إسقاط الطائرة الإسرائيلية … وقفة تأمل
تاريخ النشر: 19/02/18 | 9:42إسقاط الطائرة الإسرائيلية المتطورة من طراز “أف 16” لأول مرة منذ ستة وثلاثين عامًا بصاروخ سام سوريّ تطوّر مهم، فما كان قبله لم يعد صالحًا بعده. فهو “يمكن” أن يغيّر قواعد اللعبة المستمرة منذ زمن طويل. إذ دأبت الطائرات الإسرائيلية على الإغارة على مواقع سورية من دون أن تواجه برد رادع، لدرجة أصبحت الغارات الإسرائيلية أشبه بالنزهة والأمر الاعتيادي، وحتى عندما تُنفّذ غارة لم تعد تثير الاهتمام. أما عندما تصدّت الدفاعات السورية للطائرات الإسرائيلية وأسقطت إحداها، فوقفت المنطقة على رؤوس أصابعها، ولم تلتقط أنفاسها، وخيّم شبح الحرب طوال يوم واحد، على الأقل، في سماء المنطقة إلى أن مرّت الساعات الحرجة واحتُوي الموقف.
حققت إسرائيل نوعًا من الردع بعد إسقاط الطائرة، بقصف 12 هدفًا في سوريا، بينها أهداف إيرانية، لأنها لا تريد أن تتعايش مع حقيقة التواجد الإيراني وحلفائه، خصوصًا حزب الله، في سوريا، ولا تريد أن تمكّنهم من التموضع والتوسّع فيها؛ لأنها تخشى إذا لم تضع حدًا لذلك أن يؤدي إلى فتح جبهة معادية جديدة ضدها. إسرائيل تريد منع ذلك، حتى لو اقتضى الأمر إعادة طرح مسألة استمرار وجود نظام الأسد الذي بدا أن تطورات الحرب قد تجاوزتها.
لم يكن الإنجاز الإسرائيلي هذه المرة تامًا، فإسقاط الطائرة أفسده، كما أنه يمكن – وهذا هو الأهم – أن يحدّ في المستقبل من حرية عمل الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية.
أرسل السوريون وحلفاؤهم في موسكو وطهران – مع الفارق والتنافس فيما بينهما – من خلال إسقاط الطائرة، رسالة قوية بأن الأجواء السورية لم تعد مستباحة بلا ثمن كالسابق، وهذا يدل على أنّ النظام بدأ يلتقط أنفاسه بعد أن سيطر على معظم الأراضي السورية دون القفز إلى أن سوريا التي أنهكتها الحرب راغبة أو قادرة الآن على محاربة إسرائيل، بل إنّ كل ما تهدف إليه وقف الاعتداءات الإسرائيلية عليها، وخصوصًا أنها مرشحة للاستمرار والتزايد في ظل التصعيد الإسرائيلي في الآونة الأخيرة.
هناك مبالغة مُخِلَّةٌ في مدى أهمية الرد السوري وكأنّه مثّل تحقيقًا للتوازن الإستراتيجي المفقود منذ الدعوة إليه قبل عشرات السنين، وعودةً لأولوية الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهزيمةً ساحقةً لإسرائيل، وخصوصًا بعد الارتباك الذي ظهر على القيادات الإسرائيلية، لدرجة بروز خلافات في أوساطها، واتهام بنيامين نتنياهو بالاندفاع نحو حرب ليست إسرائيل مستعدة لها، لأسباب شخصية تتعلق بالتغطية على فضائحه، وبتأخير أو منع توجيه لائحه اتهام ضده سيكون مجبرًا أخلاقيًا بعدها على الاستقالة، وإذا لم يستقل سيقوم حزب موشيه كحلون بالانسحاب من الحكومة، الأمر الذي يؤدي إلى سقوطها ويجبر نتنياهو على الاستقالة. كما وصل الارتباك إلى فتح الملاجئ في مدن عدة، ومبادرة بعض البلدات الإسرائيلية بصورة انفرادية إلى الدعوة للنزول إلى الملاجئ.
في المقابل، قلّل خصوم سوريا وحزب الله وإيران من أهمية إسقاط الطائرة، وظهر بعضهم في صف إسرائيل. وهناك من صوّر أن يوم الاعتداء الإسرائيلي (السبت) يذكره بحرب الأيام الستة التي انتصرت فيها إسرائيل انتصارًا ساحقًا، وأنها باتت الآن في وضع تبحث فيه عمن تحاربه ولا تجده.
ينسى هؤلاء أنّ أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر بدأت بالتداعي بدءًا من حرب حرب الكرامة العام 1968، وبعد حرب تشرين العام 1973، وصمود بيروت العام 1982، ودحر الاحتلال الإسرائيلي من لبنان العام 2000، وإحباط العدوان على لبنان العام 2006، وصمود غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي في الأعوم 2008-2009، و2012 و2014، إذ سقطت نظرية الردع الإسرائيلية كما ظهر من خلال أن إسرائيل أصبح بمقدورها أن تبدأ الحرب، مع ترددها في ذلك، ولكنها حتمًا لم تعد تتحكم بمجرياتها، ولا في نهايتها، ولا في إبقاء جبهتها الداخلية بمنأى عنها، بل أصبحت حيفا وما بعد حيفا في متناول الصواريخ اللبنانية والفلسطينية (فضلًا عن الإيرانية)، من دون التقليل من حقيقة أن الجيش الإسرائيلي لا يزال متفوقًا وقادرًا على التدمير وإلحاق الخسائر الفادحة، ولا من حقيقة العلاقة العضوية الأميركية الإسرائيلية التي تجعل القوة الأميركية حاضرة دفاعًا عن إسرائيل إذا تطلب الأمر.
إنّ إحداث نوعٍ من الردع بعد تعديل موازين القوى نسبيًا هو وحده الذي يردع القوات الإسرائيلية عن قصف قوات حزب الله في لبنان، رغم اعتراف المصادر الإسرائيلية أن الحزب يسعى لتطوير قدراته كمًا ونوعًا، وأنه بات يمتلك أكثر من 100 ألف صاروخ، فضلًا عن عدد غير محدد من الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات والطائرات والسفن الحربية. كما أن احتلال غزة لم يعد نزهة سهلة بلا ثمن. فكل ما سبق يجعل أي حرب قادمة مع إسرائيل على جبهة واحدة أو على جبهات عدة مفتوحة على احتمالات متعددة، ولا تقتصر على احتمال نصر ساحق وسريع لإسرائيل من دون خسائر جسيمة.
وأكبر دليل على تآكل قوة الردع الإسرائيلية أن الحكومات الإسرائيلية، خصوصًا في عهد نتنياهو، هددت بضرب إيران، وهَمَّت بتنفيذ ذلك مرة واحدة على الأقل، ولكنها امتنعت في اللحظات الأخيرة بسبب اعتراض قيادات عسكرية وأمنية إسرائيلية، ورفض الإدارة الأميركية السابقة في عهد باراك أوباما الذي منع نتنياهو من شن حرب في اللحظة الأخيرة، لأنّ أميركا تدرك أنّ الحربَ ضد إيران ليست نزهة سهلة ولا مضمونة العواقب.
حتى دونالد ترامب الذي هدد في حملته الانتخابية بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وبوضع الحرب على الطاولة إذا لم توقف إيران برنامجها النووي ومن توسع نفوذها في البلدان المجاورة، إلا أنه حتى الآن لم يفعل شيئًا يذكر، مخيبًا بذلك آمال إسرائيل وحلفائه الخليجيين الذين وضعوا كل بيضهم في السلة الأميركية، مع أن هناك من الدلائل ما يكفي للاستنتاج بأن أميركا وإسرائيل لن تحاربا إيران “كرمال عيون الحلفاء العرب”، وإنما إذا إذا تبلورت لهما مصلحة وضمانة مؤكدتان بالانتصار بلا تكاليف باهظة.
إن هذا الأمر غير مضمون، لذا تفضلان، حتى الآن على الأقل، رغم كل “الزعبرة” التي تهدف للحصول على النفط والأسواق والأموال والاستثمارات العربية، تشديد الحصار والعقوبات على إيران على أمل أن يسقط النظام وتعود إيران كما كانت عليه أيام الشاه الذي كان يدور في الفلك الأميركي الإسرائيلي.
إن ما يخشاه العرب المتأمركين أن يعود الصراع مع إسرائيل إلى الصدارة، لأنه يفسد آمالهم بإعادة النظر في الأولويات العربية، بحيث تصبح إسرائيل صديقة وإيران عدوة مع أنها جارة. هناك خلافات مع إيران، وقد يكون لها أطماع، وشهوتها مفتوحة لأخذ حصتها من أملاك الرجل العربي المريض، ولكنها ليست عدوة، ويمكن للعرب أن يتوصلوا إلى معادلة مع إيران تحفظ لكلا الطرفين مصالحهما ودورهما.
أخيرًا، هل نشهد حقًا إحياءً لمحور المقاومة والممانعة والتزامًا من كل أطرافه بأن شنّ عدوان إسرائيلي على جبهة يعني فتح جميع الجبهات؟
من السابق لأوانه القفز إلى هذا الاستنتاج، لأن الظروف القائمة حاليًا تختلف عن تلك التي كانت قائمة قبل اندلاع ما سمي “الربيع العربي”، حيث ما زالت محاولات تقسيم سوريا مستمرة، ولا يمكن قطع الطريق عليها إلا من خلال تمكين الشعب من تقرير مصيره من دون تدخلات خارجية، وحتى في ذلك الزمن، خاض كل طرف حروبه منفردًا.
علينا أن نتذكر أن لا أحد عاقلًا يريد الحرب الآن، لا في إيران الرازحة تحت أعباء داخلية وخارجية وتفتقد لعمق دولي مضمون، ولا في سوريا التي لا تزال تواجه أخطارًا محدقة، ولا في لبنان الواقف على خيط رفيع والمقبل على الانتخابات، ولا في غزة المحاصرة إلى حد الإنهاك، لأن الحرب إذا اندلعت قد لا تبقى محدودة، وربما تتوسع إلى حرب إقليمية ودولية، ولا أحد سيشارك فيها إذا لم يكن مضطرًا لذلك، أي لكونه مستهدفًا أو على قائمة الاستهداف المؤكد. إلا أن التجربة بيّنت ضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات، بما فيها احتمال شن عدوان إسرائيلي محدود في سوريا أو أوسع من ذلك؛ لمنع تزايد قوة “أعداء إسرائيل” إلى حد تمكنهم من المبادرة إلى الحرب ضدها، مع بذل كل ما من شأنه لمنع الحرب أو تأخيرها إلى أبعد مدى.
بقلم: هاني المصري