يوم عَـبـيد يوم نحس
تاريخ النشر: 06/02/18 | 9:14س- ما هو “يوم عبيد” في قول أبي تمّام وهو يمدح أحمد بن دُواد؟
لمّا أظلتني سماؤك أقبلت *** تلك الشهود عليَّ وهي شهودي
من بعد ما ظن الأعادي أنه *** سيكون لي يوم كيوم عبيد
كان الشاعر راضيًا من الممدوح فأقبلت عليه الدنيا، بعد أن ظن أعداؤه أنه سيمر عليه يوم عبيد- أي يوم شؤم وهلاك.
هو يوم يضرب مثلا لليوم المنحوس الطالع، وكان الشاعر عَبيد بن الأبرص حضر فيه للنعمان بن المنذر فى يوم بؤسه- الذى كان لا ينجو منه من لقيه فيه،
وبالمقابل فقد كان لا يخيّب من لقيه فى يوم نعيمه.
(الثعالبي: ثمار القلوب، ص 215- مادة 286)
رويت الرواية في عدد من المصادر أن الذي قتل عبيدًا هو النُّعمان بن المُنْذر. (انظر كذلك ابن قتيبة: المعارف، ص 649؛ ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص 268)
غير أن هناك مصادر – وهي الأرجح- ترى أن القصة بدأت قبل ذلك، وقد جرت مع المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء (وهو جد النُّعمان بن المنذر):
“وكان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجُلان من بني أسد، أحدُهُما خالد بن المضلّل، والآخر عمرو بن مسعود بن كلَدة، فأغْضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يُحْفَر لكل واحد حفيرة بظهر الحِيرة، ثم يُجعلا في تابوتين، ويدفنا في الحفرتين، ففُعِل ذلك بهما، حتَّى إذا أصبح سأل عنهُما، فأُخْبِر بهلاكهما، فندم على ذلك وغمَّه.
ثم ركب المنذر حتى نظر إليهما، فأمر ببناء الغرِيَّين عليهما، فبُنِيا عليهما، وجعل لنفسه يومَين في السَّنة يجلس فيهما عند الغرِيَّين، يُسمي أحدهما يوم نعيم، والآخر يوم بؤس، فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شومًا؛ أي: سودًا، وأول مَن يطلع عليه يوم بؤْسِه يعطيه رأس ظِربان أسود، ثم يأمر به، فيذبح ويُغْرى بدمه الغرِيّان، فلبث بذلك برهةً من دهْرِه، يقتل في يوم بؤسه مَن يطلع عليه.
( الأصفهاني: الأغاني، ج 22، ص 91؛ التذكرة الحمدونية، ج2، ص 431 والغَـرِيّان هما بناءان عاليان أقامهما المنذر على نديميه اللذين قتلهما، وسميا الغريين لأنه كان يغريهما بدم من يقتله، والظَّرِبان أصغر من السنور منتن الرائحة).
لنقرأ حكاية ما جرى مع عبيد من كتاب البغدادي: خزانة الأدب، ج2، ص 217- الشاهد 116)
وهي قصة حوارية من نوادر العرب الرائعة:
“ثُمَّ إنَّ عَبيد بن الأبرص كان أوَّل مَن أشرف على المنذر في يوم بؤسِه، فقال:
هلاَّ كان الذَّبح لغيرِك يا عبيد!
فقال: أتتْك بحائنٍ رِجْلاه. ( والحائن الهالك- فأرْسلها مثلاً)،
فقال له المنذر: أو أجلٌ بلَغ إِناه (أي وقته)،
فقال له المنذر: أنشِدْني، فقد كان شِعْرك يُعْجبني،
فقال عَبيد: حال الجَريض دون القريض. (أرسلها مثلاً، والمعنى أن الغصة تحول دون الشعر، فثمة ما يعوق الأمر) وبلغ الحِزام الطِّبْيين، (فأرْسلها مثلاً، والمعنى أن الأمر تفاقم- أي بلغ السيل الزُّبى، والطِّـبْي حلَمة الضَّرع)،
فقال له النّعمان: أسْمِعني!
فقال: المنايا على الحوايا. (فأرْسلها مثلاً، والمعنى أن الموت يخيم على ما يحويه في بطنه، والمثل يقال لمن يجلب الهلاك لنفسه)،
فقال له آخَر: ما أشدَّ جزعَك مَن الموت!
فقال: لا يرْحل رَحْلََـك مَن ليس معك. (فأرْسلها مثلاً- أي الأمور هي التي تجري معك، وأنت صاحبها)،
فقال له المنذر: قد أمللْتني، فأرحني قبل أن آمر بك!
فقال عَبيد: من عزَّ بَـزَّ. (فأرْسلها مثلاً، وبز تعني غلب، فالقوي له الكلمة)،
فقال المنذر: أنشدني قولك: أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ (مطلع معلقته)
فقال عَبيد:
أقفرَ من أهله عبيدُ *** فَلَيْسَ يُبْدِي وَلا يُعِيدُ
فقال له المُنذر: يا عَبيد، ويْحَك، أنشِدْني قبل أن أذبَحك،
فقال عبيد:
وَاللَّهِ إِنْ مِتُّ لَمَا ضَرَّنِي *** وَإِنْ أَعِشْ مَا عِشْتُ فِي وَاحِدَهْ
فقال المنذِر: إنَّه لا بدَّ من الموت، ولو أنَّ النعمان (؟= ف.م) عرضَ لي في هذا اليَوم لذبحتُه، فاختر إن شئت الأكحل (وريد في وسط الذراع)، وإن شئت الأبجل (وريد في الرجل)، وإن شئت الوريد (وهو في العنق)،
فقال عَبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد، وارِدُها شرُّ وراد (أي هاطلها)، وحاديها شرُّ حاد، ومَعادها شر معاد، ولا خيْر فيه لمرتاد، وإن كنت لا مَحالة قاتلي فاسْقِني الخَمْر، حتَّى إذا ماتت مفاصلي، وذهلتْ لها ذواهلي (غبت عن رشدي)، فشأنك وما تريد.
أمر المنذر بِحاجته من الخمر، حتى إذا أخذتْ منه، وطابت نفسه، دعا به المنذر، ليقتُله، فلمَّا مثَل بين يديْه أنشأ يقول:
وَخَيَّرَنِي ذُو البُؤْسِ فِي يَوْمِ بُؤْسِهِ *** خِصَالاً أَرَى فِي كُلِّهَا المَوْتَ قَدْ بَرَقْ
فأمر به المنذر، ففُصِد (شُقّ وريده لاستخراج دمه) ، فلمَّا مات غُرِّي بدمه الغريان”.
ملاحظات:
نلاحظ أن القصص القديمة حاشدة بالأمثال التي تشتق منها، وأحيانًا يكون المثل مرتبطًا بقصة أخرى، نحو المثل: حال الجريض دون القريض (انظر مثلاً من: معجم المنجد- فرائد الأدب، مادة حال).
يذكر الأغاني (م.س) قصة جميلة كانت سببًا لإبطال يومي النعيم والبؤس، وفيها درس في الوفاء، بطلاها شريك بن عمرو وقُراد بن أجدع، وفيها عبرة للملك ونهج جديد له.
فمن أحب مطالعتها فعليه بالبحث عن أصل المثل- “إن غدًا لناظره قريب”.
من المهم أن نذكّر برفض عبيد أن يقرأ من شعره، ويقرأ ما أحبه الملك، رغم تهديد الملك، وكأنه أنِف أن يكون الشعر لمثله وهو ينوي قتله. كما أن اختياره السكر لموته فيه استهانة طريفة بهذا القتل العجيب.
ب. فاروق مواسي