مع ليل امرئ القيس في معلقته
تاريخ النشر: 20/01/18 | 21:07في معلقة امرئ القيس بضعة أبيات خصّها في وصف الليل، وهي:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه *** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه *** وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي *** بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فيا لك من ليل كأن نجومَه *** بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ
كأن الثريّا علّقت في مَصامها *** بأمراس كّتّان إلى صًمّ جندَلِ
..
فيا لك من ليل:
شبه الشاعرالليل كموج البحر وهو يروعنا في هوله وفي تكراره وفي كثافة ظلمته، وغموضه وفيه من الوحشة ما فيه، وخاصة وأن هناك سدولاً وستائر ستُرخى لتكون هذه العتمة الرهيبة، وها هو الليل أرخاها مع أنواع الحزن ليختبرني: أأصبر أم أجزع!
اللغة:
وليل، الواو واو ربّ. و السدول: الستور، جمع سَدْل؛ وسدَل ثوبه: إذا أرخاه.
فيا لك من ليل- فيه معنى التعجب.
وفي شرح التبريزي (المعلقات العشر، ص 66) وردت “مُرْخٍ سدولَه”
..
يرى المحقق محمود محمد شاكر “أن التوحش والهول هما توحش الهموم الطاغية المتضربة عليه في ظلام الليل”، فهو يرى أن الموج في البيت مصدر لا اسم، وأصل سياقة البيت “وليل يموج بأنواع الهموم ليبتلي موجًا كموج البحر أرخى علي سدوله”.
(ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، ج1، ص 85).
أما رأيي فهو أن تشبيه الليل بموج البحر تشبيه حداثي عميق ومبدع.
وقوله: فقلت له لما تمطى…..
تخيل الليل وكأنه حيوان يبغي الهجوم والوثوب، فينقل صورة مجسمة- ها هو يمتد أو يمدد ظهره، وها هو بسرعة يلحق مؤخرته، وسرعان ما أبعد صدره ليتم الوثوب أو هجمته.
..
قام الشاعر بتغيير الترتيب، فالأصل أن يكون أولاً- البعير ينهض بكلكله= بصدره،
ثم يتمطّى بصُلبه ( وفي رواية أخرى- بجَوْزه أي بوسطه)،
وبعد ذلك يردف أعجازه.
فالواو لا تدل حتمًا على الترتيب.
اللغة:
(تمطى: امتد. وناء: تهيّا لينهض أو بَعُد. والكلكل: الصدر. والأعجاز: الأواخر، جمع عجُز؛ وهو من استعمال الجمع موضع الواحد).
..
ألا أيها الليل الطويل …
يتمنى الشاعر أن يزول الليل ويسفر الصبح، وهو على يقين أن الصباح لن يطلع عليه بحال أفضل. فصيغة الأمر فيه للتمني، فهو إذ يتمنى زوال ظلام الليل بضياء الصبح يؤكد أن ليس الصباح بأفضل عنده، لاستوائهما في مقاساة الهموم، أو لأن نهاره يظلم في عينه لتوارد الهموم. فليس الغرض طلب الانجلاء من الليل لأنه لا يقدر عليه، لكنه يتمناه تخلّصًا مما يعرض له فيه، ولاستطالة تلك الليلة كأنه لا يرتقب انجلاءها ولا يتوقعه.
اللغة:
انجلي: أمر بمعنى انكشف؛ والياء إشباع، وشبهوا ثبات الياء بثبات الألف في قوله تعالى {سنقرئك فلا تنسى}- الأعلى، 6 . والإصباح: الصباح. والأمثل: الأفضل.
..
قال الباقلاني في (إعجاز القرآن- دار المعارف)، ص 180:
“ومما يعدونه من محاسن هذه القصيدة هذه الأبيات الثلاثة، وكان بعضهم يعارضها بقول النابغة:
كليني لهمّ يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه *** تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض *** وليس الذي يتلو (يرعى) النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدّمت أبيات امرئ القيس واستحسن استعارتها، وقد جعل لليل صدرًا يثقل تنحّيه، ويبطئ تقضّيه؛ وجعل له أردافًا كثيرة. وجعل له صُلبًا يمتدّ ويتطاول”.
(تناولت شرح “وليس الذي يرعى النجوم بآئب” والنقاش حول ذلك في كتابي “دراسات أدبية وقراءات بحثية، ج1، ص 164، ويمكن الاطلاع على المقالة في بحث غوغل:
“فاروق مواسي يرعى النجوم”)
..
فيا لك من ليل كأن نجومه ….
يقول امرؤ القيس: إن نجوم الليل لا تفارق محالّها، فكأنها مربوطة بكلّ حبل محكم الفتل في هذا الحبل. وقد شدت إلى جبل (يذبل).
استطال الليل لمقاساة الأحزان فيه، فالنجوم لا تتحرك مع ساعات الليل، وهو يراها مستقرة ثابتة في مكانها.
اللغة:
يا: حرف نداء؛ واللام للتعجب تدخل على المنادى إذا تعجّب منه.
اللام فيها معنى الاستغاثة، استغاث به منه لطوله، كأنه قال: يا ليل ما أطولك!
قال ابن هشام: وإذا قيل يا لَزيد بفتح اللام فهو مستغاث، فإن كسرت فهو مستغاث لأجله، والمستغاث محذوف، فإن قيل (يا لك) احتمل الوجهين.
والمُغار بضمّ الميم: اسم مفعول بمعنى المُحْكم، من أغرت الحبل إغارة: إذا أحكمت فتله.
ويذبل: اسم جبل في نجد، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل، وصرفه هنا للضرورة.
..
وقوله: كأن الثريا علقت …
يصف طول الليل بقوله كأن النجوم مشدودة بحبال إلى حجارة فليست تمضي.
اللغة:
الثريا- ستة نجوم ظاهرة، وبينها كواكب خفية كثيرة العدد، ومصامها هي مواضع وقوفها في السماء، وفي والباء وإلى حروف جر متعلقة بقوله علقت. والأمراس الحبال، واحدها مرَس، ويروى “كأن نجوما علقت” والجندل: الصخرة أو الصخور العظيمة، والصُمّ: الصلاب.
(للتوسع:انظر البغدادي: خِزانة الأدب، الشاهد العاشر بعد المائتين ج3 271).
..
هناك من الرواة من جعل هذا البيت الخامس في ترتيبه بعد أن وصف الشاعر الفرس، وبذلك اكتفى هؤلاء بأربعة الأبيات الأولى في وصف الليل.
وعلى هذا يُفسَّر البيت الخامس أن تحجيل الفرس في بياضه شبيه بنجوم عُلّقت في مقام الفرس بحبال كَتان إلى صمّ جندل، إذ شبه حوافره بالحجارة. والروايه هنا “مصامه”.
(حول ذلك انظر التبريزي. م.س ص 69، والبغدادي م.س)
ب. فاروق مواسي