قراءة في روايته: “هناك في سمرقند”
تاريخ النشر: 08/03/18 | 16:21هذا الزخمُ الهائل الذي نشهده مؤخرا في تنظيم الأمسيات الأدبيّة، والمباركُ مبدأً، ألقى بظلالٍ كثيفةٍ من الابتذال على المشهد، وضاعت “الطّاسة” واختلط الحابل بالنابل بين الأمسيات التكريميّة وما تعني، وأمسياتِ الإشهار وما تعني، فتداخلت المداخلاتُ فيها، وصار القريظ وحتّى في الإشهار منها سيّدَ الموقف، فالتكريمُ شيءٌ والإشهار شيءٌ آخرُ كليّا، فيه يجب أن تكونَ المداخلاتُ عمليّةَ تشريح، وفي التشريح دائما بعضُ ألم يُطاق أحيانا ولا يطاق أخرى ف – “يلتعن فيها أبو المشرِّح عادة!”.
قرأت رواية كاتبِنا أسعد الأسعد “هناك في سمرقند” في السجن ورحت أفتّش في دفاتري “السّجنيّة” عن ملاحظات كنت أدونها حول ما أقرأ، فوجدتني قد دوّنت:
“أنهيت قراءتها يوم جمعة ال- 10.6.2016، والرواية تدور حول فتى عراقيّ فقد عائلتَه في القصف الأميركيّ على بغداد، وهام في الأرض من الموصل عبر “عشق آباد” إلى أفغانستان ليستقر أخيرا في أوزبكستان بعد أن يتزوج الفتاةَ الأوزبكيّة التي كان صادفها في الموصل خلال زيارة دينيّة لمقام النبي دانيال، وكانت سببَ تجواله في هذا الاتجاه.”
ومن الرّواية اقتبست معلوماتٍ عن:
“عشق آباد: مدينة صغيرة ليس لها من اسمها نصيبٌ على رأي البطل. آخِرُ عشاقِها ربّما عمرُ الخيّام الذي كان يمرّ بالمدينة وعشيقتُه جيهان التي تزوّجها هنالك آخِرَ أيامه. وعن بحر الآرال وسيحون (سردرياه) وجيحون (أمردريا). وعن جنكيز خان جدّ تيمورلانك وقبرُه والألفُ حصان. وعن مختوم كولي الشاعرُ التركماني وفقدانه كلّ مخطوطاته مع جمله الذي غرق في نهرُ “إترك”. وعن ألوغ بيك حفيدُ تيمورلانك وصاحبُ مرصدِ سمرقند.” فكتبت اقتباسا:
“من خلال قراءاتي للعديد من الروايات وبالذات هنا في الأسر، توصّلت إلى نتيجة أو على الأصح تعزّزت عندي الفكرةُ أن الروايةَ يجب أن تشمل من خلال نصّها الروائيّ إمّا مناقشةَ أفكار أو قضايا مختلفةً أو أن تعرض معلومات، فهذه وتلك تفيد القارىء. وطبيعي، والأهم، أن تكون فيها رسالةٌ يريد الكاتب أن يوصلها للقارىء”.
لم أتصوّرْ يوما ان الأيامَ ستدور لأجدَ نفسي متداخلا حول هذه الرّواية. أسعد الأسعد في روايته “هناك في سمرقند” يمسك القارىء ومنذ البداية من تلابيبِ عقله وبقوّة، فنرى بطلَه، (ص9 و- 10) يفتتح:
“مولاي، إن كان ما وجدتُه في الموصل صحيحا، فإنّي أسألك: كيف طاوعك قلبُك أن تسمح للأمير تيمور بدخول بغدادَ، واستباحةِ حواريها؟ حين جاءك ليلا متخفيّا بزيّ عربيّ، وتسلّل إلى ضريحِك في الموصل مستأذنا بدخول بغداد، كما أشار عليه بعضُ معاونيه ومستشاريه، وحذّروه من دخول بغدادَ من دون أن تأذن له….”
ليجيبَه القيّمُ الأوزبكيّ على الضريح “بختيار” وقد سمع كلامَه مصادفة:
“لو كانت بغدادُ بأيد أمينةٍ ما كان لتيمور أن يدخلَها. أنت تعرف حالَ بغدادَ قبل دخول تيمور، أيها العربيّ، فلماذا تلوم دانيال؟”
وفي الحديث الذي يتبادله الاثنان أمام الضريح (ص18)، يسأل البطل:
– رأيت الناس يتزاحمون أمام الضريح، فما سرُّ ذلك؟
فيجيبه القيّم:
– الناس يا بنيّ يبحثون عن مقدّسات يلجؤون إليها عند ضعفهم، لعلها تمدهم بالقوة، وتعينهم على مصائبهم، وما يحلّ بهم من ويلات.
– رأيت المؤمنين على اختلاف مشاربهم، يتقاطرون على الضريح، فكيف اتفقوا على مقدّس واحد؟
– الناس يخلقون اساطيرَهم، ويلتفون حولها.
– وهل تؤمن بها وتصدّقُها؟
– إن كانت تعين الناس على الخير، فسوف أكرّس حياتي لخدمتها، إذ لا ضير في ذلك.
– أنت رجل صالح، يا سيّدي.
– وأنت بذرة طيّبة يا بنيّ. اسمع نصيحتي، وعد من حيث أتيت. نبش القبور لا يخرج الأحياء.
– أنا لا أنبش القبور، وليس في نيّتي أن أفعل، لكنني أبحث عن أسرارها.
– يرحل الناس ومعهم أسرارُهم.
– بعضُها لا يموت، يا سيّدي.
في هذا المدخل، إضافة إلى إمساكنِا من تلابيبنا، يضعنا الكاتب وفي كلمات قليلة في مواجهة مسؤوليّتنا الذاتية عمّا يحلّ بنا من مصائبَ واضعا الحدّ في مارسِنا. ويضعنا أمام فكرة هي الأخرى تلعب دورا مركزيّا وحاسما في حياتنا ويحسم الموقفَ منها بذكاء، تاركا لنا الأبواب مفتوحة على مصاريعِها.
وحين يرحل الراوي مع بختيار حارسِ الضريح في حواري سمرقند نراه يقول ص39:
” هنا في سمرقند، يمكن أن تمر بأحياءَ لم يجر عليها أيُّ تغيير منذ مئات السنين، كأنهم أهلُ الكهف، أفاقوا بعد نوم طويل، وها هم يتلمسون طريقهم نحو المدنيّة والحضارة، وقد فعلوا الشيء الكثير، وحقّقوا في سنوات قليلة، ما لم يتحقّق في عقود من حكم البلاشفة.”
ويتابع الرّاوي ص44:
“أمّا دارةُ الحاج عبد الرّحمن، كانت قصرا لأحد أمراء سمرقند قبل الثورة البلشفيّة، وقد هرب مِن بطش البلاشفة، فعاثت ميليشياتُ الثورةِ البلشفيّة فيه خرابا ودمارا…”
غير أن الراوي يعود ليقول لاحقا وفي سياق آخر:
“… حتّى أن كبار السّن يترحّمون على الأيام الخوالي، أيام حكم البلاشفة…”
ولعلّ أسعد يبلغ الذروةَ في هذا السياق حين يقول ص98:
“أوزبكستان مترامية الأطراف، نصف أرضها صحراءُ، قاحلة، وقراها متناثرةٌ متباعدة… سكّانُ بعضِ هذه المناطقِ لم يسمعوا بأنّ الرّوس دخلوها، وحتّى حين خرجوا بعد سبعين سنة، لم يسمعوا بذلك، ولم يروهم.”
أسعد بهذه الجملِ المتناثرة عمليّا يقول لنا الكثيرَ عن ممارسات وأسباب أدّت لانهيار الاتحاد السوفياتيّ وقبل ودون أن ندبّها في ظهر ال- “سي آي إيه”، يقولُها بنقد ذاتيّ موضوعيّ. وهو الذي يشهد على نفسه أنه وإن ترك الحزبَ الشيوعيّ الفلسطينيّ تنظيميّا، لكنه ما زال شيوعيّ الأفكار.
ينقلنا الراوي في تدرّجه الروائيّ الاسترجاعيّ، إلى مونولوج داخليّ، إن صحّ التعبير، عند بختيار قيّم ضريحِ دانيال، وهو يغادر بيت الحاج عبد الرّحمن، (ص 58-59) يقول فيه:
“ما الذي حمل فتى يافعا إلى قطع آلاف الأميال… هربا من الموت الذي لم يترك أحدا من عائلته، فهام في الأرض يبحث عن وطن جديد، وربّما عن أهل آخرين؟”
ويسرح بختار بعد تساؤلاته المونولجيّة هذه، فيقول:
“كان المشهد رماديّا على مدّ النظر وو… فانعكست أشعّة الشمس المسرعة نحو المغيب وو… لتستريح على أطرافِ سمرقند محمّلةُ بأخبارِ العابرين إلى بقاع الأرض مَن ضاقت بهم أوطانُهم، فراحوا يبحثون عن أوطانٍ جديدة، أو الذين أقنعوا أنفسَهم بحقّهم في امتلاك أوطان الآخرين غصبا ورغما عنهم. يمضي العابرون وتبقى حكاياتُهم، وسمرقند كغيرها من المدن… فإنّ المدنَ تلفظ الغرباءَ أيضا حتى وإن دخلوها عنوة…”
يذهب بنا الراوي ص62 إلى البطل يحدّث نفسه قائلا:
“هربت من بغدادَ بعد أن حاصرتني الغربة في وطني…”
ويستأنف الراوي ص67:
“شريطٌ من الذكريات حملت مالك (أليشير، علي شير، البطل) إلى بلاد لم يكن يحلم أن يراها ذات يوم… لكن الماضيَ لا يزال يشدّه، ولا يملك فكاكا منه، لا تزال بغدادُ تأبى الرّحيل…”
يأخذنا الراوي مع البطل في حلم إلى مدينة “خيفا”، التي ينتصبُ على مدخلها تمثالٌ كبير للعالم أبي جعفر الخوارزمي، ص80، وفي الحلم:
“كأنّ الزمنَ يعيد نفسَه، هرب علماءُ بغدادَ بعد دمارها، وإحراقِ “دار الحكمة”… إلى “خيفا” وأعادوا بناءَ المدينة على شكل بغداد… وقف أمام المدينة. رأى بغداد، ورأى المغول، القدامى والجددَ، يحرقون المدينةَ ويدمرونها…”
ثمّ يأخذنا الرّاوي مع البطل ليقول ص109:
“الأحلام لا تنبت في ركام الأزمنة. لا مكان لك وسط هذا الدّمار. سقطتْ أحلامك يوم رحلت عن بغداد. غريب أنت هاهنا، ولا أحلامَ للغرباء… وقد قرّر أن يضع حدّا لهذا التيه.”
وفي ص171 يردّ على أسماك البحيرة من على شرفة المنزل الّذي خُصّص لإقامته في عزبة حيدر:
“كلُّهم رحلوا، لم يبقَ إلاي، أنا الغريب.” ويسترجع كلاما للشيخ حيدر:
” هذه البلادُ يا بنيّ غزاها الغرباء من كلِّ لون وعرق، كلُّهم رحلوا، وبقي أهل البلاد، لأن الغرباءَ وحدهم يرحلون، أما أهلُ البلاد فلا يرحلون، وإن رحلوا لا يبتعدون عن الديار، يبقون حولها، يدورون كالفراشات لا تفارق المصابيح، وإن ابتعدوا، تسكن أرواحُهم في زوايا بيوتهم، أرواحُهم تنتقل من جسد لآخر، أما أنا فآمنت أن روحَ ابني تيمور حلّت فيك وسكنتك، لا بدّ أنها كذلك.”
ما الذي يقوله أسعد في كلّ ذلك؟ أو ما الذي أردته من اقتباس كلّ ذلك؟!
وجدتُّني أرى في مالك، ذاك اليافعِ البغداديّ الذي رأى بغدادَ مدمّرة، وراحَ يتيه في فيافي العراق وإيران وتركمنستان وأفغانستان وليستقرّ في سمرقند أوزبكستان متبادلا مع حلمه الذي رحل خلفه، ثريّا الأوزبكيّة الصبيّةِ التي التقاها في ضريح دانيال في الموصل، القولَ:
– هذا هو منفاي الأخير…
– لماذا لا تقول، مستقرُّك الأخير…؟!
– لا فرقَ يا ثريا… لا فرقَ… كلُّها غربة…
وجدّتُني أرى فيه الفلسطينيّ، وهذا ما أراد لنا أسعد أن نفهمَ، ولا أظنُّني مخطأً حتّى وإن نفى أسعد ذلك!
لستُ ناقدا، وفي مناسبات قلت، لا أحسدُ النقّادَ ولا أغبطُهم، ولكنّي كقارىء أقول: نحن أمام رواية يأخذنا فيها الكاتب في رحلة جغرافيّة وتاريخيّة نعود منها عارفين كثيرا جغرافيّا وتاريخيّا واجتماعيّا حتّى. روايةٍ تتناول طروحات في قضايا أشغلتنا وتشغلنا وتناولها الكاتب من باب النقد الذاتي، وبلغتنا الفلاحيّة “وضع الحدّ في مارسنا” وليس من باب: “إن ما طلعت الخبيزة الحق على الإمبرياليّة والصهيونيّة”. روايةٍ تتناول أفكارا وأطروحاتٍ تستفزّ الدّماغ.
وقد حملتْ الرواية رسائل هامّة ووصلت.
سعيد نفاع