عاشق ومجنون حيفا
تاريخ النشر: 10/04/18 | 21:58في شهر آذار 2016 استضفنا في نادي حيفا الثقافيّ ابنَ حيفا الشاعر أحمد دحبور الذي ولدَ في حيِّ وادي النسناس الحيفاويّ عام 1946 وهُجِّرَ منها في النكبةِ حين كان في الثانيةِ من عمرِهِ.
كانت أمسية اللقاءِ به في مسقطِ رأسِهِ، تفيضُ حنينًا وشوقًا، فشنّفَ آذانَ الحضورِ بذكرياتِ كشفَتْ مدى حبِّهِ لحيفاه، وحيفاه الحبيبة هذه كانت تُحضرُها والدتُهُ دومًا في غنائِها، إذ تأخذُه معها في كلّ أغنيةٍ، بصوتها المميّز الجميل، إلى حلم حيفا، ذاك الصوت الذي يحملُ بأشجانِهِ حنينَهُ إلى حيفا، حيفا الجنّة، حيفا الحاضرة، العصيّة عن النسيان.
تحدّث عن الذاكرةِ والطفولةِ والوجدانِ الفلسطينيّ الذي لا يُنسى، ولا يُغفر نسيانُهُ، تحدّث عن معاني المنفى والعودة، مؤكّدًا بجميلِ كلمتِه أنّ بحرَ حيفا لن يخونَ أبناءَ مدينتِهِ العزيزة، فمنه ستأتي موجةُ العودة القادمة لا محالة..
أحمد، ذلك الشاعر الإنسان، الغائبُ الحاضرُ، لم يكنْ ليبخلَ علينا في تلك الليلة الشجيّة بقصيدة من أشعاره، ليفكَّ أسوارَ الحزن في القلوب.
وفي اليوم التالي، وبعد تجوالنا في شوارع حيفا، جلسنا لنشربَ القهوةَ برفقةِ زميلي المحامي حسن عبادي في أزقّة وادي النسناس مع أهلِها، متأثّرًا بتلك اللحظة أخذ يسترسل بأبياتِ شعرٍ من قصيدته:” يا طيورًا طائرهْ … يا وحوشًا سائرهْ … بلّغي دمعَ أمي أن حيفا لم تزل حيفا … وأني أسأل العابرَ عنها في ربوع الناصرهْ”.
كان للمنفى والاغتراب حضورٌ مميّزٌ في حياته، فهو حيفاويٌّ حتى النخاع، حمل حيفا معه إلى كلّ مكان، كما فعل صديقُهُ ال”عائد إلى حيفا” طيّبُ الذكرِ غسّان كنفاني الذي يصادف اليوم عيد ميلادِه، فهو، نعم هو، مجنون حيفا!
جلسنا في مقهى بحريٍّ على سفوحِ الكرملِ وشاطئِ حيفا، لم يكفَّ عنِ الحديثِ عن معشوقتِه حيفا، وحين ناولتُه ديوانَهُ ” هنا وهناك” ليوقّعَ عليه، انسكبت دموعُهً وألقى على مسامعِنا قصيدتَه “مسافر مقيم” :
“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بعد ؟
حيفا، أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها ؟
لعلها مأخوذة بحسرتي
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها ؟
وصلتها ولم أعد اليها
وصلتها ولم أعد اليها
وصلتها ولم أعد”
انتمى شاعرنا إلى جيل الذبيحة وهو القائل :
“كنت المنادَى، ربما والمناديا
تذكّرت من يبكي عليّ فلم أجد
سواي، على جيل الذبيحة/ باكيا”
كان أحمد راويةَ المخيّم، وصل حيفا ولم يعُد إليها حين صُدِم بصدمة العودة، بقي يحملُ فجيعةَ الغيابِ، يحملُ الخيبةَ، لكنّ صوتَ اللجوءِ والعودةِ المشتهاة لم يكن ليخبوَ أبدًا، بل ما زال يشتعلُ يُحرقْ الأفئدةَ.
حيفا، كانتْ ولا زالتْ، تجمعُنا اينما كنّا، تسكُنُنا وتذكّرُنا بكلّ ما هو جميل حاضر .. ففي حيفا يمسي الغيابُ حضورًا، ويمسي الحنينُ واقعًا..
وإذا كان أحمد وغسّان قد رحلا عنّا قسرًا، فهناك عودةٌ تدغدغُ احلامَ أخوتِنا في الشتات، وهي قادمةٌ لا محالة.
شاعرَنا الحبيب أحمد،
من هناك، من حيفاك الأبيّة، تستصرخُك حيفا، وتؤكّدُ لك، أنّه على الرغمِ من محاولات السلطةِ اقتلاع الحيفاويّين من بيوتِهم وطمسِ الوجودِ الحضاريّ من طبيعة المكانِ، بحرًا وكرملًا وأحياء، سيبقى حيُّك، أيّها المولود في حيّ “وادي النسناس” العريق، باقيًا حاضرًا، عصيًّا على التغييب أو الغياب.
الرحمة لروح الذي زرع اللوز الاخضر في الدار …
أحمد أيّها الحبيب،
أنت الحضورُ وإنْ غبتَ.. أنت الشعرُ وإنْ سكتَّ، أنت الصوتُ الخالدُ وإنْ رحلتَ..
المحامي فؤاد نقارة
نادي حيفا الثقافي
(نصّ الكلمة التي ألقيت في أمسية إحياء الذكرى السنويّة الأولى لرحيل الشاعر أحمد دحبور في رام الله يوم الأحد 08.04.2018)