بين مدينتين: تأثير عبد الناصر على فلسطينيي 48
تاريخ النشر: 22/01/18 | 16:29“مئة عام على عبد الناصر” … بعد ميلادي بأيام، وبعد أن شاع في القرية نبأ إطلاق اسم جمال على المولود الجديد، استدعى الحاكم العسكري في المنطقة والدي للتحقيق معه، وواجهه بتهمة إطلاق اسم “قومي متطرف” على ابنه. كان الحاكم العسكري يهوديًا من أصل عراقي أجاد الكلام بالعربية أكثر من العبرية، وقال لوالدي (بلهجة عراقية لا أستطيع تكرارها): “لماذا تسمي ابنك بهذا الاسم؟ لماذا تطلق عليه اسمًا قوميًا متطرفًا، اسم شخص يريد تدمير إسرائيل؟ ألا تخشى على مستقبل ابنك وتعامل الدولة والمجتمع اليهودي مع شخص اسمه جمال؟ أنا لا أنصحك فقط، بل آمرك بتغيير الاسم وأمنحك حرية اختيار اسم آخر، وهناك أسماء كثيرة بالعربية. ما رأيك مثلًا في أسماء مثل صدّام وجاسم وعلّام؟”.
الحقيقة أن والدي لم يطلق عليّ اسم جمال بسبب عبد الناصر، بل لأن أصدقاءه، قبل عام 1948، أطلقوا عليه اسم “أبو جمال” كما هي عادة الشباب الفلسطيني وقتها. ولو أنه شعر بخوف من عقاب الحاكم العسكري، الذي كانت لديه صلاحيات واسعة ومن أهمها “قطع الرزق” عن طريق عدم منح “تصريح عمل”، إلّا أنه لم يغيّر الاسم لأن ذلك في العرف الاجتماعي خيانة للأصدقاء.
اسم جمال بدأ بالانتشار السريع والواسع ولم يعد بإمكان الحاكم العسكري محاربة الاسم، لكنه استمر في اعتبار إطلاق هذا الاسم على أي مولود عملًا عدائيًا للدولة ودليلًا على خطورة ما يحدث في صفوف فلسطينيي 48.
شبح الناصرية
لقد خيّم شبح الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على إسرائيل كخطر من الخارج أساسًا، لكنه خيّم عليها كخطر داخلي من خلال تأثيره وتأثير نهوض الفكرة القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي على فلسطينيي 48 وعلى وعيهم وعلى مشاعرهم ووجدانهم، والأهم على حراكهم السياسي.
عاش فلسطينيو الداخل، الذين بقوا في وطنهم بعد النكبة، تحت حكم عسكري إسرائيلي مباشر منذ عام 1948 حتى عام 1966. بلغ عددهم بعد النكبة 153 ألفًا وارتفع ليصل اليوم إلى 1.5 مليون نسمة. اعتمدت السياسة الإسرائيلية الرسمية سياسة تدجين وتشويه لوعيهم وعملت على إعادة صياغة هويتهم الخاصة والمنفصلة عن شعب فلسطين وعن الأمة العربية تحت مسمّى “عرب إسرائيل” بحيث تكون هويتهم السياسية إسرائيلية كمواطنين “مخلصين” وهويتهم العربية فولكلورية منزوعة من أي بعد وطني وقومي وسياسي. واستثمرت إسرائيل لأجل ذلك صحف ومجلات ونشرات صهيونية باللغة العربية، وكذلك إذاعة ناطقة بالعربية وجهازًا من الأوصياء عليهم معظمهم من يهود الدول العربية. واستعملت إسرائيل كذلك جهاز التعليم للترويج للرواية الصهيونية بتغييب كامل لكل ما هو فلسطيني.
“اعتمدت السياسة الإسرائيلية الرسمية سياسة تدجين وتشويه لوعيهم وعملت على إعادة صياغة هويتهم الخاصة والمنفصلة عن شعب فلسطين وعن الأمة العربية تحت مسمّى “عرب إسرائيل” بحيث تكون هويتهم السياسية إسرائيلية كمواطنين “مخلصين” وهويتهم العربية فولكلورية منزوعة من أي بعد وطني وقومي وسياسي”
وقع الفلسطينيون في الداخل بين مدينتين، تل أبيب التي عملت على محو هويتهم وإلحاقهم بالمشروع الصهيوني، والقاهرة التي سطع منها شعاع الثقافة القومية العربية وولّدت في الناس مشاعر العزّة والكرامة وانقذت هويتهم من براثن تل أبيب. عاش الفلسطينيون في الداخل معزولين تمامًا عن شعبهم الفلسطيني وعن العالم العربي، ولكن صوت العروبة وصلهم، وبقوّة، من خلال خطابات جمال عبد الناصر والإذاعة المصرية ومحطة صوت العرب وإلى حد ما التلفزيون المصري. وكذلك كانت أغاني وأفلام وروايات الحقبة الناصرية غذاءً روحيًا للناس جعلهم يتقززون ويبتعدون عن أي إنتاج “فنّي” إسرائيلي.
علقت صور عبد الناصر في البيوت، وانتظر الناس خطاباته، بالأخص خطاب 23 يوليو، بفارغ الصبر واكتظت المقاهي بالرجال، الذين تابعوا كلامه عبر التلفاز وتلقفوه جملة جملة وكلمة كلمة وهتفوا بحياته وحياة الثورة والقومية، واعتبروا من يهاجمه “عميلًا لإسرائيل”، ووصلت رسائله السياسية والقومية إلى كل بيت وكل جيل. كانت حالة شعبية قل مثيلها، وكان شعبنا الفلسطيني في الداخل ناصريًا في وجدانه، حتى أولئك الذي اضطروا إلى مسايرة الدولة العبرية في سبيل لقمة العيش، مثل معلمين وموظفين وأصحاب محال تجارية وغيرهم.
أربك هذا التطور المؤسسة السياسية والأمنية في إسرائيل، وحين طرحت فكرة إلغاء الحكم العسكري لمتطلبات سوق العمل والاقتصاد الإسرائيلي، رفض رئيس جهاز المخابرات، إيسار هرئيل، بشدّة، مدعيًا بأن التطورات في المنطقة وصعود عبد الناصر وتأثيره على “عرب إسرائيل”، لا تسمح بإلغاء الحكم العسكري. ورفض جهاز المخابرات الإسرائيلي “الشاباك” إلغاء الحكم العسكري بادعاء أنه بإمكانه المحافظة على “الأمن الصغير”، من خلال متابعة الناس ومراقبة حركتهم، لكنه لن يستطيع السيطرة على “الأمن الكبير” النابع من تطورات إقليمية وارتفاع أسهم عبد الناصر بشكل دراماتيكي.
“وصل الخطاب القومي التحرري إلى فلسطينيي 48، من خلال شخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية والملهبة للمشاعر، عبر موجات الراديو والتلفزيون، لتثير في الناس الأمل من جديد بعد صدمة النكبة، التي حوّلتهم إلى أقلية بعد أن كانوا أكثرية في بلدهم”
لقد نشرت مؤخرًا وثائق حكومية إسرائيلية عن تلك الفترة، وفيها تطرق إلى الموقف الإسرائيلي حيال عبد الناصر وتأثيره على فلسطينيي 48. ففي عام 1963، قرأ رئيس الحكومة الإسرائيلي حينها، دافيد بن غوريون، في جلسة الحكومة مقاطع من دفاتر طلاب عرب يعبرون فيها عن حبّهم وتأييدهم لعبد الناصر، وقال إن هذا مؤشّر قوي على تنامي المشاعر القومية الخطيرة عند العرب في إسرائيل. وكان بن غوريون يعتبر جمال عبد الناصر “أخطر أعداء إسرائيل” وكان وراء مبادرات كثيرة ضد جمال عبد الناصر أشهرها الحرب الثلاثية على مصر.
وأورد الصحفي وديع عواودة (القدس العربي) شهادات من بلده كفركنا عن عبد الناصر، حيث أكد له الحاج أحمد عباس (83 عاما): “كنا نستمع خلسة لخطابات عبد الناصر لدى من بحوزته مذياع، فتكبر محبتنا له كل مرة، خاصة أيام تصدي المصريين للعدوان الثلاثي وإنجاز السد العالي ونجوميته في قيادة كتلة عدم الانحياز، وهذا غفر له عندنا نكسة 1967 خاصة أنه سارع لتقديم استقالته بعد الهزيمة”.
أما الحاج رضوان سعيد (أبو يوسف (93 عاما)) أحد ناشطي حركة الأرض، فقال: “لقلة أجهزة الراديو كنا نتجمع رجالاً ونساءً لدى من لديه مذياع لسماع أبو خالد، فيغدو منزل المضيف مكتظًا فنعود لبيوتنا ونحن نكاد نطير بلا أجنحة”.
ويؤكد المؤرخ بروفيسور مصطفى كبها، أن الناصرية “أثرّت لأبعد الحدود في تشكل الوعي القومي لفلسطينيي الداخل بعد تحول هؤلاء لأيتام على طاولة اللئام عقب 1948، وأحيا فيهم الشعور بالكرامة بل شكل دور الأب بالنسبة لهم وعبر عن طموحاتهم ودافع عن قضيتهم رغم خيبة النكسة… الشوارع في القرى والمدن العربية كانت تفرغ كأنها تحت حظر التجوال في الساعة التي كانت الإذاعات تنقل خطاب الزعيم عبد الناصر، حيث يجتمع الناس في المقاهي والبيوت لمهمة واحدة ووحيدة هي سماع خطاب أبي خالد وتلقف كل كلمة منه… عبد الناصر وبسبب شعبيته أثّر حتى في الكنيست الإسرائيلي: في تلك الأيام دأب فلسطينيو 48 التصويت لصالح الحزب الشيوعي الإسرائيلي كنوع من الاحتجاج، وكونه الحزب الوحيد القريب من قضاياهم، إلا أن الحزب المذكور انحسر تمثيله من 5 مقاعد لثلاثة عام 1959 بعد اختلاف ناصر مع الاتحاد السوفييتي عقب ثورة 14 تموز/ يوليو في العراق وإلقائه خطابًا عشية الانتخابات يدعو فيها المواطنين العرب لعدم التصويت للحزب الشيوعي”.
لقد وصل الخطاب القومي التحرري إلى فلسطينيي 48، من خلال شخصية جمال عبد الناصر الكاريزمية والملهبة للمشاعر، عبر موجات الراديو والتلفزيون، لتثير في الناس الأمل من جديد بعد صدمة النكبة، التي حوّلتهم إلى أقلية بعد أن كانوا أكثرية في بلدهم. لقد ساهمت الناصرية، أكثر من أي عامل آخر، في صقل الوعي القومي وبعثه من جديد بعد تدمير المدينة الفلسطينية وتحويل النخب السياسية والاجتماعية إلى لاجئين، وبقاء من تبقى في الوطن كمجموعات متناثرة ومشتتة خائفة على مصيرها بعد ما شهدته في النكبة وما بعدها. وكان للناصرية دورًا حاسمًا في عودة الوعي الوطني والقومي وفي مجريات السياسة في الداخل الفلسطيني في سنوات الخمسين والستين من القرن العشرين.
حركة الأرض
تأسست حركة الأرض رسميًا عام 1959، بعد انشقاق حصل بين القوميين والشيوعيين، الذين عملوا معًا في صفوف الجبهة الشعبية، التي تأسست عام 1957. وكان سبب الانشقاق هو التوتر بين القوميين والشيوعيين بسبب خلافات عبد الناصر مع عبد الكريم قاسم ومعارضة الشيوعيين للوحدة، وكذلك أزمة في علاقات مصر بالاتحاد السوفيتي.
وإذ أدّى صعود عبد الناصر وتنامي المشاعر القومية عند فلسطينيي 48 إلى ارتفاع في نسبة تصويتهم لقائمة الحزب الشيوعي من 16% عام 1951 إلى 35% عام 1955، فإن صدامه مع الشيوعيين في العالم العربي أدى إلى انهيار التأييد لهم في انتخابات 1959 إلى نسبة 11% فقط، وانخفض كذلك تمثيل الشيوعيين في بلدية الناصرة من ستة إلى ثلاثة أعضاء في المجلس البلدي. وهذا دليل واضح على مدى تأثير جمال عبد الناصر على فلسطينيي 48 خلال تلك الفترة، التي كان فيها الحزب الشيوعي هو الحزب غير الصهيوني الوحيد على الساحة. وبمنظور تاريخي فإن تأثير عبد الناصر والناصرية والتيار القومي عمومًا في فترة الخمسينيات والستينيات كان هو التأثير الطاغي على وعي ووجدان ومشاعر فلسطينيي الداخل، فقد منحهم شحنة كبيرة من الإحساس بالعزّة والكرامة في وجه الاستعمار الداخلي الإسرائيلي، وما من شك أن هذا التأثير كان أكبر بكثير من تأثير الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان له أثر مهم في بعض البلدات وفي بعض الأوساط، لكن التأثير الناصري كان في كل بلد وبين كل الأجيال والفئات الاجتماعية بلا استثناء.
كان لموقف الشيوعيين في العراق وسورية ومصر والأردن ولبنان المعارض لعبد الناصر ولمشروع الوحدة مع سورية، أثر سياسي كبير على فلسطينيي 48، حيث حصل تراجع كبير في دعم الحزب الشيوعي وخرج القوميون من الجبهة الشعبية وقاموا بتأسيس حركة الأرض، التي جاءت بتأثير ناصري قوي، كما جاء على لسان واحد من أهم قياداتها ومؤسسيها، منصور كردوش: “إن الحركة الناصرية أثرت فينا كثيرًا، وأعطتنا دافعًا كبيرًا للعمل، خصوصًا أن جمال عبد الناصر في ذلك الوقت كان يعبر عن كل أمانينا، وآراؤه مقبولة من قبل العرب في إسرائيل. فالعرب تجاوبوا مع آرائه القومية. وقد كنا نعبر عن موقف الجماهير من خلال تماثلنا مع آراء عبد الناصر… في أحد أعداد صحيفة الأرض وضعنا في الصفحة الأولى صورة عبد الناصر وكتبنا “ناصر العرب في يوم النصر”، وكانت هذه الصورة سببًا في توزيع 1000 نسخة بسرعة خيالية.”
يكمن المعنى السياسي وراء الخطوة الإسرائيلية القاضية بإخراج حركة الأرض عن القانون بأنها منعت عمليًا تأطير وتوجيه الدعم الكبير الذي لقيته أفكار وآراء وتوجهات الرئيس جمال عبد الناصر، في حركة وحراك سياسيين
يستدل من هذا الكلام أن حركة الأرض استندت في عملها إلى الشعبية الطاغية لجمال عبد الناصر وإلى تأييد الناس لها بسبب تبنيها للناصرية. وإذ كانت حركة الأرض صغيرة الحجم نسبيًا، ألا أنها نالت شعبية واسعة وكان لها حضور بارز في صفوف الطلاب العرب في الجامعة العبرية، حيث تأسست عام 1959 أول لجنة طلاب عرب بتأثير مناخ النهوض القومي، وكان التيار القومي هو تيار الأغلبية بين الطلاب العرب، وكان الفضل في ذلك يعود إلى حضور الخطاب الناصري، الذي تقبّله الطلاب الطامحين إلى هوية قومية واضحة غير مرتبكة.
اتهمت السلطات الإسرائيلية حركة الأرض بأنها حركة ناصرية معادية للدولة وتقوم بتحريض المواطنين العرب، وقامت بملاحقتها وملاحقة قياداتها من خلال تقييد التنقل والحركة والإقامة الجبرية والنفي والاعتقال إلى أن جرى إخراجها عن القانون نهائيًا عام 1965، ولكن قياداتها بقيت ناشطة في أطر أهلية وسياسية أخرى، واندمج بعضها في الحركة التقدمية التي قامت عام 1984، وفي حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي قام عام 1995.
يكمن المعنى السياسي للخطوة الإسرائيلية، التي أخرجت حركة الأرض عن القانون بأنها منعت عمليًا تأطير وتوجيه الدعم الكبير الذي لقيته أفكار وآراء وتوجهات الرئيس جمال عبد الناصر، في حركة وحراك سياسيين، مما أجبر الكثيرين إلى دعم الحزب الشيوعي الإسرائيلي بسبب انعدام البديل القومي. وبعد انقطاع دام سنوات طويلة، تأسست حركة أبناء البلد عام 1970، التي وضعت مركز الثقل على الوطنية الفلسطينية وكذلك كانت الحركة التقدمية التي أسست عام 1984، وحين قام التجمع الوطني الديمقراطي عام 1995، أعاد في فكره وسياساته التوازن اللازم بين وطنية فلسطينية وقومية عربية، من خلال مبدأ “عمل وطني بأفق قومي”.
قام حزب التجمّع الوطني الديمقراطي كحزب قومي عربي ووطني فلسطيني صاحب مشروع ديمقراطي يساري مشدّدًا على الهوية القومية والانتماء الوطني وعلى لزوم تطوير المشروع القومي العربي على أسس العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وتطوير الحضارة العربية والحداثة العربية. كانت نقطة الانطلاق في مشروع التجمّع هي تراث التيار القومي العربي، الذي كانت الناصرية مشروعه الأهم والأكثر تأثيرًا. والمشروع الناصري بإنجازاته الكبرى وإخفاقاته المؤلمة هو مكوّن هام من تاريخ أي مشروع قومي عربي والقطيعة معه هي قطيعة مع فكرة القومية العربية ذاتها.
وفاة الرئيس
أذكر جيّدًا ذلك اليوم، حيث كانت الصدمة فظيعة، وكان الشعور أن بيوت البلد بيتًا بيتًا حلّت بها مصيبة وفاة عزيز. بدأ أصدقاء الوالد بالقدوم وجلسوا بهدوء وحزن وسكينة، أخذت مكاني بجوارهم علّني اسمع شيئًا مما يقولون. كان صمتهم رهيبًا، ومن حين لآخر تمتم أحدهم كلمات مثل “لا أصدّق”، “ما قيمة العرب بعده”، “خلّي الخون يفرحوا”، “لا أريد أن اسمع الأخبار بعد اليوم”… كانت الأجواء أصعب من يوم “خطاب التنحي”، حينها كان هناك أمل أن يتغيّر القرار.
في ساحة القرية تجمهر الشباب حائرين ما العمل. وكان القرار أن تكون مسيرة وجنازة رمزية مع صلاة الغائب. وكانت مسيرة جبّارة شارك فيها كل الناس شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساءً، زحفوا إلى المدارس وأخرجوا الطلاب منها هاتفين “لا دراسة ولا تدريس إلّا بدفن الرئيس”، وانضم الطلاب إلى المسيرة واتجهت نحو بيت الإمام وطلب منه الشباب أن ينضم إلى المسيرة لكنه كان خائفًا من عقاب السلطات فأغلق بيته على نفسه، فقام الشباب بالقفز فوق السور وخلعوا الباب وأجبروه على الخروج حيث أقام صلاة الغائب، وتحمّس وألقى كلمة رثاء لم يتوقعها منه أحد.
المشاركة الشعبية في مسيرات الحداد على وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في قرى ومدن الداخل الفلسطيني، لم يكن لها مثيل لا قبلها ولا بعدها. لم يحدث أن كانت مشاركة شعبية بهذه النسبة وبهذا الحجم، حيث عمّت المسيرات كل البلدات بلا استثناء وشارك فيها من لم يشارك في أي مسيرة من قبل أو من بعد. ويصف الأستاذ فتحي فوراني في كتابه “جداريات نصراوية: شرفات على الزمن الجميل”، ما حدث في الناصرة يوم وفاة جمال عبد الناصر: “يقع الخبر وقوع الصاعقة… تمتد نيران تسونامية إلى الصفوف… فينهض الطلاب منذهلين وغير مصدقين… يتركون مقاعدهم على عَجل ويخرجون إلى فضاء مجنون… فلا يعرفون ماذا يفعلون وإلى أين يتّجهون! يخرجون من الصفوف ويتدافعون ويتدفّقون نهرًا بشريًّا حائرًا… ولا يصدّقون الخبر! يصبّون في ساحة المدرسة… فيتبعهم المعلمون والمربّون والموظفون… وبشكل عفوي… ينهض البحر ويبدأ بالزحف… ويشقّ طريقه ليبتلع الشارع الرئيسي على مهله… ميممًا وجهه شطر عين العذراء… وعلى ضفاف الشارع اليتيم… يغلق العباد حوانيتهم ومحلاتهم التجارية… وينضمّون إلى هدير البحر وأمواجه المتلاطمة… ومع كل خطوة… يزداد البحر اتساعًا… ليصبح محيطًا بلا شواطئ! ويصبّ العباد في ساحة رحبة تجلس عليها تلّة مرتفعة أمام كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس. ويخيّم الحزن العميق على المحيط البشري. الوجوه واجمة… والعيون “عيون” جارية… وبعضها يتدفق دموعًا حمراء حرّى. في الصدور براكين تتململ. وفي الحلوق ألف غصّة وغصّة. وعلى التلة الصغيرة المحاذية لمدرسة “أبو جميل”… وعلى مقربة من مقهى جرجورة… يعتلي الكاهن الوطني “أبونا” سمعان نصار شامخًا… وخاطبًا في المحيط البشري مترامي الأطراف… المحيط بكامل جهوزيته قلبًا وعقلًا ووجدانًا… وآذانًا مُصغية… لسماع خطبة الكاهن النصراوي. وينطلق صوت بلال الحبشي… مؤذن الرسول… من حنجرة الكاهن الوطني… الأب سمعان نصار. الله أكبر… الله أكبر… الله أكبر! يعيدها مثنى وثلاثَ ورُباع! الله أكبر… الله أكبر… الله أكبر! تتدفق الدماء الساخنة في عروق البحر… ويقفّ شعر البدن… وتتفتح الشرفات لتطلّ على مشهد لم تشهد المدينة له مثيلًا! يقف الرجل على رأس التلة… ويروح يلقي خطبة وطنية تهزّ المشاعر وتكهرب الوجدان… يعدّد فيها مآثر العملاق الأسمر… ويصور آثار الصاعقة التي زعزعت نفوس العباد وزلزلت المشاعر…”.
“من يقرأ بروتوكولات الحكومة الإسرائيلية والوثائق، التي يتم نشرها حديثًا، يعرف كم كان عبد الناصر يغيظ إسرائيل ويسبب لها الأرق وأحيانًا الفزع، ويعرف كم كان موشي ديان مثلًا متفائلًا بعد وفاة الرئيس”
بعد وفاة جمال عبد الناصر، عقدت الحكومة الإسرائيلية جلسات خاصة لبحث تداعيات الحدث على إسرائيل، واستمعت فيها إلى تقارير من وزير الشرطة العراقي الأصل، شلومو هليل، تحدث فيها عن الأوضاع في القدس الشرقية وفي البلدات العربية في الداخل الفلسطيني، وادعى بأن المسيرة في الناصرة تحولت إلى أعمال شغب. وقالت رئيسة الحكومة الإسرائيلية، غولدا مئير، خلال الاجتماعات، إنها لا تسمح لأي مسؤول إسرائيلي، حتى رئيس الدولة بإصدار بيان حول الوفاة. ورفضت الحكومة الإسرائيلية اقتراحًا بالسماح لقيادات من القدس المحتلة ومن الداخل الفلسطيني بالمشاركة في جنازة الرئيس جمال عبد الناصر. ومع ذلك، صرّح رئيس دولة إسرائيل زلمان شازار، بأنه يتفهم مسيرات الحداد ومشاعر المواطنين العرب تجاه وفاة عبد الناصر، وتعرّض في أعقاب ذلك لهجوم عنيف من القيادات السياسية والإعلام في إسرائيل.
من يقرأ بروتوكولات الحكومة الإسرائيلية والوثائق، التي يتم نشرها حديثًا، يعرف كم كان عبد الناصر يغيظ إسرائيل ويسبب لها الأرق وأحيانًا الفزع، ويعرف كم كان موشي ديان مثلًا متفائلًا بعد وفاة الرئيس. كل ذلك لأن قضية فلسطين كانت بالنسبة لعبد الناصر قضية مصر والأمة العربية، وقد ساهم بجعلها كذلك في قلوب العرب عمومًا والمصريين خصوصًا.
لقد شعرت مثل أهل بلدي يوم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، بأن العالم ينهار أمامي وأن فلسطين أصبحت يتيمة. لكنّي اليوم وبمنظار تاريخي، ورغم كل الصعاب، لا زلت أعوّل على أن روح الناصرية وأحلامها الكبرى لا زالت تحوم في مصر الكنانة، التي ستنهض وتنهض معها الأمّة، لتحقق أملنا جميعًا في الحرية والعدالة وسعادة الإنسان وكرامته.
د. جمال زحالقة – رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي
بس السؤال اﻻ بطرح نفسه وينتا بدنا نربط بيوتنا بالكهرباء عن قريب ولا بعد مئة سنه