رسالة إلى دانة
تاريخ النشر: 30/12/17 | 10:40اعتدت في الماضي توديع السنة إمّا بمقالة أُجمل فيها أبرز ما تركته “أسنانها” على أجسادنا من جراح كانت تبقى نازفة مع قدوم عام جديد، أو برسالة مخصصة مفتوحة كنت أطيرها على أجنحة الريح آملًا أن تصل عنوانها المقصود ويكون لها وقع وتأثير مرجوّان وملموسان.
أمّا في هذا العام فسأستميح القراء عذرًا لأنني سأشذ عن مألوفي وأبعث رسالة مفتوحة عن وإلى “دانة”، الصغيرة بين أولادي الثلاثة، وهي تتأهب، بثقة أرْزةٍ، لرحلتها نحو قمة الحلم وذلك بعد اجتيازها، قبل أيام قليلة، امتحان نقابة المحامين وعزمها كمحامية واعدة على المضي في مسيرة الفَراش لمواجهة “المهمة المستحيلة” وهي مزنرة بسيف مزروع في غمد من بقايا رعد الأساطير التي كانت تنتصر فيها آلهة الخير والطيبة على الشر والخبث.
قريبًا ستلبس العباءة السوداء وتدق أبواب العبث وهي ترفع في يمينها قسمًا لنصرة المساكين والمحتاجين، وفي يسارها شعلة من نور العدل “العذري” الذي سيكون، هكذا تؤمن دانة، له الغلبة على الأشرار وقساة القلوب وحلفاء الشيطان.
لم تسألني عندما اختارت وجهة طريقها، بل أذكر كيف جاءتني، بعد قبولها في جامعة حيفا كطالبة في كلية الحقوق، وسألتني، برقة مطبوعة في روحها، إن كنت معترضًا على ما قررته واختارته؟
من أين لي هذا الحق وكيف أعترض وقد كنت “إمامها” منذ يوم ميلادها؟ قرّبتها إلى صدري وضممتها كأنها لم تزل لعبتنا الأثيرة، وتمنيت لها السلامة والظفر وكثيرًا من الصبر والقناعة.
حاولت ببعض فضلات من حكمة تجربتي أن أهيئها كيف ستكون أفراحها “الكبرى” ليس إلا انتصار الجرح على السكين، وأوضحتُ لها معنى أن تكون حرًا في وطنك المحتل حتى وإن كنت السجين، وكيف يصير القهر في حلقك أو القيد في معصميك مفاتيح لفيض الروح والفرح، وعلامةً للهزيمة مطبوعة على جبين سجانك وقامعك.
لقد اخترت يا نجمتنا الوادعة مهنة ستبقيك واقفة على ذرى العواصف، لا تنامين إلا في دفء المآقي وفي صلوات البسطاء القانعين، فاليوم أن تكوني محامية يعني أن تسيري على الأشواك في غابات تسودها قوانين الثعالب والمكر وفي ميادين صارت فيها المسدسات مشرّعًا والجشع هياكل والدولار غاية الغايات والخوف أضحى ملجأ المقهورين والضعفاء والعاجزين.
أقلقتني ثقتها بسيادة الخير، وإيمانها بأن السماء قد تمطر على الناس غضبًا وتيهًا، لكنها ستبقى مأوى للملائكة والحق وحاضرة الأنبياء والقديسين، فخفت على قلبها الكبير وعلى ندى عينيها وهي التي عاشت ردحًا في القدس وسمعت قصص افتراس الليل لتناهيد العذارى، وشاهدت حوافر الخيل تدوس على عزائم الشباب ومناديل بائعات العنب والخوخ والتفاح، في زمن ضاعت فيه الأرصفة والحصون وتعثرت البصيرة وساد القهر والقلة.
حاولت أن أفهمها ما معنى أن يعيش اليمام في حضن أوكار الدواهي، لكنها أجابتني بعقلها الناضج وبمنطقها السليم، وكأنني نسيت أنها ولدت في “الجانب الصحيح” وكبرت مع من أذُلّوا على حواجز القمع، فكانت كلما تسمع زغرودة أم وهي تمسح الغبار عن كفي ابنها العائد بسلامة من طريق النحل وهو كامل الأعضاء والارادة، تنام كظبية عاشقة لأنها مثلها لا تحب الوحوش والكواسر، وتؤثر معانقة الزنابق والرقص بين يدي الشجر.
سمعنا في الصباح أن نتائج الامتحان أعلنت فدخلت غرفتها. نظرت إليها وهي نائمة فتيقنت أن للملائكة أرواح، وأحسست بالفجر، رغم اخلاصه للشجر، قد تسلل خلسة من شباكها ليغفو في حضن القمر.
على وجهها، رغم عذوبته اللافتة، بدت علامات تعب وطيف دمعة حائرة وآثار لوجع.
أحست بوجودي فحاولت أن تفيق بكسل. كنت واقفًا أمامها كعمود من دهشة. تذكرت كيف مضت السنين كغفوة فلاح تحت عناقيد الريح، وكيف صرنا اليوم نقف عند حدود الحسرة وفينا ذلك الحنين الهش إلى كل ما فات ولن يعود، والى مستقبل يعيش في حاضرنا بدون مستقبل.
نظرت اليها فغمرتني السعادة وحاولت أن أتعزى بترف الفلسفة فقلت لنفسي، من لا مستقبل له فله الحياة في الحاضر الذي لا ينتهي.
فتحت عينيها مثل البنفسج وبتأنيه. تبسمت كطفلة وأخبرتني بهدوء بأنها نجحت في الامتحان. تماسكت وخفت من سقوط حاجبي الحاجز . أمها، التي تحولت وهي تنتظر نتائج الامتحان، إلى لغم موقوت انفجرت بعد سماعها للخبر فملأت صرختها فضاء البيت حتى الفزع .
وقفت وألقت برأسها على كتفي فشعرت أنها تغلق دائرة بدأتها أنا قبل أربعين عامًا. غمرتني راحة سحرية. تلوت عليها بعضًا من تراتيل الأباء.
فأنا أعرف أنك، مثل أبناء جيلك، تنتمين إلى عصر مختلف عن عصري، وأعرف أنك قادرة على مواجهة هذا الزمن الرديء، لأنك قد نشأت بقناعة أن العلم سلاح لكن التثقف يحصنه ويمتنه فنهلت من هذا وعشقت ذاك،
وأعرف أنك تطبعت على حب الناس، كل الناس، لكنك خبرت أن الحب لوحده قد يسقط الجسد ويضيعه فالتبصر فضيلة والامساك مأثرة والتعقل كنز لا يفنى.
فكوني كما أنت قوية كابتسامة الحفيد الأولى وناصعة من غير أقنعة لأن الحياة مجرد غفوة والخسائر الحقيقية تتحقق في اللحظات الرمادية.
حاربي من أجل ما تؤمنين به واتركي دائمًا فسحة للتصالح وفرصة للغد عساه يكون أضمن وأجمل.
فتشي عن العدل وحاولي أن تجديه في حقول القمح وفي رائحة رغيف الخبز الساخن، ولا تيأسي أذا وجدتِه مغتصبًا في دهاليز وقاعات المحاكم.
تذكري كيف قتل الفلاح “قابيل” أخيه “هابيل” راعي الغنم لأن السماء آثرت رائحة الدم على طعم الجنى، وتركتنا نغتسل في دماء الأساطير ونغرق في بحور التأويل ونختصم حول النوايا والأفعال وكيف يتحقق العدل ويتمم الحكم بالإنصاف.
لا تجزعي إذا خسرت قضية، فالانتصارات ليست فقط بالخواتيم، بل تكون أحيانًا في نقطة الصدام بين من يمارس إنسانيته النقية وبين ظالم في ثياب قاض. يكفيك أن تعودي في المساء وتنامي في ليل من خمائل.
كوني مع شعبك في حقه ولا تكرهي أحدًا فسيري حيث يقودك قلبك وليكن دائمًا عقلك مولاك وبوصلتك الثابتة.
ستمارسين مهنة تتعاطى مع فقه القوانين فتذكري أن صناع هذه القوانين هم أناس لا يحبونك لأنك لست مثلهم ومنهم وتذكري أن المحاكم امتلأت بقضاة نشأوا في دفيئات مسممة وما كان يعرف بسلطة القانون ذهب وولى فالقمع ازداد والعنصرية رفعت رأسها وهوامش الدفاع عن حقوق المظلومين انكمشت بصورة مؤلمة.
ستدافعين عن الضعفاء في مجتمعك، لكن تذكري كيف تشظى هذا المجتمع وصارت شوارعه مسارح للخناجر المعربدة ولبائعي السموم ولبعض تجار الدين وأصحاب العصي والمعاصي.
وتذكري كيف تسفك دماء الرياحين باسم الرجولة وشرف هزيل وموهوم يمارس سطوته في الظلمة مثل كل متجبر مأزوم.
فابقي يا قرة العين وأنت تمارسين مهنتك الجديدة كما أنت، ضحكة الصباح الراوية وتنفس الساقية والرقة إذا تحركت والطيبة إذا تكلمت. فأنت الدانة الفلسطينية الغالية.
جواد بولس