قراءة في كتاب “كيف تولد المخرّبة وكيف تموت”
تاريخ النشر: 28/12/17 | 14:27“إن للترجمة دورًا هامًّا جدًّا وضروريًّا في عملية التثاقف بين الشعوب المختلفة، وهي بمثابة وسيلة للتفاعل مع الآخر الذي يتكلم لغة أخرى… هي وسيلة للتواصل ولبناء علاقات إنسانيّة سليمة، وأعتبرها جسرًا يربط بين الشعوب والفئات ويقرّب بينها، فهي تؤدي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة… وعلى المترجم التعرّف إلى قيم وعادات وتقاليد وأنماط سلوكيّة، وعقليّة متحدّثي اللغة” هذا ما كتبه صديقي د. نبيل طنوس في مقالة له بعنوان “دليل المترجم من طاولتي”.
تزامن نشر المقالة مع قراءتي لكتاب ترجمَهُ عن اللغة العبريّة الكاتب أمين خير الدين بعنوان “كيف تولد المخرّبة وكيف تموت” ( يشمل 51 نصًا مُتَرجَمًا لمقالات جدعون ليفي في 333 صفحة ، لوحة الغلاف عبارة عن جداريّة في مخيم جنين قام بتصويرها المصوّر التقدّمي أليكس ليباك ومرفقة لنص بعنوان “مخيم جنين رفع العلم الأبيض”، صدر عن “مكتبة كلّ شيء” الحيفاويّة، وتم إشهاره يوم الخميس 19.10.2017 في نادي حيفا الثقافي).
جدعون ليفي صحافي إسرائيلي يكتب مقالة أسبوعيّة وينشرها في جريدة هآرتس العبرية، يكشف الوجه القبيح للاحتلال المقيت، وبُطلان شرعيّته، فُرِضَت عليه حراسة شخصية نتيجة تهديدات بالقتل بعد نشر مقالاته الجريئة ضد العدوان الغاشم على غزة، يصوّره اليمين الصهيوني على أنه يكره إسرائيل، بينما يستمد مواقفه من الميدان، فمقالاته موثَّقَة بشهود عيان، وبصور الكاميرات، وشهادات الضحايا أو أهاليها، ينقل من قلب الحدث، من الحواجز وعبرِها، من الأزقّة وعتبات البيوت، فهو صحافي ميداني وليس صحافي مكتبيّ أو بلاط، يقف في وجه الاحتلال كمن يقف بوجه الريح، ويدخل قلب العاصفة بجرأة صادقة وإنسانيّة ليصرخ في وجه الاحتلال : احمل عصاك وارحل… عن أرض اغتصبتها وليست لك!
كتب جدعون ليفي مقالاته خلال مدّة تزيد على عشرين عامًا، وكأن شيئًا لم يتغيّر، والأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، وصوّر الوجه الحقيقي للاحتلال، والمحتلّ، فكتب مقالة بعنوان “اسرائيل لا تريد السلام” -فاتحة الكتاب- ليميط اللِّثام عن الوجه الحقيقي لإسرائيل وحُكّامها.
وكتب عن عنجهيّة جنود الاحتلال وقادة قوّاته عبر مقالاته : “الأشرار للطيران”، “اتبعوني، إلى القتل”.
وكتب عن عنصريّة قادة دولة الاحتلال وصحافيّي البلاط : “الموت للعرب”، “يا أعضاء الكنيست العرب، اذهبوا إلى بيوتكم”، “نصيح إسرائيل يكذب”، “محمود درويش باق فينا ما حيينا”، “نعم، دولة شر”، “العرب ليسوا أقليّة” ، “ناكرو النكبة”، “نتنياهو مُحِقٌّ. إلى حيث ألْقت رَحْلَها”، و”رجل سلام؟!”.
وكتب عن حالات الإعدام والقتل بدم بارد وفضحها : “مِمَّ مات رائد الجعبري”، “جنازة عيسى بدلا من زواجه”.
وحالات التشويه وإطلاق النار دون مبرّر “أربع رصاصات خاطئة، وصفر اعتذار”.
والاعتداء على الأطفال واغتصاب طفولتهم وسلبها : “عاد حمزة إلى البيت”، “إسمي عبّود. قتلني جندي إسرائيلي”، “كيف تولد المخرّبة وكيف تموت”، “هكذا قُتِلت، بلا سبب، طالبة دورة التجميل”،” التمر والقهوة السّادة للمحزونين على الطفلة التي قُتِلت بهكذا سهولة”، “دُفِن الطالب المتميّز بعَلَمَيْن”، “حيوانات آدميّة، قَتَلَةُ أطفالٍ”، و”180 طفلا”.
و”عدالة” القضاء الإسرائيلي وتشويه الحقيقة ومحاولة طمسها : “إثنان من نفس القرية”، “من السجن إلى المعتقل، بلا محاكمة أو تفسير”.
والتنكيل بالفلسطينيين وظاهرة العقاب الجماعي : “المشرّدون الجُدُد”، “الأب في السجن، الأم في غزة، الأولاد في الضفة الغربية، عائلة دوابشة مشردة”، ” في الثالثة صباحًا، فجّر الجنود الباب وافرغوا البيت” ، و”إجراءات وزارة الأمن في تمزيق العائلات تزداد قسوة”.
يؤمن جدعون ليفي أن إسرائيل لن تنهي احتلالها للضفة وغزة إلا بعد تسديدها ثمنه وبضغط دولي، على غرار ما تعرضّت له جنوب أفريقيا التاريخية التي سقط نظامها العنصري بعدما حاصره العالم، فالإسرائيليين تميّزهم ظواهر غريبة عجيبة: إنكار واقع احتلالهم والزعم انهم متدينون وعلمانيون، وشعب الله المختار ولا يخطئون، فتجرّأ ليفي وغرّد خارج السرب الإسرائيلي، بل وأكثر، كشف عُريَه وعارَه بالاحتلال كما نرى في مقالته “يوم أورشليم، يوم حداد” .
يؤكد ليفي أن وسائل الإعلام الإسرائيلية شريكة مع المؤسسة الحاكمة بالمسؤولية عن واقع الاحتلال من خلال حجبها الحقائق والمشاركة في شيطنة الفلسطينيين وتحويلهم من ضحيّة لجلّاد ويصل إلى أنه لا يمكن كسر غسل الدماء هذا لدى الإسرائيليين وأنه لن يأتي تغيير من الداخل، والمقلق ان روح النكبة ما زالت سائدة في إسرائيل حتى اليوم، ومن الجدير بالذكر أن بعض المقالات أدّت إلى فضح الحقيقة والملاحقة القانونيّة ووصلت إلى المحافل الدولية. إنها صرخة كاتب تجاوزت حدود الهوية أمام العار الأخلاقي لدولته.
قام الكاتب أمين خير الدين بترجمة مقالات تقدّمية لصحافي يهودي، بشجاعة ومهنيّة، ترجمة أمينة للمصدر وللمنقول إليه، فهو ملمّ بمعجم الكلمات والعبارات ومعانيها ومعرفة قواعد اللغتين ونحوهما والصور والتشبيهات، وما قام به من ترجمة، متطوّعًا، هو عمل ضروري ووطنيّ بامتياز يُحسَد عليه لأنسنة قضيّتنا، وكي يطلع القارئ العربي على آراء وأفكار ليفي فنجح بنقل ما كُتِب بمصداقيّة عالية، علّ الأمر يكون محفّزًا لصحافيينا وكُتّابنا في العالم العربي ليحذوا حذو وجرأة ليفي لفضح موبقات السلطة ونشرها على الملأ.
غاب عن الكتاب موعد نشر كلّ مقالة من المقالات الأصلية للمصداقية والتاريخ، وأزعجتني الأخطاء النحوية والمطبعية مما ظلم الكاتب والمترجِم، وحبّذا الاهتمام بالتدقيق اللغوي، بالتنقيح والتنضيد عند إصدار الطبعة الثانية.
وأخيرًا، أعادني ليفي بمقالاته لجان بول سارتر في كتابه “عارُنا في الجزائر” وكأني به يصرخ مُجلجلًا : هل هذه هي الطريق؟ لا يوجد من يحمي شرفهم، لا أحد يرفض أن يتحمل جزءً من سراب طائرات الموت؟ ليس هناك واحد فقط ؟!؟ “عارُنا في فلسطين”!
المحامي حسن عبادي