في ثقافة العقل العربي
تاريخ النشر: 13/02/18 | 13:10لا شك أن العقل هو المبدأ الذي تقوم عليه مختلف أنشطة الحياة الاجتماعية ، وهو أساس الفكر التنويري المعاصر ، وأضحى مفهوم التنوير ملازماً لمفهوم العقلانية التي تعني العمل بمبادئ العقل.
وقد ازدهرت العقلانية في عالمنا العربي أبان النهضة الاجتماعية والدينية والحضارية للأمة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، التي قادها أعلامها الأفذاذ ومصلحوها الاجتماعيون والسياسيون والدينيون الذين كانوا ضمير الشرق، فأيقظوا النيام في المنطقة عامة ومصر خاصة ، ووضعوا الأسس الفكرية للحركة القومية العربية، ودعوا الى الاستقلال السياسي والتحرري والنضال ضد الاستعمار ومقاومة الظلم والعسف والاستبداد . كما وحلموا بمجتمع انساني ومدني جديد ، وحاولوا التوفيق بين العلم والدين ، ونادوا بضرورة ترسيخ قواعد العلم في الوطن العربي واتخاذ موقف عقلاني واضح في معالجة كل شؤؤن الحياة والفرد والمجتمع ، ووقفوا ضد التعصب الديني، وحاربوا الأساطير والشعوذات والخرافات وامنوا بالمنهج العقلي ودوره الحقيقي في ارساء قواعد المجتمع، وبخاصة التنظيم السياسي ، وطالبوا بتحرير المرأة من القيود والأغلال ومساواتها بالرجل.
وفي ظل التخلف والتعفن والجهل الذي كان سائداً كان فكر الطهطاوي والأفغاني والبستاني والكواكبي واليازجي وعبدالله النديم وأديب اسحق وفرح أنطون ومحمد عبده وقاسم أمين ورشيد رضا وشبلي شميل، وصولاً الى جيل طه حسين وأحمد امين ولطفي السيد ورئيف خوري فكراً ثورياً، تجديدياً، ديمقراطياً، مشرقاً، مضيئاً يموج بالعطاء الطامح الى تغيير وتحويل واقع المجتمع العربي رأساً على عقب .
والحقيقة، ان الفكر العقلاني التنويري النهضوي بالاضافة الى مرتكزاته ومقوماته الأساسية وعملية التجديد والتحديث التي رافقته، دخل في أزمة فكرية وايديولوجية وسياسية ووجدانية بعد انتكاسة وهزيمة حزيران 1967، وكان لهذه الهزيمة التأثير البالغ على المستوى الفكري للتيارات الليبرالية والتقدمية والعلمانية وعلى مشاريع العقلنة والعلمنة والحداثة وخاصة المشروع الناصري القومي الذي تمت تصفيته في الحقبة الساداتية ، واصابت المثقفين النهضويين التنويريين العرب أزمة معرفية وسياسية ووجدانية حادة أدت بالتالي الى هجرتهم جسدياً ولفظهم مؤسساتياً ومجتمعياً، ولعل أبرز علامات وسمات ومظاهر هذه الأزمة صعود قوى الاسلام السياسي والتيارات الأصولية السلفية ولعب المنظّرون الأصوليين دور المثقف الحداثوي الجديد.
لقد تعرض العقل العربي ، وما زال، لمحاولات اغتيال من قبل المؤسسة الحاكمة والجماعات الظلامية المتطرفة التي تحاول جاهدة وبالرصاص والجنزير، الدوس على الفن والثقافة الأصيلة الملتزمة والمغايرة وعلى حرية الفكر والتعبير وكرامة المرأة وتدمير الأنتماء القومي وأعادتنا قبائل ومللاً وطوائف متناحرة، وأخماد لهيب ثقافة العقل الحقيقية. وكم من مفكر عانى الاغتراب والاستلاب وقمع النظم السياسية الاستبدادية العربية الحاكمة بالحديد والنار، وارهاب المؤسسة الدينية . وكم من مثقف سقط على مذبح الفكر الديمقراطي العلماني المتنوّر، وكم من أديب ومبدع سجن وعذّب وحوصر وهجر من وطنه، بسبب مواقفه وأرائه الأيدولوجية ومنطلقاته السياسية والفكرية وطروحاته العقلانية ، حتى أن عميد الأدب العربي طه حسين يغتالونه وهو في قبره ويصادرون كتبه!!
اننا نعيش في مرحلة تراجع العقل وتغييب الوعي النقدي ، واضمحلال القيم الديمقراطية والروحية وعودة محاكم التفتيش، وفي ظل واقع عربي سياسي يائس، دميم ومخيف ، قتلتنا فيه الردّة،كما صرخ ذات يوم الشاعر العراقي المتمرد والغاضب البعيد عن وطنه مظفر النواب .. واقع يغيب فيه التماسك القومي والانقطاع بين الفكرين القومي والديمقراطي الثوري ، وينتشر الفكر السلفي والظلامي المنغلق والمتعصب بين الشرائح الفقيرة والمسحوقة، ويتعمق غزو العولمة داخل حياتنا وعقولنا.
وعلى ضوء ذلك، فأن مجتمعاتنا العربية بحاجة للعقول المضيئة والنخب المثقفة الواعية وللأقلام المقاتلة والأصوات الشجاعة ، من أجل مواصلة حمل مشعل العقلانية والديمقراطية والتقدم والعلم، والعمل على تجديد الخطاب الديني وبناء حضارة انسانية جديدة ، وتأصيل الفكر العلماني والثقافة العقلانية والوعي النقدي في مختلف ونواحي حياتنا السياسية والثقافية والاقتصادية ، فبدون هذا الفكر لا مستقبل لنا.
أن حلم كل العقلانيين المتنوّرين هو بناء عالم من أجل الانسان فوق كل ارض الانسان ، وتحقيق مستقبل جميل ورغيد تنتصر فيه قيم الاستنارة والديمقراطية والعقل والحب والخير والمدنية، وهذا يتأتى فقط بالعمل المثابر والنضال الايديولوجي والثقافي الدؤوب، والمراجعة النقدية الموضوعية الشاملة للتجارب الماضية، ومواصلة الطريق والكفاح من أجل الانسان وازدهار كل طاقاته الابداعية وتنمية قدراتنا على الابداع الذاتي ، حتى نصبح مبدعين ومنتجين للمعارف العلمية والفلسفية ، وليس مجرد ناقلين ومستهلكين لها، في اطار مشروعنا الفكري والثقافي والابداعي الذي يكرّس الدور الخلاّق في تأكيد الحرية وبنائها، وتثبيت جسور التواصل مع الجماهير ، والاستيعاب النقدي لتراثنا العربي والاسلامي ، وتعزيز الحوار والسجال المعرفي والنقاش حول مجمل قضايا المستقبل والمصير العربي لأجل اعادة الوهج والأصالة والرصانة للعقل في ثقافتنا العربية المعاصرة.
بقلم: شاكر فريد حسن