الغياب والمرأة تحت وسائد النبض
تاريخ النشر: 29/03/18 | 7:00قَدَّمْتُ عُذْرًا ضَيَّعَ الأَعذَارا وَرَسَمتُ في وَجهِ الغِيابِ دِثارَا
وَطَفِقتُ أَلْهو عنْ غِيابٍ سَيِّدٍ يَلْتَفُّ طَوقًا مُعْتِقًا أَسْوارا
يَا سيِّدي، أنتَ الغيابُ مُخَلَّدٌ هلَّا نَأيْتَ مُغَيَّبًا أَطوارا
قَدْ عُذْتُ مَيْتًا بِالحضورِ مُجاهِرًا وَالمَوتُ حَقًّا يَحفظُ الأسرارا
لَيست المداخلُ التي تتيح للقارئ البصيرِ والناقدِ الخبيرِ الولوجَ إلى عوالمِ الحداثةِ في القصيدةِ والصيغةِ الشعريّةِ بمداخلَ ضئيلةٍ قليلةٍ، لكنّني لاحظتُ خلال معركتي المهزومةِ المنصورةِ في ومضاتِ ومقطوعاتِ وقصائِد الشاعر الأديب جهاد أبو حشيش الحاضرةِ في مجموعةِ “ما غابَ من جسدِ السيّدةْ”، ظاهرةً حداثيّةً بارزةً اعتبرُها أُقنومًا من أقانيمِ المجموعةِ برمّتها، وأصلًا من أصولِ النصّ الشعريّ الحداثيّ، المرادُ به، أيّها السيّدات والسادةُ، لغةُ التضادّ والمفارقةُ الضدّيّةُ، ولو أَنعمنا النظرَ في حقولِ النتاجِ الشعريّ الحداثيّ؛ لَاكتشفنا أنّ لغةَ التضادِّ باتت مكوّنًا جوهريًّا من مكوّنات النصّ الشعريّ الحداثيّ، كيفَ لا، وقدْ تعدّى الضدُّ في وَظيفتهِ إزاءَها حدَّ إظهارِ محاسنِ الضدّ، فجازَ ذلكَ بإظهارِ كُنهِه!
لكنَّ شاعرنا جهاد أبو حشيش، يكثّفُ في نصوصهِ الشعريّةِ الهائمةِ في همِّهِ الجوّانيِّ المُغَيِّبِ لِمعالِمهِ الطاغية فيها: وَطَنهِ، سَيِّدَتِهِ، هاجرِهِ، زَينَبِهِ، وعِنَبِهِ المزروعِ في كرومِ النسيانِ، يُكثِّفُ الشاعر- المحتفى بِشِعريَّتهِ وألمعيّتهِ القصصيّةِ الروائيّةِ- لُغةَ الغيابِ التي بَلوَرَت في ظَنِّنا، كثيرًا من ملامحِ نصّهِ المُتخَمِ شِعريَّةً وَإيحائيَّةً، تَسلُبُ القارئَ- كما سَلَبتني قارئًا قَبلي ناقدًا- قُدرَتهُ على الإحجامِ عن القراءةِ، لا لأنَّ النصَّ يدفعك لقراءةِ شَقيقهِ وابنِ عمومتهِ وخؤولتِهِ بَعدَهُ فَحَسبْ! بلْ لأنَّ كلَّ نصٍّ- قصيرًا كانَ أم غيرَ ذلكَ- في صَفحاتِ المجموعةِ، يَخلقُ لكَ معَ ذاتِكَ وَثقافَتكَ وَذَكائِكَ وَوجدانكَ حالةً جنونيّةً؛ تجعلكَ قارئًا مُلِمًّا وجاهلًا في الوقتِ ذاتِهِ، فثمَّةَ نَجعٌ حافلٌ باللغةِ المقترنةِ بالتضادِّ، الممزوجةِ بلغةٍ تفرضُ سلطانَ الغيابِ وسَطوَتَهُ، ويبدو في رأينا، ورأيُنا خطأٌ يَحتملُ الصوابَ، أنّنا معشرَ الآدميّينَ، ولا أقولُ البَشَرَ، نألفُ في أعماقِنا تلكَ المعاني والدلالات التي تفضحُنا دونَ أن يعلمَ ذلكَ أحدٌ من البشر!
لغةُ الغيابِ، أيّها السيّدات والسادةُ، في هذهِ الأمسيةِ العامرةِ بكمْ، وأنتم تُلقونَ بالًا وتُرسلونَ حِبالًا، تَصِلُكمْ بالغيابِ والحضورِ في رَحبةِ نادي حيفا الثقافيِّ، هيَ لغةٌ شِعريّةٌ وَرُؤيا حداثيّةٌ متداخلةٌ مُحكمةٌ، تميلُ في قِوامِها، إلى تسليطِ الضوءِ على المواضيعِ أو القضايا، وإبرازها وَإبانَتها، من خلال تجنّبِ المباشرةِ في التركيز عليها، واعتمادِ الانحرافِ عنها، نحوَ فوّهةِ الإيحاءِ وآفاقِها السامية، فلغةُ الغيابِ لغةٌ رقيقةٌ تمسُّ الحاضرَ من خلالِ تغييبهِ وإبعادهِ، وهي أشبه ما تكونُ بِضبابٍ هَزيلٍ يُكفِّنُ الكلماتِ بِسَديمِ التيهِ وَظِلالِ العذاب!
يَطرحُ جهاد أبو حشيش في قصيدتهِ العنوانَ “ما غابَ من جسد السيّدةِ”، الواقعةِ في الصحيفةِ الثالثةِ والسَبعينَ بعدَ المائةِ، يطرحُ تمثيلًا منسوجًا بلغةٍ خيوطُها الغيابُ، ويكادُ يصوّرُ من خلالها صورةً فوتوغرافيّةً أو ينحت منحوتةً تُضارعُ الواقعَ بأدواتِ اللا واقعِ وتقنيّات الغياب، فتراهُ يَقولُ فيها:
“جُنديٌّ هاربٌ من خدمتهِ
الكلامُ الذي يُعلِّقُهُ العابرونَ
على حافّةِ الوقتِ
يرتديان نفس المعطَفِ
ينتعلانِ الطريقَ ذاتَهُ
لا ينتبهانِ للصغيرِ الذي نامَ
في غفلةِ الطاولةِ
الأدعياءُ
بِحُجَّةِ المجزرةِ
يُعلِّقونَ مشانقَ الضحكاتِ
يغتالونَ صَبِيَّةً تركضُ تحتَ صَمتِ القذائفِ
تُلَملمُ توتَ الشِّفاهِ
لكيْ تكتملَ..
الكَتَبَةُ
رأيتُهم يَعُدُّوننا
واحدًا واحدًا
لِتكتملَ المجزرةْ..”
تتجلّى لغة الغيابِ، كما تبدو من خلالِ القصيدةِ المقتبسةِ آنفًا، ولا سيّما في عبارته المشحونة غضبًا من وجع الغياب، كقوله “الكلامُ الذي يُعلِّقُهُ العابرونَ على حافّةِ الوقتِ”، وهي إشارةٌ إلى غياب الواقع فيما يتداوله أولئك العابرون من كلامٍ مُعلّقٍ في هامش الزمن، وهي صورةٌ تنسجم إلى حدٍّ كبيرٍ مع الصورة المثيرة الغرائبيّة التي يرسمها الشاعر حينما قال: “يرتديان نفس المعطَفِ… ينتعلانِ الطريقَ ذاتَهُ… لا ينتبهانِ للصغيرِ الذي نامَ… في غفلةِ الطاولةِ”، فليس في سياق الخطاب الشعريّ الذي تحتمله تلك الأسطر المقتبسة دلالةٌ جليّةٌ واضحة المعالم، بل إنّها أسطرٌ تجعل القارئ يقف حائرًا إبّان التعالق معها، وهي نافرةٌ من الإبانة تنزعُ لتجسيد الغياب بلغةٍ تعتمد الإبهاميّة المستفزّة للمتلقّي، وليس ذلك بحكرٍ في ما اقتبسَ وحسب، إذ يبرز أيضًا من خلالِ شقيقاتها في المجموعةِ، حيث تتجلّى لغة الغياب في مستويين اثنين، وهوَ ما يَبرُزُ في كثيرٍ من تضاريسِها، فتقعُ ضمنَ مركّباتِ النصِّ الجزئيّةِ من جانبٍ وضمنَ نسيجهِ اللغويِّ الكلّيِّ من جانبٍ آخرَ، ويمكن القولُ إنّ لغة الغياب تكون في كثيرٍ من نصوصِ المجموعةِ ماثلةً حاضرةً في مضمونِ النصِّ الشعريِّ ذاتِه، ويُحيلنا ذلكَ، كما أحالني وأنا أُقلّبُ يميني بيساري مشدوهًا مَبهوتًا من وَقعِ ذلك الخطابِ الشعريِّ المُجسّدِ للغيابِ، يُحيلُنا ذلك إلى افتراضٍ مؤَدَّاهُ أنّ الشاعرَ قد وظَّفَ وبشكلٍ واعٍ لغةَ الغيابِ وجَحَظَّها في وجوهِ قصائدهِ، إنّما كي يملأَ بها، أيِ لُغةَ الغيابِ الغيابَ ومضامينَهُ، ويُعزّزَ بذلكَ مفاهيمَ الغيابِ بنفسِ الطريقةِ التي تبنّاها لتجسيدِه في نصوصهِ جميعًا، ولا يَنبثقُ هذا إلّا من قريحةِ لبيبٍ أريبٍ يُبرمُ القولَ فَيؤولُ بهِ إلى القارئِ من خلالِ الانزياحِ في الاستقبالِ والتلقّي، وهوَ لعَمري مَركبٌ صَعبٌ لا يركبُهُ شاعرٌ إلّا كانَ كَيِّسًا نَجيبًا!
تَتجلّى لغةُ الغيابِ في مستوى نسيج النصِّ وبِنْيَتِهِ اللغويّةِ لدى شاعرنا جهاد أبو حشيش في صورٍ شتّى، وتُحقّقُ كلُّها منظومةً شعريّةً ترتكزُ في أرومَتِها على صورٍ شعريّةٍ مُتقنةٍ أيَّما إتقانٍ، ويبدو لي من خلالِ القراءة في المجموعةِ، وقدْ خلّفتْ فيَّ وفي تَبصِراتي منها أثرًا بعيدًا أظنّهُ سَيؤثّرُ في مذهبي في الكتابةِ الشعريِّةِ، يبدو لي أنّ للصورةِ الشعريّةِ عندَ شاعرنا فاعليّةً عميقةً في تكوين لغةِ الغيابِ وهَيكَلَتِها، وَلا سيّما في نمذَجَةِ حالةٍ حسِّيّةٍ تَقضُّ كلَّ قراءَةٍ وقارئٍ كما قضَّتْ مؤلِّفَها من قَبلُ!
تُطِلُّ قصيدةُ “مجزرةْ” نموذجًا حيًّا للغة الغيابِ في المجموعةِ، وللصورةِ الشعريّةِ الغارقةِ في الانزياحِ التصويريِّ، والتي تُحيلُ الصورةَ الشّعريّةَ لأنْ تصيرَ بفضلِ غموضِها أكثرَ محوريّةً منَ النصِّ بمعناهُ الكُلِّيِّ، وأوسعَ انتشارًا في مُهَشَّمَاتِهِ وَرموزهِ المصطَفَّةِ بشاكلةٍ مُبهمةٍ إشكاليَّةٍ تجعلُ النصَّ بمفهومهِ الاستنباطيَّ عندَ القارئِ مُغامرةً عسيرةً تَتحكَّمُ فيها قوانينُ التجربةِ والإغراق لدى المتلقّي، لا قواعدُ التهيئةِ والتنظيرِ لديه فحسب.. يقولُ شاعرنا في قصيدته “مجزرة”: “الحقيبةُ: أشياءُ لا بُدَّ منها. هاتفُ الثرثرةِ.. روَّجَها إذْ تَيَبَّسَ فوقَ الشفاهِ سؤالٌ.. ضَحكٌ عابثٌ.. كذِبٌ لا يُشبِهُ الكذبَ.. وَدَمي مَحبَرَةٌ.. كُلُّ ما تحتاجُهُ السيّدةُ لِتُقيمَ المَجزَرَةْ”.. ينضح عنوان القطعة الشعريّة “مجزرة” عن استعدادٍ سلبيٍّ يثيرُ لدى القارئ توقّعاتٍ محدّدةٍ تنحصر في حقل السياسة، لكنّ قراءة النصّ تفضي بالمتلقّي إلى حالة غيابٍ عن المتوقّع، وتميل به نحو منزلقٍ حميميٍّ أسبه بالحلمِ في مَيعةِ اليقظة.
كان ما تنطوي عليه لغةُ الغيابِ وبِنيَتُها اللغويّةُ وَإشراقُها ضمنَ صورةٍ شعريّةٍ ماتعةٍ أحدَ مواردِ التفرّدِ والخروجِ عن المألوفِ في قصائدِ المجموعةِ ونصوصها، وفي قصيدةٍ أخرى بعنوانِ “حطبْ” يصوّرُ الشاعرُ مشهدًا تتّخذ فيه البِنيةُ اللغويّةُ المُنطويةُ على لغةِ الغياب موقعًا هامًّا وَجليلًا، إذ يقول الشاعرُ فيها:
“حطبْ.. المرأةُ.. التي ظِلُّها من خَشَبْ.. ظَلَّتْ تُعَبِّئُ وَسائِدَها بِالماءِ.. تِسقي قَلبَها.. فَيَفيضُ إذْ تنامُ.. الحطبْ”. هذا نموذجٌ آخرُ تتّجهُ فيهِ البِنيةُ اللغويّةُ التي تُجسّدُ الصورةَ الشعريّةَ إلى التشكُّلِ في صورٍ جديدةٍ غيرِ مألوفةٍ، فما الذي يجمعُ الحطبَ بالماءِ بالوسائدِ معَ المرأة! إنّها صيغٌ لُغويّةٌ بديلةٌ تُحلُّ الشيءَ في غيرِ مَحلِّهِ، كي تقيمَ بذلكَ الانزياحِ حداثةَ النصِّ، فالنصُّ الحداثيُّ يَرنو إلى إحلالِ غيرِ المألوفِ في سياقٍ دلاليٍّ تغلبُ فيهِ وَمعَهُ استحالةُ الربطِ بينَ دلالةِ النصِّ الكلّيّةِ وَالمعطياتِ اللغويّةِ والرمزيّةِ والدلاليّةِ الجزئيّةِ المُكوّنَةِ للصورةِ الشعريّةِ فيها.
يَتجلّى الانزياحُ المجازيّ اللافتُ في نصوصِ المجموعةِ في غابةٍ سيميائيّةٍ فوضويّةٍ تَجتمعُ في مُكوّناتِها أسُسُ النظامِ والانتظامِ الدلاليِّ للنصِّ الكلّيِّ، وتلعبُ لغةُ الغيابِ- مرّةً تلوَ المرّةِ- دورًا نوعيًّا في تنصيعِ الغيابِ وَإحضارهِ انسجامًا معَ التصوّرِ المبدئيِّ والشاعريِّ الذي يُقيمُ أودَ المجموعةِ ونصوصِها دونما استثناءٍ.
قصيدةُ “ظلّْ” تعكسُ صورةً شعريّةً تُدني القارئَ منَ النصِّ الكُلِّيِّ عبرَ صَرْفِهِ عنْهُ في وقتٍ واحدٍ، فهيَ اللوحةُ المنحوتةُ بِدقّةٍ متناهيةٍ تُتلِفُ نظرَ الناظرِ إليها، حتّى يَعمى عنْ الكلِّ بِالجُزءِ.. جاءَ في القصيدةِ قولُ شاعرنا:
“المناديلُ التي لم تُرتِّبها المرأةُ الغائبةُ… وَقَعَتْ في سِلالِ الكلامْ.. الكلامُ الذي لَمْ نَقُلْهُ.. ظلَّ يَحشُرُنا في الزِحام… الزِحامُ الذي لَمْ يَمتلِئْ بِنا.. راحَ يَمتَلِئُ بالغائبينَ.. تَرَكَنا مُنكَسِرينَ.. خيطَ ظِلٍّ.. على الناصية”.
الغيابُ في مجموعةِ “ما غابَ من جسدِ السيّدةِ” هوَ غيابٌ جزئيٌّ وكلّيٌّ، هوَ غيابُ الوطنِ في متاهاتِ الحقيقةِ، وهوَ غيابُ المرأةِ في ركودِ الشعورِ، وما أجملَ صورةَ الغيابِ التي يرسمها شاعرنا جهادٌ في قصيدتهِ الحميميّةِ الحارقةِ ببرودةِ الغيابِ، وفيها يقول: “المرأةُ التي تركت مناديلها في الكأسِ… لَمْ تُقشِّرْ قَلبي.. وهيَ تُرتّبُ أقدامَها على الطاولةِ.. لا تسألني عنِ اليابسةِ.. عنِ الماءِ حينَ لا يتّخذُ شكلَ الركودِ.. لا تُعلِّمني.. كيفَ أغسلُ ما سَكنني.. جحيمُ جَنَّاتِها.. تُعلِّقُني في فَمِ رُمَّانِها.. وَتغيبْ”. إنّها صورةٌ شعريّةٌ ساخنةٌ تعتمد لغة التضادّ “جحيم جنّاتها” سبيلًا لمحاكاة الحضور الوجدانيّ بواسطة الغيابِ.
تلكَ عُجالَةُ قراءَةٍ صالحيّةٍ في مَظَانِّ ما أطمئنُّ إليهِ لدى شعرِ شاعرِنا القديرِ الغزيرِ بِحداثتهِ الشعريّةِ المَتينةِ جهاد أبو حشيش، وقد خالجَني لدى قراءة مجموعته “ما غاب من جسد السيّدة” منَ العاطفةِ والوعيِ الذهنيِّ ما دعاني للتساؤلِ حولَ كلِّ حرفٍ وحركةٍ وسكونٍ وعبارةٍ وعنوانٍ ومَتنٍ وردَ فيها، فقدْ عايشتُ خلال ذلكَ كلّهِ حالةً أفضَتْ بي إلى حياةٍ وموتٍ في غيابِ الحضورِ وَحضورِ الغيابِ..
الدكتور صالح عبود