قراءة الشعر في بداية خطبة الحجاج
تاريخ النشر: 27/12/17 | 13:40استشهد الحجاج في بداية خطبته لأهل الكوفة حين ولي العراق سنة 75 هـ بشعر يخفى معناه علينا اليوم، وخاصة في الرجز الذي ألقاه، وقد بعدت بيننا شقّة اللغة والزمان.
ويبقى السؤال: ما نسبة المتلقين آنذاك الذين فهموا المعنى بحذافيره، بعد أن كانت الجملة النثرية كافية لتوضيح المراد، وهل كانوا يستمعون إلى لغة أخرى غريبة؟
لأقتبس بداية الخطبة الشعرية المتلاحقة من كتاب المُبَرّد- (الكامل في اللغة والأدب، ج1، ص 309- دار الجيل، وكذلك من (جمهرة خطب العرب) لأحمد زكي صفوت، ص 289:
لما رأى الحجاج عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض وقال:
أنا ابن جَلا وطلاعُِ الثنايا *** متى أضعِ العِمامة تعرفوني
يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق.
هذا أوانُ الشدِّ فاشتدي زِيَـمْ *** قد لفَّها الليل بسوّاق حُطَمْ
ليس براعي إبلٍ ولا غنمْ *** ولا بجزارٍ على ظهر وَضَم
قد لفّها الليلُ بعَصْلَبِيّ *** أروعَ خرّاج من الدَّوِّيّ
مهاجرٍ ليس بأعرابيّ
قد شمّرتْ عن ساقها فشُدّوا *** وجدَّتِ الحربُ بكم فجِدّوا
والقوس فيها وتَـرٌ عُرُدُّ *** مِثلُ ذِراع البَكرِ أو أشدُّ
لا بدَّ مما ليس منه بُـدُّ
أما المطلع “أنا ابن جلا وطلاع الثنايا…” فهو للشاعر المخضرم سُحيم بن وَثيل الرياحي (انظر: الأصمعيات، ص 3)، فقد قاله الحجاج متمثلاً.
وقوله: “ابن جلا” كناية عن الرجل الذي يجلو الأمور- الذي لا يخفى مكانه لشرفه، و”وطلاع الثنايا” جلْد مغالب للصعوبات، فالثنايا: جمع ثنِيّة بمعنى الطريق في الجبل. وإنما أراد به أنه جلد يطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها، كما قال دُرَيد بن الصِّمّة في أخيه عبد الله:
كَميش الإزار خارجٌ نصف ساقه *** بعيد من السَّوءات طلاع أنجد
والنجد: ” ما ارتفع من الأرض.
وقد أتيت على شرح هذا البيت، ومعنى (أضع العمامة) في كتابي (دراسات أدبية وقراءات بحثية، ص 170)، ونشرت ذلك في عدد من المواقع. (البحث في غوغل ما يلي: ابن جلا فاروق مواسي)، فليعد من يريد أن يستقصي.
أما الجمل النثرية التي كانت بين بيت الشعر والرجز، فكانت في صورة حسية تصويرية مريعة:
“إني لأرى رؤوسًا قد أينعت…” ، والمعنى مستفاد من الآية- {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينََعه}- الأنعام 99.
لاحظنا التدرج في التخويف، فبعد الرءوس التي يراها يانعة يقول” مصعّدًا لهجة التهديد- “وحان قطافها”، ثم يصل الأمر إلى الجِدّ “وإني لصاحبها”، فإلى الذروة في قوله التهويلي التصويري: “وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق”.
ثم بدأ يقرأ الرجز الرصين في ألفاظ كأنها صخور تتهاوى، والرجز هو لرُوَيْشِد بن رُمَيض العنبريّ ( العَنَزِيّ- في الأغاني، ج 15، ص 246- دار الفكر. وهناك من نسب الرجز للحُطَم القيسي أو لأبي زُغُبة الخارجي- انظر “لسان العرب- مادة “وضم”)
هذا أوان الشد فاشتدي زيم: ففي ساعة الحرب اشتدي يا زيَم – أي الفرس أو الناقة -وقيل إن فرسه تدعى زِيم-، وقيل إن اللفظة اسم للحرب. أما الشد فهو العدْو.
وقوله:
قد لفّها الليل بسواق: أي جمعها الليل بمن يسوق الحرب خبير بها، وهو حُطَم،
والحطم= هو الراعي الظلوم للماشية،الذي لا يبقي من السير شيئًا، كما يقال للنار التي لا تبقي- حُطَمةٌ.
هناك شرح آخر:
“سواق حطم” ورد في شرح (العقد الفريد) لابن عبد ربه ج 4، ص 120 أن الحُطَم لقب لشُرَيح بن ضُبَيعة، وكان غزا اليمن فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كِنْدة [….] ثم جعل الحطم يسوق أصحابه سَوقًا عنيفًا حتى نجا بمن بقي معه، فقال رويشد هذا الشعر، فلُقب شريح الحُطَم بسبب قول رويشد فيه”- انظر كذلك (الأغاني، ج 15، ص 246- دار الفكر، حيث يذكر اسم الشاعر: رُشَيْـد بن رُمَيض) لا (رويشد).
ثم وصف الفارس الذي هو ليس براعٍ، فهو ليس صاحب مهنة، وليس جزارًا: “على ظهر وضم” ، فالوضم: كل ما قُطع عليه اللحم (نسميها في لهجتنا- قَرْطة)، فهو إذن قليل الشأن .
وقوله :
قد لفها الليل بعصلبي- أي شديد باقٍ على المشي والعمل. وأروع- أي ذكي وشجاع.
والضمير في “لفها” للإبل أو للحرب، أي جمعها الليل بسائق شديد، فضربه مثلا لنفسه ورعيته .
وقوله: “خرّاج من الدَّوّي، يقول: يكثر الخروج من كل غمّاء شديدة. أَراد أَنه صاحب أَسفار ورِِحَل فهو لا يزال يَخْرُج من الفَلَوات، ويحتمل أَن يكون أَراد به أَنه بصير بالفَلَوات، فلا يَشْتَبه عليه شيء منها.
(يقال للصحراء دَوِّيَّة، وهي التي لا تكاد تنقضي،وهي منسوبة إلى الدَّوّ، والدوّ: صحراء ملساء لاعلَم بها- أي لا جبل ولا أمارة).
إن هذا الفارس مهاجر يعني أنه خرج من البدو إلى المدن، وهو صاحب تجربة، بينما الأعرابي يقصد به الغِرّ الذي لا خبرة له.
“شمّرت عن ساقها” كناية بمعنى- استعدت لخوض المعركة.
أما القوس ففيها وترعُرُُّد أي شديد مثل ذراع البَكْر.
البَكر هو الفتيّ من الإبل، فذراعه فيه توتر لقوته.
وقوله “لا بد مما ليس منه بد” أي لا محيد عنه، ولا بد منه، فالمسألة لم تعد “مزاحًا”.
والحجاج في هذه الأوصاف كأنه يرى نفسه، فهو يهدد ويوعد.
ب. فاروق مواسي