“تكلّم حتّى أراك”

تاريخ النشر: 11/04/18 | 8:35

“صديقي حسن ما أدق شرحك لما يحصل على المنابر الأدبيّة .تعبت من سماع السحّيجة وقرأت كلمات وجمل ﻻ معنى لها على الفيس لأشخاص أعرفهم. فعندهم صفحة يتفذلكون بكلمات أحاول جادًّا أن أفهم أهميّة ما يقولون فلا أجد له قيمة. أتساءل: لماذا تضجّ هذه الصفحات بسطور ﻻ جديد فيها؟ كيف وصلنا إلى هذه المحطات؟” رنقيّة (رسالة نصيّة قصيرة) وصلتني من شاعر صديق بعد أن قرأ مقالة لي بعنوان “لا تتركوا الحصان وحيدًا”.
قال الإمام عليّ بن أبي طالب: “تكلّموا تُعرفوا، فإنّ المرء مخبوءٌ تحت لسانه” ليكرّر بهذا ما قاله سقراط من قبل. إذ يُعرف عن الفيلسوف سقراط أنّه حين اختال أمامه شخص أنيق المظهر والملبس، متباهيًا بلباسه ومظهره كي يجذب انتباهه، قال له سقراط مقولته الشهيرة: “تكلّم حتّى أراك”. لم يكن قول سقراط إلّا تأكيدًا على أنّ الكلام واجهة العقل ودليل مكنونه وعمق صاحبه، حيث يُعرف المرء من كلامه. ولذا، ليكن الحكم على الجوهر لا على المظهر، فالمظهر زائل، وقد يخدع أحيانًا، و”ليس كلّ ما يلمع ذهبًا”. أمّا ما نخفيه في أعماقنا من عقل وفكر فهو الأساس وجوهر الإنسان، وكلامك هو أنت، هو الدالّ والدليل على شخصيّتك.
يؤلمني أنّ أدباءنا تحوّلوا إلى فرسان وأصبح الفيسبوك “مربط خيلهم”، فيتفرّغون له ليعلّقوا ويعقّبوا ويبجلّوا لحصد اللايكات. يزمّرون ويطّبّلون ويتورّطون في كيل المديح والمجيد والتبجيل لبعضهم، وخاصّة لكاتبات وشاعرات، ولحاجة في نفس يعقوب، ودون نزاهة مهنيّة. الأمر الذي يرفع الكاتبة/الشاعرة إلى سلّم الشهرة بغضّ النظر عن لغتها أو أسلوبها أو مضمون نصّها، فيصيبها جنون العظمة، كيف لا ولديها شهادات من أولئك الفرسان؟!، و”هات مين ينزّلها عن السلّم!”، مما حدا بالناقد العراقيّ عليّ جعفر العلّاق أن يقول: ” الموهبة وحدها لا تكفي في ربوعنا العربية، لا بد من شلليّة منافقة، لا بدّ من قبيلة محاربة، ولا بدّ من أكف يدميها تصفيق قد لا يخرج من القلب كله”. فهل تلك الشلليّة، وتحزّب العشيرة تخلق شاعرةً؟
لاحظت، خلال تصفّحي لصفحات التواصل الاجتماعي ظاهرة نشر شاكِلَة “لوك” متجدّد لأميرة الصفحة مع مقولة من هنا أو هناك، دون مضمون أو حتّى عنوان، وعلى الأغلب منقولة. وهذا ما أسمّيه بصائد النَقرات “Clickbait”، إذ تهدف إلى حصد إعجاب مُتابعيها من أدبائنا بنقرة عاجلة منهم، وبات الأمر جليًّا واضحًا في عدد من الصفحات. وكلّي يقين بأنّه لو قرأ ما لم يُكتب ولم يُنشر لوجَدَها: “من برّا رخام ومن جوّا سخام”، أو حتّى “من برّا طقشة ومن جوّا قمل محشي”. ويأتي الأمر في ظلّ فوضى باتت تشهدها الساحة الثقافية مع ثورة التواصل الاجتماعيّ لأن أديبنا ينتظر النقرة المُلَيِّكَة على صفحته، “فالدنيا سلف ودين”، متجاهلًا الأمر وسلبيّاته، وقد يكون أهمّها “تسطيح” المشهد الثقافيّ وجعله سلعة رخيصة. رحم الله عمر ابن الخطاب الذي قال: “رحم الله إمرأً أهدى إليّ عيوبي”.
مؤسف حقًا تفرّغ أميرات ومشايخ الفيسبوك من كُتّابنا لحصدِ اللايكات والنفاق، خاصّة حين يُليّكون دون قراءة النصّ، من باب المجاملة أو رفع العتب فقط. إنّ انقيادنا الأعمى وراء “ثقافة الفيسبوك” مدمّر ومُهلِكٌ، فهي ثقافة أوهن من بيت العنكبوت، وهي التي ستؤدّي إلى تراجع وهبوط وضعف في مشهدنا الثقافيّ.
قبل فترة وجيزة نشرتُ مقالةً نقديّة في عشرات المواقع، ولم أشاركها على صفحتي لسفري خارج البلاد، فلفت انتباهي أحد الأصدقاء بأنّ صاحب أو صاحبة الشأن قد قام بمشاركة مقالتي على صفحته وغرفت عشرات اللايكات والتعقيبات، فأثار الأمر فضولي ومررت بصفحة الكاتب أو الكاتبة، فأفاجأ بأنّ الكثيرين من المُليِّكين لم يقرؤوا النصّ أبدًا، حيث كتبت شاعرة وروائيّة وفنّانة مرموقة معقِّبة:
“أديبة وناقدة ومفعمة بالمشاعر والانسانية الراقية …اعجبني ما كتبتيه … لك تقديري كل الاحترام الى الامام غاليتي ودمت بخير”

وكتبت أديبة أخرى: “هذا يراعك الشامخ لا ينحني مع الريح .. يطرز الغيم ويلون زرقة السماء ويفرش ديابيج الارض اخضرارا .. دمت ودام اثر الفراشة بين اناملك ساحرا ملهبا للفكر والخيال .. تحياتي سيدتي الرائعة والراقية بأبجديتها وانتمائها وشفافيتها” .

وعقّب أحد ركائزنا الثقافية المحليّة: “ألف مبروك”
وثلاثتهم لم يقرؤوا النص الذي كتبته!
أمست الزخرفات اللغويّة المبتذلة حدّ النفاق، كلّ ذلك من أجل خدمة “الأنا”!
يذكّرني هذا بأهل الخليج وتملّقهم للملك، فللأسف، هذا ما آلت إليه حالنا مع “ثقافة الفيسبوك”!
رجاءً، ارحموا كُتّابنا من احتضانكم الخانق، واسمِعوهم ما تشعرون به فعلًا…وبموضوعيّة صادقة وبلا نفاق… وإلّا فصمتكم أبلغ! تيمّنًا بقول الشاعر أبو الفَتْح البُسْتي (940-1010م) :
تكلّم وسدّد ما استطعت فإنّما … كلامك حيٌّ والسكوت جمـــاد
فإنْ لم تجد قولًا سديدًا تقوله … فصمتك عن غير السداد سداد

أمّا أنتِ أديبتي “الجميلة” فحدّدي أهدافك واسعَيْ إلى تحقيقها، لا تنشغلي بالمظاهر وعمليّات التجميل وتهملي تغذية عقلك، فما يلفت العين فقط، له مدّة صلاحيّة وسينفق يومًا. فإنّ النفاق الفيسبوكيّ قد يمسّك أنتِ أكثر ممّا قد يصيب كاتبًا أو شاعرًا، خاصّة في مجتمع ذكوريّ، لأنّ أولئك الذكور الذين ينافقون لا يهتمّون برصيدك الإبداعيّ وقيمته، بل هم كالذئاب يتصيّدون بأعينهم أكثر ممّا يفكّرون بعقولهم أو يهتمّون بإبداعك وشِعرك. والمؤلم، حين نرى إعجاب أولئك الفرسان المهرّجين بشيء ترتدينه فقط، وإطراؤهم الدائم يكون على منظرك الأنيق البهيّ، وكأنّي بهم يتحوّلون إلى مجرّد عيون تستمتع بمشاهدة سيرك أو عرض ليليّ في “المولان روج” مع كأس شمبانيا زهريّة، دون الاهتمام بفحوى المشهد أو مضمونه، أو بما تفكّرين أو تكتبين، فيحوّلونك بعيونهم إلى شخص بلا قيمة، لا يلفت انتباههم إلّا جمالك ومظهرك. ولذا، تذكّري قول جبران خليل جبران: ” لا تجعل ثيابك أغلى شيء فيك حتى لا تصبح يومًا أرخص مما ترتدي”، ولا تسمحي بنظرة هوانٍ أو استعلاء، وليكن سلاحك جوهرًا عميقًا لا مظهرًا زائلًا، وليكن جمالك جمال العلم والثقافة.. فلربّما عندك الكثير الكثير ممّا تقولينه وتفرضينه على رجل لا يريدك إلّا مظهرًا مُغريًا!
أعزائي، لا تجعلوا المظهر سيّد حكمكم، ولا تنشغلوا بالمظاهر وتجعلوها محطّ اهتمامكم وتقييمكم لها، فهناك من يصغي إليكم ويراكم قدوة يحتذى بها …فارحموهم!
لا غرابة إذًا في أن يحضرني شاعرنا نزار قباني في هذا السياق، وكم كان مصيبًا حين قال:
فلماذا –أيها الشرقيّ- تهتمّ بشكلي!؟
ولماذا تبصر الكحل بعيني
ولا تبصر عقلي!؟
….
فلماذا تهمل البعد الثقافيّ
وتعنى بتفاصيل الثياب!؟

المحامي حسن عبادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة