ويلُ أمِّهِ – ويلُـمّـهِ
تاريخ النشر: 18/01/18 | 12:49سؤال:
في أثناء دراستي للحديث الشريف قرأت قول النبي عليه السلام:
“وَيْلُ أمِّه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد”
أرجو توضيح معنى الحديث، وهل هو في معرض الذم؟
طالب في كلية القاسمي
الحديث ورد في كتب الحديث منها (صحيح البخاري، باب الشروط رقم 2731 – 2732).
الخطاب موجَّه لأبي بصير -عُتْبة بن أَسِيد الثقفي- قديم الإسلام والصحبة، حيث وصفه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحداث الحُدَيْبِيَة: “وَيْلُ أمِّه، مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد”.
ويلُ أمِّهِ: كلمة تعجب.
مِسْعَر حرب: أي موقد حرب يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة والشجاعة، وإعراب “مسعرَ” تمييز منصوب.
لو كان له أحد: أي ينصره ويعاضده ويناصره.
قوله : (ويلُ امِّهِ) بضم اللام وكسر الميم المشددة، هي في الأصل كلمة ذم، ومع ذلك تقولها العرب في المدح أو التعجب، ولا يقصدون معناها الحرفي، لأن الويل هو الهلاك، فهو كقولهم: “لأمّه الويل”.
فالمعنى هنا لا يُقصد به الذم، كما يقولون “لا أبا لك”.*
لاحظت هنا أن هذا الحديث وفي جميع كتب الحديث التي أوردته كُتب بانفصال كلمة (ويل)= ويل لأمه، وذلك لأن الهمزة هي قطع.
غير أن التعبير (ويلُمّـِـه) ورد في اتصال إملائي وذلك إذا جعلوا الهمزة وصلاً ثم حذفت، وقد وردت في نماذج كثيرة، وخاصة في الشعر.
ففي قصيدة المتنبي (عيد بأية حال عدت يا عيد) يستخدم التعبير بعد هجائه لكافور:
جَوعانُ يأكل من زادي ويمسكني **** لكي يُقالَ عظيمُ الشأنِ مقصودُ
ويْلُّـمِّها خُطّـةً ويْلُمِّ قابلِها *** لمثلِها خُلِق المَهريَّـةُ القُود
فالمتنبي يتذمر من التضييق عليه ومنعه من الرحيل عن مصر، فكأن كافور الإخشيدي بذلك يظهر نفسه ذلك الجواد المعطاء، وإلا فما سر إبقاء المتنبي في بلاطه وهو يضن عليه بالعطاء؟
إنه جوعان بلؤم طبعه وما هو عليه من افتقار نفسه، وهو “يأكل من زادي” بمعنى أنه يطالبني بأن أمدحه، وربما يكون المعنى أنه كان قد حصل على هدايا منه عند قدومه إليه، والشاعر يمنّ عليه بذلك.
فما أعجب هذه الحال وهذا الشأن، (ويلمها- الضمير يعود على كلمة خُطّة- وهي التمييز)،
وما أعجبني وانا أقبل ذلك، فكيف وقد خلقت هذه الإبل المميزة للفرار من مثل هذه الحال العجيبة.
أما الإبل المَهرية فهي المنسوبة لمَهْرةَ بن حَيْدان – بطن من قُضاعة تنسب إليه الإبل، والقُود جمع قَوداء- طويلة الظهر والعنق.
“ويلمه” تعني هنا التعجب، وقد انتقل المعنى من الذم، كأن تقول لشخص أعجبك: قاتله الله ما أروعه**. (ما زال في الدارجة هذا اللون الدعائي كأن تقول لطفلة ذكية أو لطيفة: يقصف عمرك، وأحيانًا تكون شتيمة: يلعن أبوه ما ….، يخرب بيته على هذي الرسمه!).
“ويلمّهِ” فيها قولان:
الأول أن الأصل هو ويل + لأمه
الثاني هو وي+ لأمه
ورد الرأي الأول في كتاب البغدادي- الشاهد 211 ج3، ص 211:
“واعلم أن قولهم: ويلمه وويلمها، قال ابن الشجري: يروى بكسر اللام وضمها، والأصل ويل لأمه، فحذف التنوين، فالتقى مثلان: لام “ويل” ولام الخفض، فأسكنت الأولى وأدغمت في الثانية فصار ويل أم مشددًا واللام مكسورة، فخفف – بعد حذف الهمزة – بحذف إحدى اللامين.
[….] ثم سئل لم لا يجوز أن يكون الأصل “وي لامه”، فتكون اللام جارة ووي التعجب؟
فأجاب بأن الذي يدل على أن الأصل ويل لأمه، والهمزة من أمّ محذوفة قول الشاعر:
لأمِّ الأرض ويل ما أجنَّت *** غداةَ أضر بالحسن السبيلُ
كما ورد الرأي الثاني في شرح التبريزي لديوان المتنبي:
“وهي عندهم “ويْ” التي تستعمل للتعجب، ثم جاءوا باللام الخافضة، فمنهم من يضمها لإسقاط الهمزة في (أم) كأنه نقل الضمة إلى اللام (= ويْلُـمِّـهِ)، ومنهم من يجعلها مكسورة على أصل ما يجب في حركة اللام”= (ويْـلِـمِّـهِ).
وقد ورد معنى (ويلمّه) بمعنى الداهية حيث اشتقت وصفًا.
* للاستزادة والإفادة
راجع مقالتي “تعابير تفهم حسب القرائن”. قطوف دانية في اللغة العربية، ج2، ص 177، ففيها حديث عن تعابير أخرى، نحو: ثكلتك أمك، تربت يداك، لا أبا لك.
(يمكن أن تجد المقالة في بحث غوغل: فاروق مواسي تربت يداك)
**
يذكر البغدادي في (خزانة الأدب، م.س)
” وأما معناها فهو مدح خرج بلفظ الذم: والعرب تستعمل لفظ الذم في المدح، يقال: أخزاه الله ما أشعره! ولعنه الله ما أجرأه! وكذلك يستعملون لفظ المدح في الذم، يقال للأحمق: يا عاقل؛ وللجاهل: يا عالم: ومعنى هذا يا أيها العاقل عند نفسه أو عند من يظنه عاقلا. وأما قولهم: أخزاه الله ما أشعره! ونحو ذلك من المدح الذي يخرجونه بلفظ الذم فلهم في ذلك غرضان:
أحدهما: أن الإنسان إذا رأى الشيء فأثنى عليه ونطق باستحسانه، فربما أصابه بالعين وأضر به، فيعدلون عن مدحه إلى ذمه لئلا يؤذوه.
والثاني: أنهم يريدون أنه قد بلغ غاية الفضل وحصل في حد من يذم ويسب، لأن الفاضل يكثر حساده والمعادون له، والناقص لا يلتفت إليه: ولذلك كانوا يرفعون أنفسهم عن مهاجاة الخسيس ومجاوبة السفيه”.
ومن أراد الاستزادة فعليه بهذا المصدر الزاخر.
ب.فاروق مواسي