بروفا حية في الكنيست
تاريخ النشر: 27/01/18 | 15:34قرار نواب القائمة المشتركة بضرورة التشويش على خطاب نائب الرئيس الأمريكي بينس أمام هيئة الكنيست كان صائبًا، وذلك على الرغم مما استجلبه من مواقف منتقدة أو متحفظة أو ساخرة أو ناصحة، فلقد أوصل المشهد، على قصره وما صاحبه من فوضى، الرسالة وتحول إلى حدث “معطل” ، فخلق توازنًا إيجابيًا في جيوب هامة في الإعلام العالمي وعكّر حميمية الأجواء كما أرادوا أن يشاهدها العالم، وترك في مخيّلات المشاهدين تذكارًا على تعقيد الواقع في بلادنا وعلى وجود سرديات تتناقض مع ما عبر عنه بينس وتحمس له المصفقون.
في المقابل لا يمكن طي ما شاهدناه واحتسابه حدثًا عاديًا أو عابرًا، فقرار رئيس الكنيست بطرد جميع نواب القائمة المشتركة إلى خارج القاعة هو قرار غير مسبوق في حياة هذه المؤسسة، وسرعة انقضاض حرس الكنيست على النواب مجتمعين بهمجية وكراهية فياضتين عرّت كمية الحقد الدفين في نفوس ذلك الحرس الذي أنهى مهمته بثوان معدودات وفي فضاءات عدائية ومسعورة رافقها صمت أحزاب المعارضة بما فيها النواب من حزب “ميرتس”.
لقد شاهدنا ما هو قريب لعملية عسكرية، كان ميدانها هذه المرة قاعة الكنيست، وتجلت فيها، بمجاز شفيف، جميع العناصر لما قد يواجهه المواطنون العرب باسم الديمقراطية وأمام أعين كل العالم وعلى ايقاع تصفيق معظم قادته وفي طليعتهم قادة أمريكا وحلفائها.
يمكننا اعتبار ما رأيناه بمثابة “البروفا” الناجحة لعمليات مستقبلية يتم فيها طرد مواطنين عرب في ظروف مختمرة و”مواتية” تستوجبها ضرورة دفاع “الديمقراطية الإسرائيلية” عن نفسها من أعدائها الذين في الداخل.
منذ سنوات ومؤسسات كثيرة ترصد وتائر انهيار “الأسوار الواقية” لسلطة قانون حمت ولو بشكل نسبي ومنقوص حقوق المواطنين العرب الأساسية وتعايشت بهشاشة مع شرعية نشاطهم السياسي والاجتماعي الجمعي والمؤسساتي، ونحن نشهد منذ سنوات تحول جذري في علاقة الدولة ومؤسساتها مع الجماهير العربية، ونواجه تبعات نشوء نظام تستعدي منظومات حكمه خمس مواطنيه بشكل مؤدلج وممنهج وتتصرف هذه المنظمات بما ينتجه ذلك الاستعداء وأهمه مسح شرعية وجود الاقلية بقسماتها الجمعية المكتسبة في العقود الماضية، والغاء الشرعية عن المؤسسات القيادية الناشطة بين صفوف هذه الأقلية.
نحن اليوم نخضع لعملية إذابة وجودية تدريجية ولمحاولات صهر الهوية الجمعية وتفتيتها من خلال استيعاب أفراد ومؤسسات وقيادات محلية جديدة وقبول هؤلاء للعيش تحت سقف يهودية الدولة وصهيونيتها كما يعبر عن ذلك معظم مركبات الحكومة الحالية والأكثرية اليهودية.
إنها مرحلة جديدة في حياة الجماهير العربية وفي حياة الدولة وفيها تنحسر جميع الهوامش ويلاحق بدون هوادة كل صوت لا يتناغم مع نهج السرب المهيمن، وقد نجد في قرار وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بحق الشاعر والكاتب يوناتان جيفن دلالة رمزية جديدة عمّا وصلت إليه غطرسة النظام وما هي حدود انتقامه وقمعه.
فمجرد أن تجرأ هذا الشاعر الصهيوني وكتب قصيدة قصيرة في الأسيرة عهد التميمي وقارنها مع بعض أسماء المناضلات من أجل حرية الانسان أصدر الوزير تعليماته لإذاعة الجيش مطالبًا حظر نشر أي قصيدة له أو إجراء مقابلات معه، لأنه يصف “مخربة” بأنها، ” فتاة جميلة عمرها 17 ربيعًا، أقدمت على فعل “فظيع”، فعندما داهم ضابط إسرائيلي فخور بيتها، صفعته، لقد ولدت الفتاة في هذا الواقع، وفي هذه الصفعة جمعت خمسين سنة من الاحتلال والاذلال، في اليوم الذي سيقصّون قصة النضال، أنت، عهد التميمي، حمراء الشعر، ستكونين مثل داود الذي صفع جوليات، وستكونين في نفس الصف، مع جان دارك، وحنة سينش وآنا فرانك”.
أعرف أنه حدث صغير مقارنة بالملاحقات السياسية للقادة والحركات والمؤسسات العربية وأنه خربشة خفيفة بالمقارنة مع رزمة القوانين التنينية التي شرعتها الكنيست ضد العرب ومواطنتهم العرجاء، لكنه يبقى، كما قلنا، مؤشرًا على فداحة ما وصلت إليه حالة الحكم ونهم قادته ويعكس في ذات الوقت، صورة “المعسكرات” البشرية القائمة في الدولة، فإلى جانب الضحايا العرب قد نجد فئات صغيرة تختلف مع سياسة القمع والحقد والطمس الرائجة، ومن المنطق والضرورة أن نسعى إلى إستمالتم وموضعتهم في خنادقنا، فبدونهم نحن أضعف ومهمة ابتلاعنا الناجزة، ستصير أسهل وأقرب.
لا يمكن فصل السيرورات السياسية والاجتماعية المتفاعلة في كلا المجتمعين، اليهودي والعربي، فقط لأن الأكثرية اليهودية مرت بعملية كي قيمية وسياسية خطيرة تحول من جرائها الأفراد إلى مجرد كائنات صنمية فقدت قدرتها على التفكير والاختيار فصاروا جيشًا محرضًا على العرب لكونهم عربًا وحسب؛ فعلى الرغم من هذا الواقع ما زالت هنالك تناقضات واضحة داخل المجموعات السكانية اليهودية المختلفة والى جانبها قد نجد، في الهوامش، بعض المصالح المشتركة مع قسم منهم، ونتوصل إلى مواقف وقيم متشابهة لأنها تستشرف ذات المستقبل المنشود عندنا وعندهم على حد سواء.
لن ننجو من سوء ما ينتظرنا وذلك اذا تخلينا عن واجبنا بايجاد هؤلاء الحلفاء، ففي الماضي نصحنا ببذل كل المحاولات للوصول إلى تلك الجيوب التي تتعارض قيمها ومواقفها ومصالحها مع السياسات السائدة في أوساط الأحزاب السياسية التي تتبعها أكثرية المجتمع اليهودي، ومهما كانت تلك الأصوات خافتة أو شاذة أو نادرة علينا جذبها الينا والتحالف معها، فيونتان جيفن كتب ما كتب رغم تاريخه الصهيوني ومثله فعل في الماضي عديدون من الأدباء والشعراء والفنانين والأكاديميين ومعهم وقف بعض السياسيين الذين خرجوا من قوالبهم، لكننا لم نبحث عنهم وعن كيف من الممكن “التجبهن” معهم بل تركناهم على أرصفة الوحدة والعثار، فسكتوا وضعفنا.
لقد حرم قرار رفع نسبة الحسم في الانتخابات السابقة معظم الأحزاب والحركات العربية من ممارسة حرياتها الفكرية، وأجبرها، في لحظة اندهاش سياسية، على اقامة القائمة المشتركة، التي ولدت عمليًا في ظروف غير مختمرة وبقيت حتى ساعتنا تتصرف ك”ابنة السبعة” غير مكتملة البلوغ والنضوج.
كانت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة أول الأحزاب التي جمدت مشاريعها السياسية الكبرى من أجل انجاح اقامة القائمة المشتركة، وقد رافق ذلك تنازلها عن مبادرات متقدمة لاقامة تحالفات واسعة مع فئات وشخصيات يهودية وصهيونية عبرت في حينه عن استعدادها للالتحاق بصفوف الجبهة بهدف أقامة جسم عربي يهودي مختلط سيحاول الوقوف في وجه قوى اليمين المستوحشة والمتنامية.
كان موقف الجبهة مبررًا فالسياسة أولويات، والوحدة المفروضة، كما أتاحتها تداعيات المرحلة بين مركبات المشتركة، كانت مطلب الساعة وضرورة وجودية، على الأقل لبعض تلك المركبات، فحتمت على الجميع تبني التجربة وخوضها والعدول عن بدائل حزبية فردية.
ما زالت تجربة القائمة المشتركة فجة، وهي تواجه في هذه الايام أزمة كشفتها مشكلة التناوب والمحاصصات، لكنها بنظري أعمق من هذه الجزئية وأخطر، وبما أننا لا نعرف كيف ستنتهي هذه الأزمة وما سيكون في الانتخابات القادمة، وبما أن الاتفاق بين مركبات القائمة على مبدأ التحالف مع القوى اليهودية والصهيونية حول مسائل عينية سيبقى موضوعًا مبدئيًا خلافيًا، وبما ان الجبهة ما زالت مقيدة بتصرفها منفردة في هذه المسألة، وبما أن هنالك خلافات جوهرية وعوائق بنيوية تمنع مجابهة قضايا مصيرية أخرى يعاني منها مجتمعنا، مثل العنف المستشري ومكانة المرأة، والاعتداءات على الحيزات العامة، وطريقة التعامل مع مؤسسات الدولة وغيرها، لا يمكننا ان نستبشر بتغيير أحوالنا ولا بوجود أمل جدي بالتصدي لما يحدق في مصائرنا من مخاطر حقيقية وجودية.
هنالك من يفترض ان بقاء القائمة المشتركة هو خيار حتمي ومصيري والبعض يقترح تطوير التجربة عن طريق اسنادها بتوافقات سياسية فكرية تساهم بتمتينها وتسهيل عملها المثمر في المستقبل، أما انا فلا اتصور ان هذا الامر ممكنا لان الاختلافات العقائدية بين مركباتها جذرية واساسية ولا يمكن التجسير بينها او إلغائها.
على جميع الاحوال فستبدي لنا الايام ما نجهله، والى ان يتم ذلك اذكر بفكرة تشكيل مجلس طوارئ قطري، يتابع، بالتوازي وليس كبديل لأي مؤسسة قائمة، بعض هذه القضايا التي لم تنل عناية جوهرية مؤثرة.
ترمي الفكرة إلى إقامة جسم من خمسين شخصية اعتبارية تمثل قطاعات واسعة من الشعب (الرقم مجرد اقتراح يمكن تغييره حسب الحاجة والاتفاق) ولا يعتمد الانتماءات الحزبية الرسمية شرطًا للعضوية.
يتمتع هذا المجلس بحرية العمل من غير روابط حزبية مقيدة او مصالح شخصية ضيقة، مما سيتيح لاعضائه امكانية ابتكار وسائل عمل جديدة واساليب مستحدثة وطرق ابواب لم تطرق، وتعد كلها كمقترحات تعرض أولا على المؤسسات القيادية ومن ثم على الناس.
انها مجرد فكرة أولية ما زالت بحاجة الى تفكيك ودراسة واعداد، واعرف انها قد تروق للبعض وقد يعترض عليها آخرون ، لكننا في زمن المخاطر الكبرى ولأننا فيه فنحن بحاجة الى خوض غمار المستحيل وتجريب ما قد يسهم ويفيد، فطوبى لمن يسعى ويحاول وفي قناديلنا ما زال بعض من زيت.
جواد بولس