“يا وحدنا ؟!؟”
تاريخ النشر: 01/05/18 | 19:10إنهم يحاولون تشويه تاريخنا وطمس معالمنا لاعتقادهم بأن هذا كفيل لجعل شعبنا ينسى تاريخه وحاضره ومستقبله. يعتقدون أن التاريخ لهم وحدهم، ولا أحد غيرهم مرّ عبر بوابة التاريخ، ولأن ارادة الحياة هي ملك شعبنا، جاء الكتاب الوثيقة “حكايتي مع تَل الزّعتر” سلاحًا معرفيّا في وجه أعداء المعرفة والحضارة وإنسانية الشعوب وأرضيّة صلبة يقف عليها كل فلسطينيّ يعرف كي يتحدّى، ويتحدّى كي ينتصر. إنه سجلّ نضاليّ لبطولات وتضحيات شعبنا لاسترداد وطنه وتحقيق طموحاته في إقامة كيان مستقل. إنّه أداة نضاليّة من أجل الحرية.
حقًا … صدق طلال سلمان حين قال “الدم لا يتبخّر بل يغوص في الأرض.. يصير شاهدًا على الجريمة”.
“حكايتي مع تَل الزّعتر” للدكتور عبد العزيز اللبدي، الشاهد الذي رصد الجرائم ووثّق مذبحة المخيّم ودوّن تجربته والمآسي التي عصفت بالأهل بعد شهور من المجزرة كي لا تضيع الذاكرة.
صدرت الطبعة الثانية من الكتاب سنة 2017 في حيفا، في السنوية الواحدة والأربعين للمجزرة، بعد أن توجّهت إلى كاتبه لبحث إمكانية مشاركته في أمسية تل الزعتر في حيفا، دون سابق معرفة، فوافق بحماس ودون تردّد وأضاف “وأكون في غاية السرور إذا توفّرت طبعة جديدة من الكتاب عندكم، لأنني أرى أن أهمّ جمهور أحب أن يطّلع على هذه التجربة، هم الأهل في فلسطين”، وفعلًا صدر الكتاب في حيفا وجاءت لوحة الغلاف للفنّان الفلسطينيّ الراحل إسماعيل شموط، ووقع في 366 صفحة، بتصميم الفنان الملتزم ظافر شوربجي عن “مجد” للتصميم والفنون في حيفا، وتم إشهاره بتوقيع المؤلف خلال أمسية ثقافية في نادي حيفا الثقافي (يوم الخميس 10.08.2017).
أشار د. اللبدي في إهدائه كتابه “إلى أهالي تل الزعتر الذين علّموني الصبر والصمود والإبداع”، ويقول د. سمير أيوب في مقدمة الكتاب: “الكتاب في الواقع وثيقة تاريخية مهمة….لأنّها تعيد التأكيد على ضرورة ابتداع رؤيا جمعية للصراع وطبيعته مع كل مكوّنات معسكر الأعداء، وتحديد مفردات معسكر الأصدقاء، والحلفاء، وتحديد جَليّ واضح للأدوات والأولويات والمواقيت، دون ذلك سيتكرر اغتيال الحلم والأمل والتبريرات والاتهامات، وسيبقى تحرير فلسطين بالتأكيد على الطريق غير الصحيح إلى حيفا”.
د. عبد العزيز اللبدي من مواليد حيفا عام 1946، درس الطب في جامعة بون الألمانية وتخرّج عام 1974 ليخدم طبيبًا في مخيم تل الزعتر، عاش المجزرة، تخصّص في الجراحة العامة في برلين وحصل على شهادة الدكتوراه في الطب من أكاديمية الدراسات العليا عام 1984 في برلين، حامل رسالة تل الزعتر، ومن مؤلفاته: أوراق تل الزعتر، الهلال الأحمر الفلسطيني، تاريخ الجراحة عند العرب، القاموس الطبّي العربي، رواية وردة كنعان، ورواية ذهب الرقيم.
أصدر د. اللبدي كتابه “أوراق تل الزعتر” عام 1977، مباشرة بعد المجزرة، وفيه سجّل يومياته في الفترة الأخيرة للحصار التي سبقت الخروج من المخيّم، وكان صديقه وتوأمه، صديقنا الدكتور يوسف عراقي قد أصدر “يوميات طبيب في تل الزعتر” (الذي تُرجم في حينه للغة البلغارية، ونُشرت مقتطفات منه في جريدة الاتحاد الحيفاوية، جريدة لا براس التونسيّة ولوموند الفرنسيّة) ولكن لم يُكتب عنها الكثير ولم تتناول وسائل الاعلام إلا ما قلّ منها، بضبابيّة، ولم توثّق الشهادات الشفويّة فجاء هذا الكتاب كمنجز بحثيّ، يشمل بعض اللمحات عن تجربته الشخصيّة أبان الحصار والاطّلاع على معلومات لم تكن مُتاحة في حينه.
يشكّل الكتاب نوعًا من السيرة الذاتيّة والفكريّة لكاتبه وللشعب الفلسطيني وقضيّته من منظار د. عبد العزيز اللبدي ولا يصبو إلى أن يكون كتابًا بحثيًّا تاريخيًا فهو يتناول بدايةً وضع الحركة الطلابيّة، وكان أحد قادتها، في ألمانيا، وقد أشار إلى نقاوة وصفاء الفكر الشبابي، وتعفّن المؤسّسة التي أحبطت الطموحات الشبابيّة وكبحت جماحها، رسم خريطة الطريق والوضع اللبناني في ثمانينيّات القرن الماضي، وتطرّق إلى جمعيّة الهلال الأحمر الفلسطيني وغياب الأطر التنظيميّة عن الساحة، وبداية الحرب اللبنانيّة التي رآها تعبيرًا عن أزمة سياسيّة، جذورها اجتماعية واقتصادية وتاريخيّة تم شحنها لتأخذ بُعدًا طائفيًّا.
تحدّث عن وصوله صدفةً إلى مخيّم تل الزعتر فتغلغل إلى داخله وأصبح جزءًا لا يتجزأ منه، وصف المخيّم بتركيبته الاجتماعية، الاقتصادية، السياسيّة والصحيّة. كرّس فصلًا من كتابه لزميله الدكتور يوسف عراقي وعلاقتهما الأخويّة ودورهما الرياديّ والتوعويّ في المخيّم.
يصف الحصار على المخيّم مباشرةً بعد حادثة الباص في عين الرمانة بتاريخ 13 نيسان 1975 وكتب يوميات الحصار والدور الذي قام به مع زميله د. عراقي، تنظيميًا وصحيًّا، وصف حالة الجوع والعطش والنقص في المواد الغذائية والأدوات الصحيّة والكوادر الطبيّة، وركّز على الحصار الأخير للمخيّم وموت الشهداء، الواحد تلو الآخر، محاصرة بناية قدوره و”الملجأ المصيدة” الذي اختبأ فيه المئات من المدنيّين خاصة النساء والأطفال وهم في بالغ السوء، ولم يكن بينهم مقاتل واحد، وتعرّضوا للقنص والقصف المتواصل وصار الملجأ قبرًا جماعيًّا، والصليب الاحمر الدولي عاجز عن مدّ يد العون والمساعدة، فيما تواصل القصف المدفعيّ إلى أن جاء “يوم المذبحة”، الخميس 12.08.1976، يوم اقتحم الانعزاليون الملجأ الذي كان يعجّ بالجرحى وحين خرج الممرض إلياس العشي طعنوه بالحراب إلى أن لفظ روحه، وأطلقوا النار على جميع من في الملجأ! وكانت التصرفات العصبيّة والهمجيّة للمهاجمين قد أقلقت الناس وبدأ الخوف يدبّ في نفوسهم وخرج من تبقّى من براثن الموت.
وفي ساعة الخروج خاطبه انعزالي موجهًا بندقيته إلى رأسه: “أنت إذًا طبيب في تل الزعتر، تداوي الجرحى ليقاتلونا، أنت إذًا ضدّنا، ويجب أن تموت!”، واتهمه آخر: “إن المستشفى كان مركزًا للتعذيب، وأنكم سحبتم الدم من المسيحيين حتّى الموت!”… وهُجّر أهالي المخيم.
هذا ونُشر في جريدة السفير خبر مفاده وفاة الدكتور عبد العزيز(يوم السبت الفائت 28.04.2018 التقيت الدكتور عبد العزيز في حيفا، مسقط رأسه، وحدّثني زوجته ماجدة عن لقائها به بُعيد ذلك اليوم المشئوم في حفل خطوبة أحد المناضلين، ذًهِلت حين رأته فكانت قد قرأت “خبر” وفاته، وحين سألها: “ألم تكوني في تل الزعتر؟” أجابته بدهشة قائلة: “ألم تمت في تل الزعتر؟ لقد قرأت الخبر في السفير!”… وها هما في حيفا رغم الحصار…والتاريخ).
تطرّق في نهاية الكتاب للسؤال الذي ما زال يُحيّر الجميع: لماذا سقط تل الزعتر؟ ويتساءل: وماذا بعد؟ ليصل إلى نتيجة أنّ ميزان القوى العالميّة تتغيّر، لن يبقى الغرب قوّة وحيدة تسيطر على العالم إلى الأبد، نهايته قريبة بحكم التغييرات الحاصلة يوميًا، وسيأتي اليوم عندما لا نكون وحدنا.
تميّز الكتاب بفهرس إضافي شمل أسماء الشخصيّات والمؤسسات والأماكن وغيرها مما ورد في الكتاب، وكذلك قائمة بالمصادر التي اعتمدها، وملحق التجربة الطبيّة في تل الزعتر (كتبه بمشاركة زميله د. يوسف عراقي)، كما شمل ملحقًا بالصور واللوحات – فكانت لفتة مباركة وضروريّة تسهّل على القارئ والباحث، كما منحت كلّ ذي حقّ حقَّه وأثْرَت الكتاب وزادته مهنيّة ورونقًا.
“يا وحدنا؟!؟”.. سقط الزعتر بالكلمات، دخل التاريخ، سيبقى مع غيره من الدم الفلسطيني داخل المخيّمات وخارجها، يلاحق كل مسؤول ولغ بالدم، وسيبقى يلاحق أحرار العرب في فلسطين وخارجها لتذكيرهم بأنّ كل الآفاق مشروعة في قادم الأيام.
هناك ضرورة ملحّة لتوثيق روايتنا الشفوية الصادقة، المُهمّشَة والمُغيّبَة، فالشهادات الشفوية مهمّة جدًا، شهادات مَن بقي ليروي قصّته وقصّة ذويه، لأن المتبقّين من المنكوبين من أبناء المخيّم يتناقصون ويموتون وتموت معهم حقيقة ما حدث علّها تكون عبرة لمن اعتبر، وحبّذا لو نحكيها، نُدوّنها ونُوثّقها كما فعل أخواي د. يوسف عراقي ود. عبد العزيز اللبدي، كي لا تموت “الحقيقة الكاملة” ونكتب التاريخ غير المزيّف، لذا هناك ضرورة ملحّة لتسجيل تلك الشهادات للباقين ممن عاشها، وكذلك أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وعدم تركها لل”مؤرّخين”، فلو جُمِعت تلك الشهادات لشكّلت اللوحة التاريخيّة الصحيحة فالذاكرة الجماعيّة سلاح لتحقيق العدالة!
كتبت في حينه عن كتاب “يوميات طبيب في تل الزعتر” لصديقي الدكتور يوسف عراقي :”يشكّل الكتاب تحية إجلال وإكبار لهؤلاء الباقين، وحبذا لو تُرجمت هذه الشهادة لكل لغات العالم لمحاولة محاربة تغييب وتهميش المجزرة” وأنا سعيد بأنّه تُرجم للإنجليزيّة ويُترجم في هذه الأيام للألمانيّة والعبريّة وأكرّر ذاك النداء وتلك الصرخة بالنسبة لهذا الكتاب.
لن ننسى، لن نغفر، ولن نسامح أحد، مهما تعدّدت سمات القاتل وتغيّرت صورة الجلاد.
المحامي حسن عبادي