كيف ستترك قبر أمك .!؟
تاريخ النشر: 09/04/18 | 16:43 نزلنا من الباص ,الذي أقلَّنا من القرية الى الجامعة , وتوجهنا الي مدخله . لنمر بالفحص اليومي , الذي نتعرَّض له يومياً ..فاحتجزوك على مدخلها , لأنك لم تجد في جيبك ,بطاقة تثبت أنك طالب فيها .
سمعتك وانت تقول للحارس : “انه ليس لديَّ شك أنك تعرفني , وتعرف انني طالب في الجامعة ..!”.
” إنك تعيقني في أداء عملي ..!” .
ردَّ عليك , وهو يسمح للطلاب اليهود , بالمرور دون أن يسألهم عن بطاقتهم .
فرجعتَ الى البيت , وأحضرتَ البطاقة , ولما اقتربتَ من نفس الحارس , تجاهلك ولم يطلب منك البطاقة .!
قلتَ لي وأنا جالسة بجانبك في الباص ..
وأكملت والغيظ يكاد يتفجَّر من عينيك :
” شعرتُ ان الإهانة الثانية , كانت أشدُّ من الأولى ..!”
كان تلك الحادثة .. بداية تعارفنا ..
كانت المرة الأولى , التي تشركني بمشاعرك .. و بلحظات ضعفك ويأسك ..
منذ اللقاء الأول ..
لاحظتُ أنك مندفع الى هدف , وضعته نصب عينيك , لا تنظر خلفك , ولا حتى الى جانبيك ..
حتى أنا – بدأتُ احسُّ أنني جزء , من هذا المشروع , الذي رسمته وخططتَ له..
كان المشروع متكاملاً : ” من الميلاد حتى الممات .!” .
كان صلباً ..
ولكن بقدر صلابته كان مهدداً بالإنكسار ..!
حاولتُ – يا ربيع – أن أمدّ يدي الى مشروعك , لأهزَّ مكعباته , التي بنيتها فوق بعض , لعلها تهتزُّ أمامك أو فيك , ولكنك دافعتَ عنها بكلِّ قواك .. كدفاع القطة عن صغارها, عندما تتعرَّض لإعتداء.
كنتَ تعيش في حلم , أنت بنيته .. كان بنياناً يخلو من عنصر الشك , ومبدأ التجربة والفشل .والبحث عن البديل ..
في لقائنا الثاني , شرحتَ لي وأفهمتني , أين مكاني وموضعي في مشروعك ..
يومها قلتُ لك, بعد أن انتهيتَ من شرحك :” نسيتَ ان تخبرني , متى سأموت , وأين سأدفن ..!” .
كنت “غبياً ” يومها .. لم تفهم مرامي ..
دائماً كنت غبياً ,عندما تغرق في بئر مشروعك .!
إلتقيتك في الحافلة التي تقلنا من الجامعة الى قريتينا ..
شاركتك في هذه السفرات ,من القرية الى الجامعة , مرات لا تحصى .. ولكن كانت تلك المرة الأولى , التي أجلس فيها بجانبك..
جلسنا فيها متجاورين .. ولكن خيالنا كان يطوف بعيداً, في فضاءات أخرى ..
ولكن عندما وقفتُ , لأمكنك من الخروج, من مكان جلوسك بجانب النافذة , سرقتْ عيني لمعة من عينيك ..
ولم أتخيَّل ان تكون هذه ” الشرارة ” هي التي ستحوِّل حياتنا نارا..
لا أعرف ان كانت هذه الحادثة , سيعاد عرضها أمام ناظريك .. على شاشة مخيِّلتك .. هناك في صومعة انعزالك .!
وقضينا سنة الأخيرة في الجامعة , نلهث وراء المحاضرات والعلامات ..
وتحوَّلتْ لقاءاتنا العابرة , الى لقاءات لها تاريخ وجغرافية , والى لهفة وعتاب وانتظار ووداع ..
وبكيتُ معك يوم ماتت أمك ..!
“لا تقولي ماتت .!” صرخت بي , كأني أنا التي اختطفتُ روحها .!
من ذلك اليوم شعرت أنك تغيَّرتً ..
وكأن مكعَّبات من برج مشروعك , قد اهتزَّت .. وشعرت بأنها مهددة بالسقوط .!
عندما التقيتُ بك , بعد رجوعك من مقابلة العمل الأولى ..
” دعوات أمي كان غائبة .! ”
قلتَ مبرراً عدم قبولك للعمل ..
” دعوات الأمهات.. يرافقننا حتى بعد فراقنا لهنَّ .!” أجبتك ..
فسكتَ ..
ولم تعمل شيئاً من أجل إطالة اللقاء ..لتهرب لتحتمي بخلوتك , لتبكي على شرف مشروعك المطعون ..!
وتوالت مقابلاتك, من أجل الحصول على العمل ..
في أحد اللقاءات , وبعد ان رُفضتَ للمرَّة العاشرة ..
صرختَ شاكياً :
“إنهم يرفضونني فقط , لكوني عربياً..!” .
فأجبتك :
” ليس أمامنا سوى التحدِّي .. وعدم الإستسلام لليأس .!” .
فلاحظت أن ردّي ” تزحلق ” عن سمعك ..هكذا قالت لي عيناك , اللتان تاهتا في ضياع معذَّب .
إلى ان فجَّرتَ في وجهي , قنبلتك الموقوتة..
” لقد وجدتُ عملآً في اميركا ..!” قلت وأنت تبعد نفسك , عن مواطن الإنفجار ..
وتحدَّ ثنا عن هذا الموضوع كثيراً , حتى أشبعناه من ” لحمنا ” ..
ورويناه من دموعنا ..
وتخاصمنا .. وتقاتلنا .. وتحاربنا .. وابتعدنا وعدنا لنلتقي ..
ولكن دون جدوى ..
أنت مصرٌّ على الهجرة .. مصرٌ على أن نتزوّج , ونبني حياتنا في الخارج .!
وأنا مصرة على نبقى للعيش هنا .. في أرضنا .. في وطننا ..!
قلتَ وأنت تبصق كلاماً يقرف منه : ” أبي يعارض هجرتي ..ويريدني أن أشتغل معه في أرضنا..” .
” ولم لا ..!؟” .
صحتُ كأني وجدتُ خشبة , تنقذنا من أمواج بحر التيه, الذي نعيش فيه ..!
” هذا لن يكون ..!”. قلتَ .. وعيناك تطلقان شرراً .
وأنا أقول : ” لن يكون ..! لن أغادر بلدي مهما كانت الأسباب !” .
رددتُ عليك بغضب شديد ..
حتى ولو كان أنا ..! صحتَ متحدياً ..
أنت الذي وضعتني في هذا الموقف !
قمتَ من مكانك ,وسرتَ باتجاه محطة الباص ..وتركتني غارقة في حوّام مجنون ..
مرَّ شهر على ذلك اليوم المحموم ..
لم أرك .. ولم أسمع عنك خبر ..!
جميع محاولاتي للإتصال بك باءت بالفشل .. أغلقتَ هاتفك النقال ..توقفتَ عن الحضور الى الجامعة ..سألتُ بعض الأصدقاء عنك , فلم يسعفني أحد بشيئ ..
فزاد قلقي عليك .. أحييتُ الليالي وأنا أفكر فيك ..
فقررتُ أن أذهب الى المزرعة .. الى مزرعة أبيك ..!
كنت أعي المخاطر والمشاكل ,التي تسبب لي هذه الزيارة ..
ولم أنسَ أنني أعيش في مجتمع , لا يقبل ان تزور فتاة , عائلة شاب
لا تربطه بها رابطة رسمية ..
كيف سيستقبلني أبوك ..!؟
كيف ستستقبلني, في حالة وجودك في المزرعة ..!؟
حتى ولو لم تكن هناك , ماذا سيكون رد فعلك عندما تسمع بها..!؟
بالرغم من كل هذا قررت القيام بها ..مهما تكون النتائج .!
ولما وصلتُ ..
كان أبوك يحزُّ بمنشاره رفع شجرة زيتون ..
” قطع أغصان الشجر بوجع ..ولكن عند قطعه يصبح أقوى , ويعطي أكثر ..!” .
بدأ أبوك بالحديث , كأنه يعرفني منذ قرون ..
حدّثني عن الأرض والزيتون ..وارتباطه بها .. يعيش معها وتعيش معه ..
كنت أنصت إليه هنيهة , وهو يسحبني الى مناطق ساحرة , تعيش فينا , أيقظ بي حواس نائمة ,عندما ” حكَّها ” استيقظت بيَّ تعالياً
وشذى لحنين ساحر .
” ربيع وين .!” اختطفت لحظة من سيلان حديثه ..
” إنه يقضي أيامه ولياليه , بين الإنزواء في غرفته , والجلوس عند قبر أمه .” .
ردَّ ونثرٌ من دموع يتطاير من عينيه
” ستجدينه هناك عند أمه في المقبرة !” .
أكمل وهو يهرب من أمامي ..ليقطع رفعاً آخر .
جلستُ بجانبك بالقرب من قبر أمك ..
وبعد صمت طويل ..قضيناه وكأننا لم يحس الواحد منا, بوجود الآخر همستُ :
” كيف ستترك قبر أمك ..!؟ ” .
فقمتَ من مكانك .وسرتَ نازلاً من المقبرة .. وأنا أسير وراءك ..
وبعد أيام زرتك في المزرعة , فوجدتك تسقي الزيتونات .
بقلم : يوسف جمّال – عرعرة