ليلة من الغُبار
تاريخ النشر: 21/01/18 | 9:27غُرفةٌ على سطحِ بنايةٍ حزينة زمانها ترتديها الغرابة، جدرانها الصامتة تخافُ منها من غير أن تتنصّت. لا حبور عاديا البتّة هناك.. فالعينان غير قادرتان على فهمِ البهجة في دهرِ الحرب. يقطنُه الخوْفُ من منامٍ لا يفهمُ مغزاه، وتسيلُ منه أفكارٌ تركه الاندهاش. يرهقُه التفتيش عن أُمنيةٍ خطفها منه مساحات معتمة، وعن أزمنةٍ لا تقبلها عاصفة الريح. غادرتْ البارحة، ولم يظلّ له منها غير لوحتيْن، وفرشاة رسمٍ قديمة مهملة فوق مكتبه المكركب، ورسمٌ لم ينتهي لفتاةٍ رسمَها بتمهل، وصورٌ عالقة في عقله لا يمكنه نسيانها. أتتْ ليلة من الغبار، موحشةٍ، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الأصفر، على السّرير تموجات ووهم، ورائحةُ قبلات.. وخلف بابٍ خشبي نشّفها خريف بارد مراسم خشبية متروكة وحيدة، وريح مغبرة مجنونة في الخارج تعصف بالأشجار العارية. في العينين أرض روحٍ، ومنامات تسقط، واستفسارات ملغزة، ونهاية تتمطّى من الفقر وحتّى موت الهواء، ومن انكشافات الخيبة وحتّى الوَسَن..
خارج الغُرفة غبار بلونه الأصفر، وفي الغرفة المضاءة بنور سراج خافت، وتنورة حمراء لفتاةٍ نسيتها ذات زمن يسرّ حبّها.. وفي السّماء المكفهرّة هفوة خرسانية سوداء، وعشق سابق لأوانه. لا كلمات سوى الإباء، ولا طاقة إلاّ لرفع الذنْب وحمايته من قتل وحشي لنصوص طاهرة. من آصرته أن يقترض كرْبه ليقذفه خارج عزلته المجنونة في غرفته. إنّه ليدري أنّ منامه لم يكتمل، وأنّ حسّه لا ارتداد له، ولكنّ المهادنة مع القسمة توجعه، والتذلل لقسمةٍ شرّيرة توجعه بشكل فظيع. ويوجعه مذاقُ الريح المغبر، حينما تبدأ الأشياء تضيع ماهيتها.
لقد وقعتْ الروح بشكل مغالٍ، فأكلها الزمن، وبدّلتْ ليلة الجوّ المغبر سحنته. كلّما جرّب الإصغاء إلى الصمت المجنون، احتلّته رسومات لا طائل منها. وآلمته تلك الأزمنة الّتي أقصتها الهجرة، فغادر تحت سماءٍ مكفهّرة جافة ومغبرة، وما آبتْ الحياة تدري كيف تسوّيه، ولا قمرُ تشرين ثان كيف يشكّله ليعتادَ الطّقس المغبر في خريف مجنون.
غادرتْ بارحة أخرى، ولم يظلّ له منها سوى رسم حائر، وخواطر، وقدحُ مشروبِ مُسكر موحش، ورسم يكاد أن يكتمل، وصور عالقة في عقله لا يمكنه نسيانها. فأتتْ ليلة من الغبار، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأصفر، على المكتب طبقٌ بلاستيكي من العدس، وكسرة من خبزِ قمحٍ ووردة جورية ضاوية. علبٌ من الألوان المختلفة، وعلبةُ عيدان ثقابٍ وسجائر من النّوع العادي، ولوحات لأناسٍ لا يعرفهم.. فرشاة رسمٍ صغيرةٌ، وعلبة تلاوين، ومنفضة سجائر وسِخة، ومشروب مسكر.. وألواح كرتونية قديمة، وأخرى عليها أصباغ، وسراج عتّمته ليلة سابغة.
ينظر إلى الطريق من نافذته المكسر زجاجها فلا يرى سوى نور أصفر خافت، وحانةٌ على زاويةِ الطريق فارغة إلاّ من نسمات عطور فاخرة تهبّ من نساء متسكعات يأتين لقتل الضجر. لا تحيّنٌ لقتلِ الزمن، والأملُ مرهقٌ من الفشل، والعُسر الإنساني، والقوة المتزينة بالصّدْق، والحديث المستنفد، والتبتّل الممتهن. له آصرة أن يبغض ديكَ جاره الذي عوّد نفسه على سماعه، فاكتشف أنّ الإنسان يمكنه الاستفادة حتّى من ديكٍ ماهرٍ بصياحه.. له آصرة أن يكره الأشياء الشريرة، وأن يسترد أماكن شهوته.
كان في وطنه شابّا رائعا، وكان متمكّنا من تأليف القصص.. وكانتْ روحه أكثر حرارة، وضحكاته أكثر جليةً. كان يدري كيف يعشق، وكيف يقتنص العيشة.. كان متمكّنا من فعل الحُسن، وعلى الاستماع في خفاء لكلام الرجال المسنين في جلساتهم الصباحية. بات شابّا، ولم يعد متمكنا إلاّ على الشوق، وبات للطمأنينة جوهر آخر في عروقِه.
غادرت بارحة أخرى، ولم يظلّ له منها غير رسم قد انتهى، وصور عالقة في عقله لا يمكنه نسيانها. فأتتْ ليلة من الغبار، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأصفر.
على السرير ظلت تنورة حمراء نسيتها فتاة وعطور ثمينة ٌ.. وكرتونة صفراء للرسم وألوان مملة، وصوت مذياع يذيع أخبارا حزينة.. وعلى الحائط المجاور رزنامة لكنيسة كاثوليكية، وأصوات لا ناس لها. يمسك بيديه مكاتيب فيها كلمات عن الحُبِّ لفتاة أحبّها ذات زمن، وكأس من عصير الليمون، ولحن غربي وأمامه جدار لون طلاءه ممل، وحيدٌ كبومة، وقانطٌ كالرسم.
جوّ للاستسلام، وجوّ آخر للحياة الشّريرة.. له آصرة أن يبغض الحافلات القديمة، والسخافة والطقوس، وله آصرة أن يعصي على بساطة الجوّ، ويتبرأ من الطوائف المذهبية.. وله آصرة أن يذبّ عن الناس السابغين.
على السّرير ظلّ دمارٍ، ووحشة، واشتياق مجنون غير نافع. غادرتْ البارحة ليلة أخرى، ولم يظلّ له منها غير صور عالقة في عقلِه لا يمكنه نسيانها.. فأتتْ ليلة من الغبار، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأصفر.
عطا الله شاهين