وصف لابن المقَفَع – كيف نكون؟
تاريخ النشر: 29/01/18 | 8:35• ابن المقفَّع هو روزُبه بن داذويه. ولد في بلدة صغيرة تُعرف حاليًا باسم فيروز أباد في بلاد فارس ( 724- 759م)، ولُقب الأب المقفَّع- لأنه اختلس من أموال الدولة، فعاقبه الحجاج بالضرب على يديه، فتقفعت يداه- أي تورمتا فتشنجتا، فعرف بالمقفَّع، وعُرف ابنه بابن المقفَّع.
غير أن هناك من دعا الأب المقفِّع، لأنه كان يبيع القِفاع أي يبيع الجريد، وهي شبيهة بالزنبيل بلا عروة، وتُعمل من الخوص. (ابن الأثير- البداية والنهاية، ج10، ص 102 حوادث 145 هـ، فهو يقول:
“قال ابن خَلِّكان: ومنهم من يقول إن ابن المقفِّع (بكسر الفاء) نسب إلى بيع القِفاع، وهي من الجريد كالزنبيل بلا آذان، والصحيح أنه ابن المقفَّع (بفتح الفاء) وهو أبوه داذويه- كان الحجاج قد استعمله على الخراج، فخان فعاقبه، حتى تقفعت يداه”).
أسلم بعد أن انتقل مع والده لمدينة البصرة، حيث كان يرتاد المساجد لينهل العلم من العلماء الأجلاّء، وبعد اعتناقه الإسلام أطلق على نفسه اسم عبد الله.
راق لي هذا الكاتب بأسلوبه في الكتابة، وبسلوكه، وخاصة حكاية ما جرى بينه وبين عبد الحميد الكاتب وإخلاصه له وتفانيه.
ترجم (كليلة ودمنة) حتى كاد الكتاب يكون له كله أو بعضه، وألف (رسالة الصحابة) وفيها نقده للسلطة. وله كتاب (الأدب الكبير)، والمراد بالأدب هنا أدب النفس. وهذا الكتاب يبحث في السلطان وآدابه، وفي الصداقة ومعاملة الأصدقاء وآدابهم، ويعرض بعض الحكم والنصائح لطالب العلم والأدب.
أتبعه بـ (الأدب الصغير)- سماه بذلك تمييزًا له من (الأدب الكبير) لصغر حجمه، وتحدث فيه عن حاجة العقل إلى الأدب، وتأثير الأدب في إنماء العقول، وحفظ أقوال أهل الرأي والمشورة، والاقتداء بالصالحين، والأخذ عن الحكماء.
له أسلوب رقيق بعيد عن التكلف، يميل إلى التفصيل فلا ينسى جزءًا من موضوعة إلا وتناوله بأداء معبّر، ولنقرأ نصيحة له في كتاب (الأدب الكبير):
“ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رِفدك ومحضرَك، وللعامة بِشرك وتحنّنك، ولعدوك عدلك. واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد”.
لاحظ الأسلوب التوزيعي التدرجي- صديقك، معرفتك، العامة، العدو…، وكيف اختتم – عن كل أحد، فلكل سلوك يجدر بك أن تعامل به، ولاحظ هذه الأخلاق التي يدعو لها في مضمون خطابه.
أتوقف هنا على وصف جدير بنا أن نعلّمه في نصوص الأدب، فلو سلك كل منا كما يصف لكنا في خيرعميم وفضل مقيم.
يقول في كتابه (الأدب الكبير):
إني مخبرك عن صاحب كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه عندي صغر الدنيا في عينه.
كان خارجًا من سلطان بطنه، فلا يتشهّى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد،
وكان خارجًا من سلطان فرجه، فلا يدعو له رِيبة،
وكان لا يستخف له رأيًا ولا بدنًا، وكان لا يأشَر (أي يبطر) عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة،
وكان خارجًا من سلطان لسانه، لا يتكلم بما لم يعلم، ولا يماري (أي يجادل) فيما يعلم !
وكان خارجًا من سلطان الجهالة، فلا يتقدم أبدًا إلا على ثقة بمنفعة،
وكان أكثر دهره صامتًا. فإذا نطق بذَّ (أي فاق) القائلين.
كان يُرى ضعيفًا مستضعفًا،
فإذا جدَّ الجِد فهو الليث عاديًا!
وكان لا يدخل في دعوى، ولا يشارك في مِراء، ولا يُدلي بحُجّة حتى يَرى قاضيًا عادلاً وشهودًا عدولاً.
وكان لا يلوم أحدًا على ما قد يكون العذرُ في مثله حتى يعلم ما اعتذارُه.
وكان لا يشكو وجعًا إلا لمن يرجو عنده البرء.
وكان لا يستشير صاحبًا إلا من يرجو عنده النصيحة.
وكان لا يتبرّم (أي يضجر) ولا يتسخط، ولا يتشهّى ولا يشتكي !
وكان لا ينقم على الوليِّ ولا يغفُل عن العدو،
ولا يخصّ نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته.
فأين نجد هذا الموصوف؟ وليمتحن كل منا نفسه، أين أنا من كل وصف؟
يختم ابن المقفع هذا الوصف المميز المثالي بقوله:
فعليك بهذه الأخلاق إن أطقتها – ولن تطيق- ولكن أخذ القليل خير من ترك الجميع.
(الأدب الكبير: حسن المجالسة وسوءها- نقلاً عن موقع الوراق ص 27، ومن كتاب “الأدب الكبير والأدب الصغير، ص 207)
ب. فاروق مواسي