من أجمل النقد
تاريخ النشر: 04/02/18 | 7:40أعجبت كثيرًا بما ذكره ابن قُـتَيبة الدِّينَـوَري في كتابه (الشعر والشعراء)، فقد عمد إلى ما نسميها اليوم (الموضوعية)، بكل ما فيها من نزاهة وعدم تحيز.
فلنقرأ منهجه في اختيار النصوص:
“ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له، سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره.
..
ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر (منهم) بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرت عليه حقه.
* فإنى رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه فى متخيَّره، ويُرْذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل فى زمانه، أو أنه رأى قائله.
..
* ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده فى كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا فى عصره، وكل شرف خارجيًا فى أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يُعَدون مُحدَثين. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد كثُر هذا المحدَث وحسُن حتى لقد هممت بروايته.
..
* ثم صار هؤلاء قدماء عندنا ببعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا، كالخُرَيميّ والعَتّابي والحسن بن هانىء وأشباههم.
فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه (له)، وأثنينا به عليه، ولم يضعْه عندنا تأخرُ قائلِه أو فاعله، ولا حداثةُ سنه. كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه”
(الشعر والشعراء، ص 62- 63 الفقرات 12- 15)
…
قوله: «وكل شريف خارجيًّا»- الخارجي: الذى يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم. ومنه الخارجية- وهى خيل لا عرق لها فى الجودة، فتخرج سوابق، وهى مع ذلك جياد.
..
لاحظنا منهج الناقد الذي لا يهمه في الاختيار جيل الشاعر أو أصله أو فصله، لا يهمه إن كان قديمًا أو حديثًا، ولا يتبع الآخرين في مختاراتهم التي اختاروها وفي مقاييسهم التي عمدوا إليها، فالشعر شعر، وانظر الفرق بينه في موضوعيته وبين أبي عمرو بن العلاء وقوله: “حتى لقد هممت بروايته”، فقد همَّ ولم يفعل، بينما ابن قتيبة خلف لنا كتابًا رائعًا ومصدرًا مهمًا وَفق رؤيته التي قدّم لها.
..
من صفات الناقد الناجح أن يكون متجردًا، وأن تسلم عاطفته من أفكار مسبقة، فلا هوى ولا زيغ، وقد كان لنا سابق عهد في هذا الهوى- يوم أن كان الأدباء في الجليل والمثلث في مرصد الحزب الشيوعي، فشعراؤهم هم الطليعة، والغمط والتهميش للآخرين.
..
كذلك الأمر فيما جرى في العالم العربي، فقد كان هناك تأثير في الحكم الأدبي للقومية أو الطائفية أو الإقليمية، بل للحداثة والقدم، حتى أن بعض الصحف الاستحداثية لم تكن تنشر شعرًا عموديًا، والمتعصبون للقديم كانوا يرفضون نشر الشعر الجديد، ورحم الله العقاد الذي كان حكَمًا لتقرير جائزة الشعر في مصر، فكان أن تقدم إليه الشاعران صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي في ديوانين لهما، فما كان منه إلا أن كتب على غلاف كل منهما:
“يحال إلى لجنة النثر”.
..
فما أحرانا أن نقرأ ابن قتيبة، وألا نمسخ إبداع المستحقين، لا لسبب إلا لأن تجربة الشاعر لا توافق هوانا.
فعلى الناقد الحق أن يرحب بالتماعات الأدب الجديدة وبإشراقاته، وبالابتكار الخلاق، فالخروج عن المألوف من علامات الأدب الجديد الرافض لمومياوات مكرورة ولسدود مركومة.
..
ولكن هذا لا يعني قبول الفوضى والجهل باللغة، وتسويغ الأمية الثقافية، فالثقافة هي أول تأهيل في جواز المرور لأي أديب، وكذلك فإن عليه التعرف إلى بدائع الأدب العالمي، والتعمق في علم الجمال، والخبرة في ميادين العلوم العصرية.
وإذا كان ذلك من شروط الإبداع، فكم بالحري أن يكون كذلك من شروط النقد، حتى يمتلك الناقد سلامة الذوق، فيتذوق الجمال، ويقوّم العمل الأدبي متجاوبًا مع النص ومتمثلاً له، ومدركًا أبعاده، وسابرًا أغواره.
وعندما يعايش الناقد النص بعاطفته وتجربته وفكره، ويتبناه بصدق يكون مدعوًا لاستخراج المعنى حسب تصوره، فيتقرّى أثر الإيحاء محاولاً الكشف عن الإبهام أو الغموض، فالكشف يوصله إلى التقويم، والتقويم في مجمله يدعو بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى التوجيه.
..
في النقد تدريب على أن نفكر باستقلالية، فإذا لم نقدم فكرة مجدية من خلال النقد، يتعلم منها المتلقي ما يفيده ويوسع أفق تفكيره، فالأجدى ألا نضيع وقتنا سدى في بيان مسائل ثانوية لا تسمن ولا تغني من أدب- كما نلاحظ من كثير من الأبحاث الأكاديمية الجافة.
مما أستهجن في قراءاتي ألا يحقق الناقد وألا يدقق في معلومته أو في رأيه.
لكن قبل ذلك ومع ذلك فعلى الناقد أن يستقصي ما كُتب سابقًا، فلا يكرر ما قيل، ولا يتنكر لكاتب اقتبس منه حرفيًا دون الإشارة إليه، فهذا من قلة الأدب، ورحم الله ابن المقفع وهو يقول في (الأدب الكبير):
“فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع جمعت مع الظلم قلة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس”. (آثار ابن المقفع، ص 263).
ب. فاروق مواسي