بدأت الكتابة بعبد الحميد
تاريخ النشر: 16/02/18 | 12:32هذه المقولة أوردها الثعالبي في (يتيمة الدهر- ج3، ص 154)، فقال:
“وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقد أجرى ذكرهما معًا مثلاً أبو الخازن الأصبهاني في قصيدة فريدة مدح بها الصاحب بن عبّاد، فلما انتهى إلى وصف بلاغته قال وأحسن ما شاء:
دعوا الأقاصيص والأنباء ناحيةً *** فما على ظهرها غيرُ ابن عبّاد
وموردٍ كلماتٍ عطّلت زهرًا *** على رياض ودرًا فوق أجياد
وتاركٍ أولاً عبد الحميد بها *** وابن العميد أخيرًا في أبي جاد
سأرافقكم في جولة مع عبد الحميد الكاتب، هي انطباعات خلفّتها قراءاتي له، وإعجابي برسائله.
هو عبد الحميد بن يحيى من سلالة غير عربية، من أهل الشام الذين دخلوا في الإسلام، وممن تعلموا العربية. من المرجح أنه ولد قرب الرقّة في خلافة الوليد بن عبد الملك (ت. 749م).
تتلمذ على سالم ختَنه- مولى هشام بن عبد الملك، وكان هذا يتقن اليونانية.
وكان مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين يستكتب عبد الحميد، ويكرمه ويقدمه ولا يرى الدنيا إلا به.
يرجح أن عبد الحميد إلى جانب ثقافته العربية كان يعرف اليونانية و الفارسية.
رأى ذلك أبو هلال العسكري في كتابه (سر الصناعتين، ص 69)، و (ديوان المعاني 2، ص 89) أن أبا هلال استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي.
و يقول زكي مبارك إن عبد الحميد أول من نقل تقاليد الفرس إلى الكتابة العربية.(النثر الفني- دار الكتب،ج1، ص 60 وما بعدها).
بل يرى طه حسين في كتابه (من حديث الشعر و النثر، ص 42) أن عبد الحميد كان شديد الاتصال بثقافة اليونان، متأثرا بها أشد التأثير في فصوله الأدبية، حيث ذكر عن أسلوبه:
“وهو لا يقتصد في استعمال الحال، وإنما هو يعتمد عليها في تحديد فكرته وتوضيحها وتقييدها، وتجميل الكلام وإظهار الموسيقا” ويقول: “استعمال الحال على هذا النحو من خصائص اللغة اليونانية”.
جعل عبد الحميد الكتابة صناعة فنية بعد أن كانت خواطر ووعظًا أو عبارات متفرقة، فهو أول من أطال الرسائل الرسمية والإخوانية والفنية، فصارت نصحًا وترغيبًا وتهديدًا شكرًا وعتابًا مدحًا وقدحًا. فدلت رسائله على رصانة فكر وتروّ وصبر على تحليل الغرض وتعليل االمعنى.
وقد استطاع عبد الحميد أن يتصرف في نثره الفني تصرفًا ذكيًا يجمع بين طرفي الإيجاز والإطناب، ويراعي شتى الأحوال و المقامات، و كان لقدرته على الإيجاز في موضعه والإطناب في موضعه يتخير لكل منهما محله الذي يناسبه، فيطنب في الإخبار بالفتوح والحث على الجهاد وفي الوعد و الوعيد، ويوجز في أخبار الهزائم و وصف الأعداء .. كما أطال في فواتح رسائله الأدبية و خواتيمها بما يعد جديدًا في هذا العصر، كالإتيان بكثير من التحميدات في أساليب متنوعة وصور مختلفة، و كالبدء بـ “بسم الله” ثم إتباعها “الحمد لله”، فاصلا بينهما بـ “أما بعد”، و غير ذلك.
وبهذا عد عبد الحميد من أوائل من وضعوا الأصول و التقاليد الفنية في النثر الفني العربي.
من النصوص التي راقت لي رسالته إلى الكتّاب، فهي تعكس الثقافة والاجتماع في عصره، وفيها الخروج في الأسلوب عن “بداوة” اللغة، وهي تعكس أدوار العرب السياسية وآدابهم المهنية والعامة.
ورسالته إلى أهله وهو منهزم مع مروان فيها هذا التوزيع والتنويع، وفيها الازدواج والتماسك، وفيها ضروب البلاغة من بيان ومعان وسجع، بالإضافة إلى تفنن التعبير على مستويات اللفظة والجملة والتركيب والفكرة.
يقول فيها:
أما بعد،
“فإن الله جعل الدنيا محفوفةً بالمكاره والشرور، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضته بنابها ذمها ساخطًا عليها، وقد أذاقتنا أفاويقَ استحليناها، ثم جمحت بنا نافرة، ورمحتنا مولية، فملُح عذبُها، وخشن لينها، فأبعدتنا عن الأوطان، وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة والطير بارحة. وقد كتبت والأيام تزيدنا بعدًا، وإليكم وجدًا…..”
برغم ما ذكرت آنفًا من تأثر الكاتب بالثقافة الفارسية و/أو اليونانية، فهو لا ينكر تأثره بالعربية وفصاحتها، ويشهد على ذلك اعترافه:
“قيل لعبد الحميد- ما الذي خرّجك في البلاغة؟
قال: حفظ كلام الأصلع- يعني علي بن أبي طالب”.
(الثعالبي- ثمار القلوب، ص 197)
اشتهر عبد الحميد، فذكره الكتاب والشعراء كثيرًا في أدبياتهم على أنه النموذج الأعلى للبلاغة:
قال البحتري لمحمد بن عبد الملك الزيات على سبيل المبالغة:
وتفنّنْتَ في البلاغة حتى *** عطّل الناس فنَّ عبد الحميد
قال ابن الرومي لأبى الصقر مادحًا بلاغته:
لو أن عبد الحميد اليومَ شاهدَه *** لكان بين يديه مذعِنًا وسِنا
وقال عمرو بن عثمان بن إسفنديار الكاتب:
وصديقٍ رقيقِ حاشيةِ الجِلْـ **** سةِ صافي زجاجة الآداب
شغلته الرِّقاع منه إليه *** فدعا نفسه إلى الأصحاب
وهو فى الحِذق والبلاغة والتطويل عبدُ الحميد فى الكتّاب
قال بعضهم:
قد تحدثت برغم *** منه عن أمر سديد
أنت فى معناك ذا *** أبلغ من عبد الحميد
وقال أبو إسحاق الصابي:
أنسيتم كتبًا شحنتُ فصولها *** بفصول دُرعنكم منضود
ورسائلا نفَذت إلى أطرافكم *** عبد الحميد بهن غير حميد
من أجمل ما يروى عنه هذا الوفاء للخليفة:
“ولما أيس مروان من ملكه قال لعبد الحميد إن الأمر زائل عنا، وهؤلاء القوم يعني بني العباس يضطرون إليك فسر إليهم، فإني أرجو أن تتمكن منهم فتنفعني فى محنتي وفى كثير من أموري، فقال: إن الذي أشرت به عليّ أنفع الأمرين لك، وأقبحهما عندي إلا الصبر عليك أو أقتل معك
أُسرّ وفاء ثم أظهر غدرة *** فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره؟
(أحمد الإسكندري: المفصل في تاريخ الأدب العربي، ج1، ص 161- 1936)
ملاحظة:
من أهم الدراسات عن عبد الحميد كتاب حمادي الزنكري: عبد الحميد الكاتب- آثاره وحياته، القيروان: دار سحر للنشر – 2007.
ب.فاروق مواسي