يوميات بروفيسور-حين تواسيني فيروز
تاريخ النشر: 14/03/18 | 14:41لا أعرف الكثيرين ممن يودَون أن ينجلي ليلهم كسرعة البرق ليهرولوا بلهفة إلى مكان عملهم! ولا أعرف الكثيرين ممن تخيبهم في معظم أوقاتهم نتائج تجاربهم ولكن لا يعرفون أبدًا الكلل بل يزيدهم ذلك إبداعًا وأملا. ولا أعرف الكثيرين ممن يَرَوْن بمهنتهم وعملهم هواية يمارسونها يوميًا بسعادة وشغف. فهذا هو حالي وكم أنا محظوظ به! فكل يوم يحمل في طياته مفاجئة جديدة مُتمثلة بتجربة علمية مثيرة أو تجربة حياتية مثرية! ولا يوم يشبه الاخر ولا أسبوع يعود على نفسه ولا شهر كأخيه ولا سنه تنتهي إلا وكانت عمرًا بحاله!
أحب قهوتي في الصباح وبعد الغداء. وقهوتي تشرب على عَجل (المعذرة من شاعرنا درويش)! في الصباح لها نكهة خاصة فهي تفتتح لحظات الإبداع والإنتاج لنقاوة الذهن من السلبيات التي تزداد خلال النهار. وأحيانا تكون ممزوجة مع أخبار العالم وما يحمله من عجائب وكوارث. وكثيرًا ما تهيئك لكشف ما يخبئ لك بريدك الإلكتروني من مفاجئات سارة واُخرى قد تكون محبطة! فتقرأ تارة خبرًا من المحرر الرئيسي لمجلة علمية عن قبوله لمقالة لفريقك العلمي وأحيانًا عن رفض أخرى، لتبدأ تعديلها من جديد! ثم يأتيك بريد آخر يتوجه به رئيس كلية الكيمياء من إحدى الجامعات المرموقة عالميا يريد منك تقيمًا لِعالم من كليته في مدى إبداعه وإنتاجه العلمي ليكون ذلك مصيريا في تثبيته وترقيته أو إنهاء عمله. ويبدأ بريده كالتالي: “عزيزي البروفيسور أشرف إبريق: من منطلق مكانتك العالمية في مجال بحثك نتوجه إليك…” وما أن تنهي قراءة آخر كلمه وإدراك المسوؤلية الملقاة على عاتقك، يأتيك بريد آخر من طالب يدرس للقب الأول يريد منك ان تَخبِرَهُ إن كانت المادة التي يحددها لك بالضبط بذكائه الفذ ستكون ضمن أسئلة الامتحان ويبدأ بريده ب ” هاي.. أو هيي أشرف، كيفك…”.
ويكون النوع الأخير من الرسائل محفزًا لك لمغادرة مكتبك والتوجه إلى المختبر لتغير مزاجك والاستمتاع بالحديث مع أفراد طاقمك العلمي عن آخر المستجدات في أبحاثهم. وتكون هذه فرصه لتشجيع بعضهم على الاستثمار أكثر في بحثهم، إرشادهم في قراءة بعض المقالات، تخطيط تجربة اخرى أو لمجرد الحديث. وفريقك هذا يكون بمثابة عائلتك الثانية، فأنت المسؤول عن توفير أفضل بيئة علمية ممكنة له، من أجهزة ومعدات وكذلك دخل جيد لكل منهم لممارسة حياته بشكل عادي في هذه الفترة الصعبة! والتحدي الأكبر يأتي من الشعور بالمسؤولية حيث يكون جزء كبير من مستقبلهم المهني بين يديك، الأمر الذي يجعلك تفكر يوميًا في تقدمهم مما يمنح العلاقة طابعًا خاصا كعلاقة الأب بأولاده والتي لا تخلو من المدّ والجزر! وتزداد سعادتك حين ترى مع مرور الوقت كيف أن “ابنك” ينمو من “طفل” في عالم الأبحاث ليصبح بعد حين من أروع العلماء، فتفتح الدنيا له أبوابها ليشق طريقه إلى نجاحات أكبر.
تمر أيامك وكلها تحديات وآفاق جديدة بها تكتشف جمال الْعَالَم وروعة الحضارات. من مقاله علمية الى أخرى تنشرها لتخلد اسمك في كتب ومجلات الأبحاث، من محاضرة تلقيها تارة في الصين واُخرى في أمريكا لتزيدك ثقة وتحدَيًا. ومن حين لآخر تُكرم بجائزة تقديرًا لبحوثك تزيدك شموخا واعتزازا. تمُرّ بطالب محبط وآخر ترى به صورتك عندما كنت طالبًا مجتهدًا، تلهث لتجنيد الميزانيات لجعل أبحاثك تسير على أحسن ما يرام لتبقى في فلك وزخم العلاقات الأكاديمية التي لا تخلو من الضغوطات الهائلة ومن محبي الخير واللا خير.
وخلال كل ذلك تسعد من حين إلى آخر بكونك أول من يكشف بعض أسرار الطبيعة بجمالها وتركيبتها المهيبة. ولكن لا تنسى هذه الطبيعة أن تلقنك درسًا تلو الآخر في التواضع، وآخر يشعرك كم انت ضعيف أمام عبقريتها. وتبحر في تفكيرك لتدرك مرة تلو الأخرى كم كان علينا أن نجتهد ونستثمر على مدار مئات السنين لمعرفة النزر القليل من هذه التركيبة التي تأبى أن تكشف نفسها بل تزداد غموضًا كلما بحثت فيها! فيروق لك بل تواسيك فيروز كل صباح وهي تغني قصيدة “المواكب” لجبران التي تحثك على الاستمتاع بجمال الطبيعة دون الخوض بتركيبتها:
“أعطني الناي وغنّ… فالغنا سر الخلود
……………………..
………………………
هل تخذتَ الغاب مثلي… منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي… وتسلَقت الصخور
هل تحممت بعطر… وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا… في كؤوس من أثير
هل جلست العصر مثلي… بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت… كثريات الذهب
……………………….
……………………….
إنما الناس سطور… كتبت لكن بماء”.
(يتبع……)
تحياتي،
بروفيسور أشرف إبريق
عالم ومحاضر في مجال الكيمياء-
معهد التخنيون- حيفا