امتزاج الألم بنهاية درامية سعيدة
تاريخ النشر: 24/03/18 | 10:25لمناضليْن وسط شعبين يتوقان للحرية وتقرير المصير • قراءة في رواية ” بَيمان، درب الليمون” لجهاد أبو حشيش
إنَّ مَنْ يسترسل في قراءة رواية “بَيمان، درب الليمون” للكاتب جهاد أبو حشيش يشعر بالهدوء النفسي ورغبة دافقة في استكناه ما سَيَرد في السطور اللاحقة فيما يخص شخصيات الرواية التي تتألف وتجتمع معًا لتتمحور وتصّب في تحديد ما سيؤول إليه قدَر بطل الرواية “جمال” على الصعيد الشخصي من حيث علاقته العاطفية الحميمة مع حبيبته وزوجته لاحقًا “بَيمان” تلك الفتاة الكردية المناضلة الوفيّة له ولمبدأها تجاه الحرية وحق الأوطان في السيادة وتقرير المصير حيث يجمع بين “جمال” الشاب الفلسطيني اللاجئ في المخيّم، و “بَيمان” بالإضافة الى الحب الوثيق بينهما، قاسمٌ مشترك هو النضال في سبيل التحرّر ونيل الحقوق الشرعية في وطنيهما، فلسطين وكردستان.
وقبل البدء في تناول الرواية بالدراسة والتحليل، فإنه من المناسب الإشارة الى أنَّ القصة تتلخص في استعراض حياة بطل الرواية “جمال” منذ طفولته وصباه في المخيم مع والديه، ومن ثمَّ دراسته الجامعية، ومدى المحبة المتبادلة العميقة بينه وبين أمه، زينب، علاوةً على التفاصيل الواردة في الرواية عن علاقاتهِ مع اصدقائهِ سامر وإياد دراسيًا ووطنيًا، وما تعرضوا إليه جميعًا من معاناة وعذاب في اجراءات التحقيق مع جمال ورفاقه المذكورين عند الاعتقال في السجن. كما تخبرنا الرواية عن سفر “جمال” الى بيروت للتدريب هناك في صفوف حركة التحرير الفلسطينية وتعرّفه هناك الى “بَيمان” الفتاة الكردية المنضوية تحت لواء التدريب في معسكرٍ يضم شبّان وصبايا من الفلسطينيين ورفاق آخرين جاءوا للتدريب بغية النضال في سبيل أوطانهم، ومن بين هؤلاء كانت “بَيمان” التي وقع “جمال” في غرامها وعشقها وتزوجا في المعسكر في بيروت الى أن جاء وقت مغادرة “بَيمان” إلى وطنها كردستان لمواصلة نضالها هناك من أجل قضية شعبها مما سبّب كثيرًا من الوجد والشجن عند “جمال” الذي كانت الفتاة الفلسطينية في المعسكر المدعوّة “حياة” تحبُّهُ حبًّا جارفًا إلاّ أنها رضخت وأذعنت بكلِّ وفاءٍ وقناعة لقصة الحب التي تربط بين “جمال” و “بَيمان”، وقد تجسَّد وفاء “حياة” لصداقتها مع “بيمان” وحُبِّها الايثاري الصادق “لجمال” في الاتصال الدائم مع “جمال” لإبلاغهِ أخيرًا بمكان “بَيمان” الذي لم ينفك أبدًا عن السؤال والبحث عنها ليجدها ويلقاها أخيرًا في المشفى في المغرب وهي جريحة، ليتبرع لها بدمهِ دون علمه بهويتها لينقذها من الموت ويعرف بالتالي أنَّ له بنتًا منها اسمها “نسرين” كانت تعيش مع خالة أمِّها منذ طفولتها واثناء مدة سجن “بَيمان” التي استمرت خمسة عشر عامًا، لتقوم بيمان بعد ذلك بإرسالها الى روسيا لدراسة الطب هناك ولتتخرج طبيبة، وفي نهاية المطاف يلتقي “جمال” ابنته نسرين لتنتهي الرواية نهاية سعيدة وسط ما كابده كلٌّ من “جمال” و “بَيمان” من المعاناة وقسوة الحياة النضالية بكل أبعادها وتشعباتها.
إنَّ ما يسترعي الانتباه في هذه الرواية ذلك التكنيك الذي اتّبعَهُ الروائي جهاد أبو حشيش مع جمال وبيمان أنْ جعل الشخصية تبدو في فصلٍ ثم تختفي بعد انتهاء الفصل، ثم تعود تظهر مرةً ثانية، ثم تُخلي الطريق لشخصيات أخرى أمثال والدة جمال، زينب، وسامر، وإياد وحياة ونسرين وغيرهم، ثم تعود بالظهور مرة ثالثة، وهكذا حتى آخر الرواية. وأنه جعل الشخصية لا تكتمل أمامنا، من خلال معرفة الآخرين بها، وإنّما لا تكتمل معرفتنا بها إلاّ من خلال ما تذكره هي عن نفسها عن طريق حديث النفس. وهذا يتفق وطبيعة الإنسان، فما يبدو للناس من الشخصية ليس هو جُمَّاع صفاتها الحقيقية، وإنما هي تخفي عنّا أشياء تريد ألاّ يَطَلِّع عليها أو يعرفها الآخرون، قد يُطلعنا عليها الفن الروائي، أو يطلعنا عليها علم النفس، باعتبارها تنطوي في أعماق الشخصية لشدّة حرص الشخصية على عدم اظهارها.
ومن اللافت في الاتجاه السردي عند مؤلف هذه الرواية أن سعى الى الجمع بين اتجاهين مميزين في النواحي السرديّة اللذين يعرفان باتجاه “الماذا” واتجاه “الكيف، أو ماذا يسرد، وكيف يسرد. ونحن عندما نواجه هنا النص الروائي، تبدأ المعرفة بالتغيير التدريجي نتيجة التفاعل بين النص المقروء، من حيث هو بُنى سوسيو – نصيّة (socio-textual) ، وما هو مُختزن في وعينا كقراء أنفسنا، من معارف تنسجم، أو تتقاطع، مع دلالات النّص، لهذا ينبني فهمنا للمعنى في هذه الرواية، كغيرها من الروايات الهادفة، على قراءة تأملية، دقيقة، لا تكتفي بالنظر الأفقي السطحي، الذي يقتصر على متابعة الأحداث، وتتبّع الزمن، والتعّرف على الشخوص، بل ينبغي أن تكون القراءة مرتكزة على التحديق في الزوايا الظليلة، والبقع المعتمة، من المبنى الحكائي، ومعرفة ما لم يُقل عن طريق ما يُقال، من باب الإيحاء والتلميح، والترميز، والتضمين.
وانطلاقًا من هذه المعاني، فإنَّ أولَ ما يثير فضولنا هو اختيار مؤلف الرواية عنوانًا لروايته بالإضافة الى اسم “بَيمان” ، عبارة “درب الليمون”، وهذا ما يجعلنا نلجأ الى التحليل الرمزي وفقًا للسياق في مواقف وأحداث الرواية من خلال عددٍ من النصوص العابرة التي ورد فيها ذكر الليمون لا سيما حين تُقْرَن رائحة الليمون لدى “جمال” برائحة أمهِ “زينب” التي ترمز – في منظورنا – الى الوطن المفقود بكل ما تمثلّه الرائحة الزكية بعبق الحنين الى الأصالة والعراقة التي تربط الإنسان بجذوره أينما حَلَّ وأينما كان. وفي الاقتباس التالي من الرواية (صفة 171) تتكرّر رائحة الليمون عند جمال أثناء تواجده في المشفى حيث ورد ما نصهُ: “قلبي ينبض بشدة كلما انزاح الدم عن وجه المرأة، وكأنّ التعب بدأ يصوِّر لي ما أريد أن أراه، وتلك الرائحة التي تشبه عطر الليمون تجتاحني أكثر فأكثر”. ويجدر بنا أن نلاحظ أنّ رائحة الليمون مقترنة دائمًا في مخيلة جمال بشخص أمه بكل ما يمثلُه كيانها من انتما وحنان ومحبة وعذوبة الدفء العاطفي، علمًا بأن إسمها “زينب” قد تمّ اختياره في الرواية تعَمُّدًا حيث يعني اسم “زينب” شجر حَسَن المظهر طيّب الرائحة. وفي ذلك كثير من الرمزية والتضمين حول الإسم بمعناه وبما رمى إليه الكاتب لإيصال جانبٍ موحٍ من رسالته.
ولا يفوتنا هنا أن نشير الى أنّ اقتران اسم بَيمان بدرب الليمون في عنوان الرواية يرمز الى العناء العارم الذي عايشه جمال في الفترة الطويلة المضنية من افتقادهِ لبَيمان وجهوده المستمرة في البحث عنها والعثور عليها أخيرًا بمزيجٍ من مرارة الأحداث وحلاوة اللقاء مع بَيمان وابنتهما نسرين، وكلّ هذا يؤكد رمزية الليمون في سياق الرواية، فالليمون يرمز إلى الإثارة، والحِدّة اللاذعة، والقسوة والحماسة، والأفكار السّارة، الحرمان والجذب، الفشل والهزيمة، ويتوّج كل هذا الترميز بكون الليمون يرمز في التقليد المسيحي الى الإخلاص في الحب (fidelity in love).
وهذه المعاني جميعًا قد لمسناها في سياق النص الروائي من خلال ما تعرّض له جمال في مجريات حياتِه الصاخبة والحافلة بالنضال وتجربة الحب المفعمة بالألم من جهة، وبالسرور والابتهاج النفسي من الجهة الأخرى، علاوةً على ما لاقاه من ملاحقات واعتقالات وقساوة ممارسات المحققين، والحرمان من الحرية.
وهكذا نجد أن رمزية الليمون بشكل عام تحمل في حيثياتها الجوانب الايجابية والسلبية وفقًا للسياق الوارد فيهِ معاني النص الأدبي، والتي تمثّل الكثير منها في الرواية التي نحن بصددها، وكان الأوج في رمزية الليمون هو الإخلاص في الحب أي إخلاص كلّ من جمال وبيمان في حبهما لبعضهما البعض رغم كلّ الظروف القاسية وكذلك اخلاص كلّ منهما لقضية النضال لديهما.
ومن الفرادة بمكان عند قراءتنا لهذه الرواية أن نفترض بأنّ الكاتب حينما اختار لبطل الرواية اسم “جمال”، إنّما كان يهدف الى الإيحاء برمزية الإسم “جمال” الذي يمثّل النبالة، الفضيلة، خلود الحب وقوته. ومن حيث أنّ “بيمان” هو اسم علم مؤنث كردي، معناه: العهد، فإنّه يرمز الى متانة قصة الحب التي ربطت وجمعت جمال وبَيمان، وكأني بهما قد ارتبطا، بعهدٍ أو ميثاق لا ينفصم، وخير دليل على ذلك ما ورد في نص الرواية من رفض “بيمان” الارتباط أو الزواج من أي شخصٍ آخر غير “جمال” أما اسم ابنتهما “نسرين”، فمعناه وَردٌ أبيض ذو رائحة عطرة قوية، ونحن نعتقد بأن الكاتب باختياره لهذا الاسم إنما أراد أن يوحي برمزية هذه الزهرة التي تمثل الإكتمال أي اكتمال لقاء العائلة الواحدة أخيرًا والمفعم بعبق المحبة وعطر الإخلاص، كما ترمز هذه الزهرة الى التَمام السماوي أي الى المشيئة الربانية أو القَدَر بجمع أفراد العائلة معًا، كما أنّها تمثّل وترمز الى القلب أي أنَّ القلب الذي يفيض حُبًّا لن يخيب رجاؤه في حياة الأمل والسعادة كما تجلّى في نهاية الرواية بما يحمله ذلك من تكامل الشخصية والتعقُّل، كما لو كانت الفتاة “نسرين” برائحة اسمها العطرية امتداداً لرائحة أمهِ “زينب” الزكية العابقة بعطر الليمون، رائحة الوطن المأمول.
وهكذا نرى أنّ الكاتب الأستاذ جهاد أبو حشيش قد أجاد وكان موفقًا في كتابته لرواية “بيمان، درب الليمون” فكرةً، وأسلوبًا ولغةً حيث كانت لغة الرواية مركّزة دالة، طابعها التوتر وقصر الجمل والتوافق التام بين الصورة والحالة. ومن زاوية أخرى، قدّم لنا الكاتب روايةً من النوع الأدبي القريب الى حدٍ كبير من رواية التشكيل أو رواية تكوين الشخصية bildungsroman والتي تعني قصة تطوّر story of development وفيها يتم التركيز على النضوج النفسي والأخلاقي لبطل القصة من الصغر حتى سن البلوغ حيث التغيّر في الطبع مهم للغاية، فرواية البلوغ هذه تتعلق بنمو شخصية إنسان حساس يحقق فيها بطل القصة النضوج تدريجيًا وبصعوبة حيث تصوِّر الرواية الصراع الرئيسي بين الشخصية الرئيسية والمجتمع أو العالم المحيط، ولكنَّ خيبات أمل بطل القصة تنتهي كليًا في بعض الأعمال من حيث كون البطل قابلاً للوصول ومساعدة الآخرين بعد بلوغه سن النضوج كما حدث في الجانب الأعظم من المسيرة الحياتية لبطل القصة “جمال”.
وأخيرًا، لمؤلف الرواية خالص التحيّات وأطيب التمنيات بالتوفيق ودوام العطاء.
بقلم: الدكتور منير توما