“شتوة نيسان بْتِسوى العِدّة والفَدّان”: اللّغة نتاج بيئة وسياق
تاريخ النشر: 14/04/18 | 18:04أمس والأول من أمس (10-11 نيسان) أكرم الله خلقه، من طير وشجر وبشر، في وطننا بغيثٍ وفير نسبيّا. يُعْرَف هذا الغيث بمعجم اللّغة المحكيّة والتراث الفلسطينيّ الشعبيّ ب “شَتْوِة نيسان”، على اسم موعد هطولها والذي تُعْرَف وتُعَرّف به، وقد يأتي شهر نيسان بأكثر من شتوة أو بلا شتوة.
ل”شتوة نيسان” في التراث والوجدان الفلسطينيين، والفلاحيّ منهما على وجه الخصوص، أهميّة ومكانة خاصّتان. صُكّت هذه الشتوة بالذات في اللغة العاميّة، كما تقدّم، وفي مقولة شائعة أيضًا هي: “شتوة نيسان بْتِسوى العِدّة والفَدّان”. جاءت هذه المقولة لتعبّر عن أهمية ومكانة الغيث في هذا الموعد من السّنة للفلاحين، فكانوا يتمنونه ويترقبونه ويستبشرون بوقوعه وفرة المحصول وبركة الموسم، ولا زالوا كذلك عشرات السنين بعد إقصائهم عن اقتصاد الفلاحة والزراعة وتحويلهم إلى عمال أجيرين (البرتلة) في سوق العمل العبري في إسرائيل.
تتكشف أهمية ومكانة “شتوة نيسان” ليس فقط في نحتها في قالب لغويّ وفي مقولة متناقلة ومتوارثة عبر أجيال، بل وفي المساواة، أو حتى المفاضلة، بينها وبين ” العِدّة والفَدّان”، عدّة الفِلاحة من محراث ومنجل ومعزق وغيره، وفدّان الأرض، والأرض وسيلة الانتاج (لا مفرّ هنا من استخدام مفردات ماركسية) الأساسيّة في اقتصاد الفلاحة والزراعة، وكلاهما – العدة والفدان – رأسمال الفلاح.
تُنتج اللّغة بوصفها حزمة الرموز الأكبر في الثقافة حصيلةً للبيئة أو السّياق الجيوسياسي، والثقافيّ – بما فيه الدّينيّ، والاقتصاديّ والمناخيّ، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمركبات الأخرى للثقافة من معتقدات، وعادات وتقاليد، وقيم، ومعايير، وقوالب تفكير، وأساليب سلوك، وأنماط حياة، وفنون وعلوم، وبقيّة القدرات التي يكتسبها الفرد في مجتمع معيّن. تنتج اللغة جرّاء البيئة والسياق وعلى نحوٍ مكمّل وجدليّ، سوسيولوجيًّا، للّغةُ قدرة على تشكيل الواقعَ والبيئةَ الاجتماعية وإنتاجهما، وفي هذا قوّتها وفي حالات معيّنة خطورتها، وهو ما لن أطوّر الخوض فيه هنا.
بهذا المعنى فاللّغة، المحكيّة والمعيارية والفصحى، هي وعاء يصُبُّ فيه ناطقوها تجربتهم بل تجاربهم في مناحي الحياة المختلفة، ويودعونها تاريخهم الاجتماعيّ كما تاريخهم السّياسيّ. تتغيّر ظروف البيئة والسّياق بجوانبه المختلفة، بعضها أو جلّها أو كلّها، لكن يبقى بمقدور اللغة أن تحفظ التجربة والتاريخ وأطوار ما قبل الراهن. والسؤال: من يحفظ اللّغة؟ حين تصبح مفردات وقوالب لغوية وأمثال ومركبات لغوية أخرى ليست بذات صلة، يقلّ استخدامها، وتذوي تدريجيّا، وتكون مهدّدة بالاندثار. جرّاء هذه السيرورة “الطبيعيّة” (مع هلالين أو بدونهما)، تتقلّص مفردات وصيغ لغة الأم عند الأجيال الناشئة واللاحقة، وعلاوة على ذلك فإن أحد أوجه خطورتها (هذه السيرورة) يكمن في تغييب التجربة والموضوعة المودعتيْن في المفردات والصّيغ والقوالب اللّغوية المندثرة.
لا أدري كم من الناشئين سمّوا غيث أمس والأول من أمس باسمه، “شتوة نيسان”؟ وهل وكم منهم وردت إلى أسماعهم المقولة التراثية “شتوة نيسان بْتِسوى العِدّة والفَدّان”؟ وإن حصل، فهل أدركوا، بجهودهم الذاتيّة أو بمساعدة البالغين من حولهم، ما تنطوي عليه العبارة؟ إدراك ليس بالمعنى الحرفيّ الحيثيّ فحسب، بل وبالمستوى التعبيريّ المعنويّ لربط الأرض بعناصر الطبيعة والمناخ الأخرى، وبالمعنى الوجدانيّ الذي يربط الانسان/ة الفلسطينيّ/ة بالأرض تاريخيّا وراهنًا، وبانعكاس كلّ هذا في اللّغة.
كما في موسم الزيتون وفعالياته التربويّة عبر جمع الأمثال الشعبيّة وكتابتها وتعليقها على جدران الصّف، وإحضار وتحضير المأكولات الشعبية التي يدخل فيها الزيت، الجديد منه تحديدًا، يمكن أن يستغل شهر نيسان، مع مناسبة سقوط “شتوة نيسان” وبدونها، لتمرير مضامينها المكنونة للتلاميذ وللنقش فيها. أما على مستوى أكاديميّ، فإنّ تمثّلات الأرض في التراث والمخيال الفلسطينيّ جديرة بالبحث المنهجيّ فيما هو أوسع من الربط المأثور بين “الأرض والعرض”.
د. تغريد يحيى- يونس
مقاله مثريه ورائعه دكتوره تغريد
تحياتي
بوركت دكتورة, لفتة مثرية جدا, من معاني ورموز,ثقافة وحضارة وتقاليد.
دمت لنا ذخرا
ما شاء الله. معلومات اكثر من رائعه. بارك الله بك اخت تغريد
ننتظر كل ما تكتبي أستاذتنا الدكتورة تغريد.