من رام الله خيط أفق شفيف
تاريخ النشر: 20/01/18 | 8:05مقدمة لا بد منها، لم أشارك في الماضي باجتماعات رسمية لمؤسسات منظمة التحرير ولا بلقاءات فصائلها بما فيها أكبر هذه الفصائل، حركة التحرير الوطني الفلسطيني، “فتح”. دعيت من حين إلى آخر لمقابلة الرئيس الراحل أبو عمار وكان ذلك إما برفقة الراحل فيصل الحسيني وإما لوحدي. دارت مواضيع تلك اللقاءات حول شؤون سياسية إسرائيلية عامة كان أبو عمار يريد أن يسمع فيها رأيي أو لمناقشة مواضيع تخص القدس، وكنت بحكم عملي لسنوات طويلة في “بيت الشرق” على دراية بما يحصل في المدينة وصاحب وجهة نظر في شؤونها.
مع رحيل القائدين تبدلت في القدس دول ورجال، وفي مبنى المقاطعة لم أعد أحصى من أصحاب “الرأي”، ولم ألتق سيادة الرئيس محمود عباس إلا في مناسبتين عنيتا بقضايا الأسرى في سجون الاحتلال وفيهما أشعرني بحقيقة احترامه وتقديره لعملي ولرأيي على حد سواء.
على غير العادة وقبل انعقاد الدورة الثامنة والعشرين للمجلس المركزي تلقيت دعوة من مكتب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح السيد محمد المدني وهو مفوض العلاقات مع “فلسطينيي الداخل”. من دون تردد أخبرت محدثي أنني سأحضر إلا إذا منعني المرض الذي أعاني منه منذ أيام.
لم أتردد في الموافقة مع أنني خشيت من الفوضى التي قد تسود المكان ومن شعوري “كالغريب”، لأنني لست من أهل “القبيلة” ولا من زوّارها وعوّادها الدائمين وأنا أعرف أن لهذه المناسبات كهنتها وطقوسها وديباجاتها وبخورها؛ لكنني، مع هذا، شعرت بضرورة وجودي هناك وحاجتي كي أسمع وأرى مباشرة وأحس نبض القاعة ووقع الكلمات في لحظتها وسياقها من دون تغليف أو تكرير أو تخمير .
وصلت الى مدخل المقاطعة وبصحبتي صديقي المحامي أسامة السعدي. البرد متمرد والضباب يملأ الساحات والشوارع. المطر ينهمر برتابة مزعجة. يشتد للحظات ثم يستعيد إيقاعه ولا يتوقف. لم أجد في محيط المقاطعة مكانًا لإيقاف سيارتي. في لحظة إرباك سمعنا نقرة على الشباك وخلفه ظهر أمامنا كالشبح الملفوف بقطعة بلاستيكية كبيرة تقيه غضب المطر. كان رجل أمن وقف مع بعض زملائه في المكان ليطلب من المدعوين التوجه بسياراتهم الى موقف “الأمة” قبالة ضريح أبو عمار فهناك تنتظرهم جيبات اعدت خصيصًا لنقل الوافدين إلى قاعة “أحمد الشقيري” لحضور الاجتماع.
تبدد شعوري في الفوضى فمن الموقف نقلنا مباشرة الى القاعة التي دخلناها بتأخير طفيف. بدت الصفوف ملآنة والجموع واقفة على موسيقى النشيد الوطني. لم نفتش على أحد فجلسنا على أول مقعدين خاليين وجدناهما في الصف الأخير.
بعد لحظات تلا السيد سليم الزعنون رئيس المجلس الوطني كلمته وأعقبه السيد محمد بركة باسم “لجنة المنابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل”، ثم كانت كلمة الرئيس محمود عباس التي استمرت لقرابة الساعتين.
كل من كان معنيًا بسماع خطاب الرئيس سمعه، إما مباشرة وإما لاحقًا، وكثيرون كتبوا عنه بموضوعية ورجاحة نقد، وآخرون علقوا عليه بما تمليه عليهم مواقعهم الحزبية أو انتماءاتهم الفصائلية أو ولاءاتهم الحركية أو كراهيتهم الراسخة للرئيس وتاريخه، بينما مارس البعض ضده هوايته المزمنة في التهكم والإدمان على التقريع والسخرية اللتين باتتا من أهم عادات “الثوار” الفيسبوكية غير السرية.
للجميع حق في التعبير عن موقفه ازاء ما قيل خاصةً وأننا في مرحلة حاسمة من تاريخ النضال الفلسطيني والجميع يشعر بأن المؤامرة على تصفية القضية صارت قاب صفقة أو أدنى، كما صرح الرئيس في خطابه.
لا يمكن إعفاء الرئيس ولا من معه في قيادة منظمة التحرير من وزر الماضي وقرارات المراحل السابقة، ولا أعتقد أن من سمع الرئيس لم يشعر بتحمله عبء تلك المسؤولية حتى لو اشتمت أحيانًا بين كلماته نبرة تبريرية أو دفاعية عن ظروف اتخاذ تلك القرارات.
بعيدًا عما يمكن مناقشته من تفاصيل وردت في أو غابت عن خطاب الرئيس، وبوجود إمكانيات واضحة لتفكيك كل جملة ومناكفتها بمعطيات “تاريخية” أو بناءً على تجنيد فقه التجارب، سأنأى بنفسي عن جميع ذلك وسأكتب بتفاؤل عما أحسسته كإنسان سمع ما سمعه بأذنين أصغيتا بحذر وبعقل حاول أن يفتش عن سلالم النجاة من دون أن يغفل مواقع المطبات بين الجمل والفواصل.
أستطيع أن أملأ عددًا من البوستات بما كان يجب أن يقوله الرئيس ولم يقله، وأستطيع أن افترض، كما فعل البعض، أن الرئيس كان يجب أن يوضح هنا أكثر وأن يحسم هناك أكثر، لكنني سأكتفي، كمواطن جاء محملًا هواجس ثقيلة ومحرضًا بغضب وعتب على كيف “باع الرئيس القضية” أن أنقل لكم مشاعري عندما تركت القاعة وأقلني الجيب عائدًا إلى سيارتي ثم إلى بيتي في القدس.
من الصعب على من لا يسكن فلسطين أن يعرف قيمة ومعنى الأمل في حياة كل مواطن فلسطيني مهما كان عمره وموقعه. ومن المستحيل أن يعرف البعيدون دقة معنى أن يكون “ظلم ذوي القربى أشد مضاضة” وفي موطنك لم يعد لحلمك ليلٌ يسعه ولا سجن جدير بدمك.
كنت راضيًا من قراري ومجيئي، ففي المكان ساد جو طبيعي وخال من العصبية أو الخوف أو التزلف. كلام الرئيس كان صريحًا حتى الشفافية وفي كثير من المحطات تخطى أعراف الديبلوماسية الحذرة، خاصة عندما أعلن بحزم مناكف الموقف السعودي وجازمًا أن” القدس ليست أقل من مكة”، لا بل لم يتردد حين واجه جملة الأشقاء العرب قائلًا لهم” حلّوا عنا” وذلك بعد أن كشف كيف دعم بعض هؤلاء العرب دونالد ترامب وحاولوا تسويغ صفقته التي رفضها الرئيس واصفًا إياها “بصفعة العصر”.
وحتى عندما أسهب فيما بدا مقدمة متعبة في تاريخ المنطقة تبين أنها جاءت في سياق استعادته لخطاب الحركة الوطنية الفلسطينية الأصلي والأساسي وذلك في رد مواجه لخطاب الحركة الصهيونية المتصاعد والنافي للوجود وللحق الفلسطينيين في فلسطين التاريخية.
كانت الجمل تزيل غبار المفارق القديمة وكنت مع كل موقف واضح أشعر أن الحضور يستعيد تدريجيا ثقة تشظت، وملامح أفق غطاه الالتباس وفائض وهم الضفادع بصداقة العقارب في الرحلة المستحيلة فوق الأنهر العاتية.
“لا سلطة بدون سلطة” قال الرئيس وأردف حاثًا أعضاء المجلس ومتسائلا، إذن إلى أين نحن ذاهبون؟ فأنتم من ستجيبون على ذلك لأنه ما كان لن يكون ولن يدوم الوضع الراهن كما هو عليه ولا “احتلال بدون كلفة عسكرية” فلنتبنّ موقف المقاومة الشعبية السلمية التي في ظروفنا ستكون أنجع وأفيد وأكثر تأثيرًا على الاحتلال.
لا أنوي ولا أرغب باستعراض عناصر خطبة الرئيس فكما قلت لقد فعل ذلك قبلي كثيرون، لكنني أؤكد أنني غادرت القاعة وقد ارتفع منسوب الأمل في داخلي، فصور الرئيس وهو يصارح غالبًا ويلمح أحيانًا، قربتني إلى واقعنا أكثر، فقارنته مع ما يقوله رؤساء العرب لشعوبهم وأحزابهم و”مثقفيهم” ومثلهم رؤساء العالم ، من أصدقاء ومقاومين، ولم أجد سببًا لماذا نشتري إيهاماتنا ونشكك في مواقف الرئيس ولاءاته الصارمة؟ وعندما سمعته وهو يشرح كيف حاول المتآمرون، من عرب وعجم وترك وغرب، في الخارج وأعوانهم في الداخل، تفعيل الضغوط عليه للركوع، توقفت عند طوابير المفكرين والمنظرين والمحللين الذين ينهالون على السياسة الفلسطينية وعلى قادتها “المنهزمين” و”المفرطين” وهم في مراكز دراساتهم وجامعاتهم ومؤسساتهم التي تزدهر برعاية ورضا تلك الدول وأجهزة حكمها وتحكمها في هذه الفضاءات المسممة.
لم يكن خطابًا سحريًا لكنه كان جيّدًا في مجمله، فلقد تضمن اعترافًا بمخاطر المرحلة القاتلة وتوصيفًا لمعسكرات الأعداء وتعريفًا بمباعث قوة الفلسطينيين وأولها الصمود في الوطن والوحدة والتمسك بالثوابت، فبدون ذلك تتحقق الهزيمة وبها سيأتي النصر حتى لو بعد حين.
وصف الرئيس خطورة المنزلق الذي وصلت إليه الحالة الفلسطينية، وهو لا يملك حلولًا فورية للخلاص ولم يعط مخارج مضمونة وآمنة، لكنه حاول أن يرسم ما يرفضه بشكل مطلق، فأمريكا لن تقبل بعد اليوم كراعية لأي عملية تفاوض، والمفاوضات لن تستأنف إذا لم تعتمد حل الدولتين أساسا لها ومرجعية، وانهاء الاحتلال يجب أن يكون شرطا يفضي لاقامة دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين على أساس القرار ١٩٤.
خرجت قبل تداعي النهايات في القاعة. كانت الجيبات تنتظر الضيوف، ركبت وآخرين لم أتعرف عليهم. في طريقي كانت الردهة تعج بالناس وعلى وجوه بعضهم علت ابتسامات عريضة وآخرين يصرخون في سماعات هواتفهم بعبارات مطمئنة وأخرى تعبر عن مفاجأتهم السعيدة، فلقد أراحهم كون الرئيس صريحًا حازمًا وواضحًا وأنه لم “يوفر” أحدًا. لقد أوصل خطاب الرئيس رسائله المهمة، والبقية في عهدة القادة والتاريخ.
أعرف أن كثيرين لن يوافقوا على إحساسي وحدسي وأقر بحق جميعهم، من يعرفوني ومن لا يعرفوني، لكنني لن أستوعب معارضة من يصغرون أقلامهم ويخرسونها في مواطن الاستبداد وهم يرفلون في “أحضان” تحاول نسف أواصر القضية الفلسطينية والقضاء عليها، أو يعيشون في “مزارع” تخضر بنعم راعين وداعمين يقسمون باسم فلسطين في الأمسيات ويحفرون لأهلها القبور في الصباح.
حاولت أن أكتب ببساطة مواطن عادي ومن غير ” تفلسف” زائد، فلقد كنت مثل آلاف الفلسطينيين غير المؤطرين تنظيميًا بحاجة إلى جرعة أمل فتلقيتها، وأنا لست ساذجًا، لأنني أعرف أن طريق العودة إلى الصواب والى البئر الأولى ما زال طويلًا وشاقًا، وأخالني سمعت الرئيس يقر بذلك، وسمعته أيضًا يوصي بالتعقل والصبر واجتراح المستحيل، فالبحر من حولنا يزخر بالحيتان الجائعة وبالمفترسين الذين لا يرحمون.
لو أردت لكتبت مائة مقال غير هذا وأرضيت حفاري الرعد وعشاق البرق، لكنني أعرف ما يحتاجه اليوم الناس في فلسطين، حفنة وعد وخيط أفق شفيف وتنهيدة صبح في حضن الحبيب.
جواد بولس