الطيور.. تسبّح الله وتنفعُ الناس
تاريخ النشر: 06/02/18 | 17:03تحدث القرآن الكريم عن الطير في أُطُرٍ وأغراض متعددة، فذكر منها عشرة أجناس، ذكرها كآية من آيات الله تعالى في خلقها وفي إمساكها وهي طائرة في السماء، فقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل: 79]. وذكرها تعالى كأمة من الأمم لها نظام حكيم فقال: (ومَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: 38]، وأنها من المسبحات لله تعالى تقوم بوظيفة التسبيح والتعظيم له تعالى.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور: 41]، وذكرها كنعمة من نعمه تسر الناظرين ولحم طيب يأكله الإنسان في الدنيا ويتمتع به المؤمنون في الجنة، وأنها رسل تحمل البريد، وتحمل العذاب والوعيد للمعتدين كالطير الأبابيل التي ذكرت في سورة الفيل وغيرها، وكآية من آيات الأنبياء، كإبراهيم وعيسى عليهما السلام..
وكالطير الذي كان يردد التسبيح مع داود عليه السلام، وجنداً من جنود سليمان، ورزقاً طيباً أنعم الله به على بني إسرائيل، فالكل آية من آيات الله تعالى، وجند من جنوده. ومن الطيور التي ذكرت في القرآن الكريم طائر السَّلوَى، والذي جاء ذكره في قصة الأمة العجيبة أمة بني إسرائيل كنعمة أنعم الله بها عليهم، يقول تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة: 57].
وطائر السَّلوى يرى أكثر العلماء أنه طائر السُّمانَى، أو هو نوع منه، ومنهم من قال هو طائر يشبه السُّمانَى طائر بري من رتبة الدجاجيات، وهو أنواع كثيرة، منه ما يستوطن أوروبا ويهاجر إلى إفريقيا في فصل الشتاء ثم يعود مرة أخرى إلى موطنه، فهو طائر مهاجر يغريه الله تعالى بالطقس الدافئ، فيطير جماعات إليه يطلب الحياة، فيحيا ويكون رزقاً وهناءة لغيره، فسبحان من يسوق الأرزاق لعباده.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «وسمي سلوى لأنه يسلي الإنسان عن سائر الإدام». وقد ذكر العلماء في خصائصه أن لحمه مغذ جداً ويزيد الخصوبة، وأكل لحمه يفتت الحصى ويدر البول وينفع في علاج وجع المفاصل، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه من طيبات الرزق، فقال فيه: (كلوا من طيبات ما رزقناكم).
بنو إسرائيل والسلوى :
حق النعمة أن تُشكر حتى تدوم وتكثر، وهذا شأن المؤمنين، وأما جحودها وكفرها فيعرضها للزوال، وقد رحم الله تعالى بني إسرائيل استجابة لدعوة سيدنا موسى عليه السلام، وأراهم من الآيات الكثير، فمنها أنه تعالى حماهم من حر الشمس بأن ظلل عليهم الغمام وهم في فترة التيه بين مصر والشام، وأنزل عليهم أطايب الحلوى وأنفعها وهي المن، وأطايب الطعام وأهنأه وهو طائر السلوى.
يقول تعالى في سورة الأعراف [160]: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ويقول تعالى في سورة طه [ 80- 82 ] مذكراً بني إسرائيل بنعمه عليهم وآمراً إياهم بشكرها:
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
فكان بنو إسرائيل يجدون المـَنَّ وهو حلوى بيضاء تشبه القشدة وحلاوتها كالعسل، يجدونه على الشجر يسقط من بين الفجر إلى طلوع الشمس، ويجدون السلوى بكرة وعشياً تأتيهم جماعات تسوقها الريح فيمسكونها دون تعب، ويتخيرون منها ما يريدون، فالمن طاقة سهلة الامتصاص، والسلوى لحم ما أكثر فوائده، وأمرهم الله أن يأخذوا ما يكفيهم ليومهم ولا يزدادوا على ذلك.
ولكن هل قابل بنو إسرائيل هذه النعم بالشكر؟ وهل اكتفوا بهذا الرزق السهل الرغد؟ وهل أطاعوا وأخذوا ما يكفيهم فقط؟ كلا، لم يثقوا في استمرار رزق الله تعالى، فالحس المادي كان هو المسيطر عليهم، فصاروا يكنزون هذا الرزق خوفاً من انقطاعه..
فذلك قوله:
{وَمَا ظَلَمُونَا} يعني وما ضرّونا، وما نقصونا حين رفعوا من المنِّ والسَّلْوَى فوق يوم، {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يعني أنفسهم يضرّون وينقصون، فأدبهم الله تعالى بأن أفسد كُلَّ ما خزنوه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم » [ متفق عليه ]، والخنز هو التغير والنتن، قال العلماء: «ومعناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى نهوا عن ادخارهما فادخروا ففسد وأنتن، واستمر من ذلك الوقت، والله أعلم».
بطر وملل :
وزيادة على ذلك لم يكتفوا بهذا الرزق الطيب السهل، وملوه وتبطروا عليه، فقالوا لموسى عليه السلام:
(لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، فسألوه ما كانوا يأكلونه في مصر من البقل والقثاء وغيرها، فقالوا : (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)، قتادة: «لما أنزل الله عليهم المن والسلوى في التيه ملوه وذكروا ما كان لهم في مصر قال الله عز وجل:{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} .
كلُّ ما سبق كان دالاً على قلة صبر بني إسرائيل، وعنادهم وتبطرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه، فجازاهم من جنس عملهم فقال: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)، فسبحان من جعل العزَّ في طاعته، وداومَ نعمه في شكرها، وعدم التبطر عليها، يقول تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، فاللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.