكن الحكايات التي سمعها من مهاجرين روس في خلال السنتين الماضيتين تؤكد له أنّ هذا الأمر بالذات جدّ حسّاس فالأفضل أن ينساه ، او يتناساه ويزرعه عميقًا في خلاياه بعيدًا عن عيون المتطفلين وحماة الوطن!! ولكن يخفيه وايرينا وحيدته تأبى ذلك، فها هي لم تقتنع ، وأنّى لها أن تقتنع وهي لا تؤمن بالظروف ، فهمّها أن ترى في بيتها شجرة للميلاد مضيئة وكفى..
– أريد شجرة يا أبي قالت ايرينا، أريد مغارة جميلة كما وعدتني في العام الماضي.
وبكت ايرينا بكاءً مُرًّا وبكت أمًّها وهي تحضّر الشاي في المطبخ الصغير، بكت وهي ترجع بذاكرتها الى الوراء، يوم كانت تعيش في كبرى دول العالم، وفي كنف عائلة حميمة الروابط ما انجرفت ابدًا وراء المادّة بل ظلّت ترنّم كل سنة مع الجند السماوي “المجد لله في العُلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة”
مسحت الأم آنا دموعها واما ايرينا فما فعلت بل ظلّت تبكي وتبكي والأب حائر تتقاذفه الأحداث وتتصارع في داخله الأمور.
ونظر الأب الى عينيّ زوجته وهي تأتيه بالشاي فرأى فيهما آثار الدموع فعانقها قائلا: ليكن ما يكون يا عزيزتي ، غدًا في أول حافلة سأنطلق الى الناصرة وآتيكم بشجرة ودمى ومغارة ، وسيعود الطفل السماويّ يزقزق في بيتنا ، ويحبو في بيتنا، ويعيش في قلوبنا .
اسمعتِ يا ايرينا – قالها الأب والتحدّي ملءُ محياه- غدًا صباحًا سأكون في مدينة النجّار ، هذه المدينة التي تتوق إليها نفسي..
فقاطعنه زوجته : والظروف ؟!! وجورجي والمخصصات؟!!
– لا عليكِ يا عزيزتي فالظروف نحن نصنعها ، ونحن نبنيها أحيانًا سدًا ، واحيانًا نهدمها.
ولم تصدّق ايرينا ما تسمع ، انّه يقول غدًا ، ويقول الناصرة ، ألعلّ الناصرة هنا على رمية حجر من مدينتهم وهي لا تعرف؟!..ألعلّ مدينة النجّار في الضّواحي القريبة وهي لا تدري؟!.
التفتت ايرينا الى أبيها والفرح يطلّ من عينيها وقالت : ” أتقول الناصرة يا أبي ، الناصرة بعينها ، الناصرة ايّاها ؟
– نعم يا صغيرتي الناصرة بعينها ، المدينة العتيقة الجديدة ، المدينة التي احتضنت طفولة يسوع فدَرَجَ فيها بمحبّة ، درج في شوارعها وأزقّتها ، الناصرة التي لها في قلوبنا زاوية دافئة .
وأضاءت عينا الطفلة وعادت فَرِحَةً إلى رُكبتي والدها تداعبه بدلال .
– دعني أسافر معك يا والدي ، دعني أعيش طفولة يسوع في مدينته ، في الأزقّة والشّوارع والسّوق ..
وأطرق الأب ولكنه لم يطل ، فما لبث أن رفع رأسه قائلا : ” فكرة رائعة يا حبيبتي ، فكرة تستحقّ التحقيق ، أليس كذالك يا عزيزتي آنا ؟ ..غدًا سنذهب جميعنا إلى الناصرة ، نعم إلى الناصرة .
ولم تنم ايرينا ، ولم تنم آنا ، وظلّت عيونهما مُعلّقة بوميض البرق وبعين العذراء .
لملم الليل حُلكته وغيومه ، وفَرَشَ الفجر على المدينة الحالمة شمسًا ضحوكًا ، تتحدّاها هنا وهناك غيمات صغيرات ، فهبّت العائلة الصّغيرة تُجهّز نفسها لزيارة العائلة المقدّسة ، يحذوها الأمل بميلاد جديد تهبّ معه نسمات سلام منعشة تدفّئ شتاء المنطقة ، سلام بدت ظواهره في قلب كل فرد من أفراد العائلة ، هذه العائلة التي سارت مُيمّمة شطْرَ “ساحة الحناطير ” واستقلّت الحافلة متجهةً نحو الناصرة.
كانت الفرحة عارمة ، رغم جورجي وأشباحه ، وكان للقدسيّة في ضمائر أفراد العائلة وقع وتأثير خاصّةً عندما مرّوا بعين العذراء ودخلوا الى الكنائس العتيقة والجديدة .
وأخيرًا قرّ الرأي على إتمام المهمّة ، فدخلوا الى حانوت جميل للألعاب نُصبت في واجهته الزُّجاجية شجرة ميلاد جميلة، استرعت انتباههم لجمالها وإتقان صنعها.
كان الحانوت كبيرًا واسعًا يعِجُّ بالمشترين من عرب وأجانب ، فتفرّقت العائلة في أرجائه دهشة تسحرها الأنوار والدُّمى والملائكة ، امّا الأب فقد وقف يتحسّس جزدانه …. كيف لا ؟! والمبلغ صغير بالكاد يكفي لشراء شجرة صغيرة وبعض الدّمى ومغارة صغيرة وبعض لوازمها ، ولكن لا بأس ، قالها بتروفتش في نفسه ، لا بأس المهم ان تكون شجرة ، وأن تكون مغارة والأهمّ أن يكون طفل سماويّ .
نادى بتروفتش زوجته وابنته بصوت خفيض ، وأخرج جزدانه وبدأوا يفحصون ويتفحّصون بجدّية الألعاب والدّمى …ولكن يا الله !!! قالها بتروفتش والدهشة تأكله ، مَنْ هذا الذي يتحدّث الرّوسيّة ، أنّه صوت معهود لديه ومعروف …
التفت بتروفتش وأفراد العائلة الى مصدر الصّوت ، وكم كانت دهشتهم عظيمة ، فهذا جورجي بلحمه وشحمه ، يتحدث الى زوجته محاولا إقناعها بأنّ الشجرة تلك أجمل وأروع .
وتلاقت العيون الدّامعة ، وكان عناق ، وكانت دعوة من جورجي لبتروفتش وعائلته للاحتفال سوية بعيد الميلاد المجيد بعد أسبوع في بيتهم في الكرمل.
وتناولت العائلة الصغيرة طعام الغداء في الناصرة بفرح غامر، وظلّ السؤال المحيّر يرن في رؤوسهم وهم يودّعون الناصرة ، …من دفع ثمن الشجرة ولوازمها؟ ولماذا رفض البائع ان يدفعوا شيئًا ؟!..اتراه هو الذي وقف هو وافراد عائلته على باب الحانوت يلوّحون بحرارة ..؟ …أتراه……..؟ّ!!
بقلم : زهير دعيم