كلمة موجزة واخزة في رواية منفى الياسمين ل د. عبلة الفاري
تاريخ النشر: 02/05/18 | 14:58منفى الياسمين ل د. عبلة الفاري
كتب فلاديمير ناباكوف مؤلف لوليتا ” الأسلوب والمبنى هما الجوهر والفكرة العظيمة هراء”
ويقول جاك دريدا أنّ اللغة هي العالم ، وبتعبيره المعرّب ” كلّ لغة تحمل العالم في جوفها ” .
حين يهصر المنفى المبدع يهرب بين الحروف ويسكن اللغة ملاذه الوحيد ، كقول الشاعر سليم
بركات : ” وطني الحقيقي هي لغتي”.
واكتشف السويسري فرديناند دي سوسير أنّ اللغة نظام رموز (أو علامات) وأنّ كل إشارة في هذا النظام تمثّل كيانا نفسيا لا يوجد إلا في ذهن الإنسان .
هذه التوصيفات تحمل وجهات نظر ومذاهب متنوعة ، فالرواية عالم تخييليّ فيه يعاد تشييد الكون أو الواقع بشخصيات من ورق . صحيح أنّ الكاتب يسفح على الورق المصقول الأبيض خواطره وأفكاره ،لكنه يكتب من واقع يعيشه ، فلا يمكنه عزل أدبه عن واقعه ،ويجب أن يحمل العمل الأدبي رسالة للقارئ أو للحياة .فالروائي حصرا لم يولد من إصبع جوبيتر، إنّه مع الناس ، يعيش بين ظهرانيهم ويكتب بلغتهم.
هذه المناجز اللغوية والمقدّمة هامّة لفك شيفرات وطلاسم نصوص منفى الياسمين المثقلة بالمفردات اللغوية التمّامية (نسبة إلى أبي تمام ) ، والتي تدع القارئ يغوص في اللجج والأعماق بحثا عن المحار ليخرج اللآلئ منها . نحن أمام رحلة مع شميم اللغة ومع أزهار لغوية متفتّحة الأكمام .
في هذه الكنوز اللغوية الجميلة يدخل القارئ العادي “مثلث بيرمودا “ا للغوي وجزر التيه والضياع لتشابك السرد وهيمنة اللغة الشاعرية خاصة حين يتوقف السرد ، في الوصف وفي الديالوغ.
صحيح أنّ الكاتب لا يكتب من نظريات لكن النظريات تنسحب على نصوصه ، وهذا ما يلائم رواية الدكتورة عبلة الفاري بالتوصيف التالي :
منفى الياسمين موناليزا شاعرية جمالية ممسوحة بالضباب أو لوحة تشكيلية مزركشة وملوّنة بالهموم والوجع الإنساني والرحيل والتغريبات للمقهورين والغاضبين على قسوة الحياة . تستوقفك في متحف لغوي وتستدرجك لتشطح في خيال أفيح ومناخات شاعرية مسكونة غالبيتها بالفجيعة والنفي والقهر والامتهان والكوابيس في فيافي الغربة ، في أماكن مختلفة فلسطين، تونس، إيطاليا ، فرنسا .
جمالية اللغة تأسر و تسرق القارئ وتبعده عن الميتانص ( المعاني المختبئة وراء النصّ) وتهرب به هروب ظبية في بيداء.
تضاريس اللغة عند المؤلفة جبلية ومتعرّجة وملآى بالغابات والأدغال والأشجار الخضراء الكثيفة ، تختبئ فيها شخوص قليلة ، تحتاج فيها إلى نظر ثاقب مثل زرقاء اليمامة للبحث عن هذه الشخوص التائهة والهاربة والمفجوعة .
بكلّ حق وحقيق يقال ،اللغة البلاغية الشاعرية المكثّفة تدلّ على ملكة لغوية فائقة والحقول المعرفية المتعددة تدل على ثقافة كوزموبوليتانية (كونية) بالموسيقى والميثولوجيا والجغرافيا والسياسة والتاريخ والطب ، لكنّها تشكّل جدارا بين النصّ والمتلقّي وتتعب الحروف .
منفى الياسمين تشكّل صوتا جديدا في الرواية الفلسطينية الحديثة من حيث الاهتمام بهندسة وتصميم ومعمار روائي وانتقاء لغوي مميّز .
إنّها رواية البحث عن الحقيقة في مناح عدة ، رواية المقموعين والممتهنين والمذلّين بلغة مكسيم كوركي وتوليستوي وديستويفسكي ، إنّها رواية المعذّبين في الأرض بلغة طه حسين ، إنّها رواية الحرام بلغة يوسف إدريس وهي رواية عبلة الفاري التي تحمل صوت ” من لا صوت لهم ” الهاربين من قمع الإنسان وقسوة الحياة .
حياة المخيّم
الرواية تحمل فيما تحمل حياة المخيّم الفلسطيني ونفسية ساكنيه المشروخة والمصدّعة ، حيث الهدم والقتل ورائحة البارود بين شجيرة الياسمين المتضوّعة عطرا . نابلس المختبئة وراء جبل حيفا ! (حسب توصيف الرواية ) حاضرة برائحة صابونها وكازها .
شخوص هامّة في الرواية :
– فطيمة مناضلة انتزعوا عائلتها وبيتها وأرضها وكلّ ما يربطها بالبقاء وحين اشتدت الحلكات رموها في قعر القهر. شخصية واعية ، تمثل صوت المرأة المتحرّرة .بناؤها ورسمها جميل وناجح ، هي تنعت ب ” برونز أفريقيا الخلّاب وسحر موسيقاها ” ، ثارت على واقعها الذي يزجر المرأة في قريتها كما الشاة ويسوقها كالبعير. استقبلت حكم حين خرج من السجن في فرنسا ،بعد أن ضرب المحقق الذي اتهمه بالإرهابي بعد أن اشتبهوا به واعتقلوه .
تتساءل في نهاية الرواية وهي فاقدة بصرها لماذا عاد أخوها من المنفى بعد أن تركها وأهلها في أحلك الظروف وأقساها. هل عاد طمعا في الميراث ؟
-سارة ضاجعها المعلّم خير الصالح وحملت منه وحين طلبت الزواج منه قام بقتلها وردمها في حفرة
– أم الراوي حكم صديقة سارة ماتت أمامه في عريشة القش ويناديه الناس ابن العاهرة
– حكم هو السارد ولد سفاحا يعمل عتّالا للشاحنات ، يبحث عن الذي رمّل أمّه ويتّمه وشرّده
(تشابه مع رواية السنوسي) يقوم بقتل خير الصالح بالخنجر ثأرا لأمه ولسارة ولعدة نساء ،فيه تماه مع شخصية حسن المتسوّل ،رافقه بعد أن قام بقتل خير الصالح . هرب إلى إيطاليا أصبح اسمه أربترو أصابته حادثة طرق بصحبة صديقة إيطالية مخمورة ،ففقد الذاكرة .وفي السجن عادت إليه ذاكرته . وهو ابن العمة خضرة عاد من أوروبا .
-خير الصالح الملقّب بأبي زلاطيم ، شخصية قذرة مستغلة اغتصب وقتل عدة نساء
– حسن المتسوّل الحافي الأجرب طردته زوجة أبيه بسبب برصه ، فعاش حياة تسوّل في الشوارع بعد أن عانى من ظلم المجتمع ، ويلقّب بفأر المدينة .قام بتهريب حكم عن طريق عمه إلى إيطاليا.
– فرحان سائق شاحنة
– عم حسن تاجر غني يتاجر بالبشر والمخدرات والأسلحة .
ياسمين بعد أن دهورت بها الدراجة برفقة حكم انفك لسانها وعاد صوتها .
مرايا المعذبين في الأرض :
تحاكي الرواية صوت مكسيم غوركي مع الفلاحين خاصة في عمله جامعياتي مع الفلاحين ومذكراته طفولتي حيث وصف معاناتهم ومرارة عيشهم وامتهانهم وإذلالهم ، منفى الياسمين تحكي وجع النساء العاملات في الزراعة عند خير الصالح القذر ، حيث الاستغلال الجسدي والماديّ والقتل ، فالفقر والحاجة أرغمت النسوة المقموعات من المجتمع ومن الرجال الذين ضاجعوهم وجعلوهم يلدون أبناء سفاح ، فاضطروا العمل بأدنى الرواتب وبأقسى الشروط.
العنوان/ عتبة النصّ ودلالة العنوان منفى الياسمين يحمل دلالة سيميائية وينفتح على عدة تأويلات منها النفي الفلسطينيّ عن المكان /الوطن/المخيّم ، و”ياسمين” هذه الشجرة الجميلة
الناعمة لها دلالات تونسية (ثورة الياسمين الناعمة) وفلسطينية ،فهي ترد ص 37 وتحمل موالا ” ريحة البلاد يابا ، ورد وياسمين يابا يابا ” كما أنّها مرايا لأهل المخيم الصامدين ” تختلط ريح الدخان بفوح الياسمين، وتلتحم الصرخات بغمام الغبرة في مضامير السماء، وأنا ألتصق بسيقان الشجيرة أكثر، فهذه الروح الشقية تأبى غريزيا الاندثار تحت جنازير الدبابات ، كما الصراصير والوزغ ” (ص111).والياسمينة تنبش ذكريات المخيّم ودالة عليه . وياسمين هو اسم صبية ” أنت ابنة الياسمينة حملت بك وأنجبتك تحت طلقات الرصاص. سأناديك ياسمين،
عرفت أنك هنا منذ دقات أجراس الياسمينة وانتشار عطرها الواشي بك ” (122).
هنات في الرواية
موضوعات متشعبة ومشتّتة
لم تعالج الرواية موضوعا واضحا مثل المنفى بل كثّفت في طرح موضوعات متشعبة ومشتّتة لا
رابط بينها ، منها معاناة اللامنتمين والمولودين سفاحا في العالم العربيّ ، وقسوة المجتمع ، والفقر وقمع المرأة ، وانتهازية الأغنياء واستبدادهم ، ومعاناة المنفى ، مما أضعف موضوعها وزاد في ضبابيتها وتشظّيها. وهي من ناحية ثانية تحمل الرواية بجمالية حسا إنسانيا رائعا بتصويرها صوت من لا صوت لهم مثل العمة الخرساء ،الواعية الصامدة كشجرة الياسمين في المخيّم ،وهذا يسجّل في الرصيد الإيجابي لهذه الرواية ،وكان على الكاتبة الإمساك بهذا الخيط الإنساني وجعله الصوت الطاغي والموضوع الرئيس والواضح.
ضياع الحبكة
صحيح أنّه وفق نظريات السرد الحديثة لم تعد ثوابت للبناء الروائي فقد تشظّى الزمن واختفت تراتبيته ا، كما أصبحت الرواية بوليفونية (متعدّدة الأصوات ).لكن يجب أن يبقى خيط أو خيوط لتواصل السرد وحركيته . لكن منفى الياسمين تفتقر إلى موضوع رئيس أو ثيمة تربط السرد المنهال منها بلغة جميلة ، فلا خيط أو خيوط تربط السرد المشظّى أو الثيم التي تحملها الرواية، مما يفقد الاتصال مع المتلقي .
حركية السرد
في الصفحات الأربعين الأولى يتباطأ السرد ويتوقف أحيانا بفعل الصور الشاعرية الوصفية .والرواية حافلة بمحطات الوقوف وتعطّل حركية السرد.
الأفكار
الرواية ملآى بالأفكار والآراء ، ممّا يذكّرنا بروايات جبرا إبراهيم جبرا خاصة السفينة حيث جدل المثقفين وثرثراتهم الصاخبة والملآى بالنظريات وقد آمن جبرا بدورهم في حراك المجتمع العربي وتغييره . من هذه الأمثلة الواردة في الرواية :
” حين يكسرنا الفراق تصبح الحياة بلا معنى لوجودنا ، نرغب بمغادرتها غير آسفين ،لكن صوت الميلاد أعلى من نعي الاحتضار ، وكأنّنا نبقى لنشقى ، وفي بقائنا هناك حكمة ” (ص 115).
” ..فمن يقصف من الخارج لا يخيف ، إنما الخوف هنا ، من يحرق الحياة فينا، ويجفف ينابيعها بأعماقنا ، ويجتث الفرح في نفوسنا بالمكائد والدسائس هو المخيف ” (ص114)
الغرائبية أو الفانتاستيك : الحديث مع المارد الذي يسألها عن أهلها ،الذين صرعهم الموت ولم يبق منهم أحد (ص113)
– ” في الرحيل عناد نناطح به طاغوت الواقع ، فالرحيل ذاته تحد للانسلاخ عن أشياء
لازمتنا وانصهرت فينا وعششت بذاتنا ، فأدمناها وعايشتنا راغبين بها أو نافرين منها” (121)
– ” فالموت لا يقتصر على فراق الأجساد والأرواح بل إنّ كثيرا من الأمنيات والغايات والأحلام نودعها اللحود راغمين، ونهيل التراب عليها صاغرين ” .(119)
-” سأتذكر نصيحة عمي الشاذلي ، احذر الغربة بنت الكلبة ، وأشهى الثمار لا تؤكل إلا من تراب الوطن ، وأطهر الأقدام تلك المنغمسة بطينه ” (134)
اللغة والعلائق مع المتلقي
لا تقيم اللغة علائقية ووشائج مع المتلقي العادي بسبب لغتها البلاغية الشاعرية المنتقاة من المعاجم ، كما أنّها لا تتلاءم ومستوى الشخصيات الساردة ، مما ينفي عنها الواقعية . يطرح السؤال لمن نكتب. ولمن يكتب الروائي الفلسطيني في أيامنا حيث سطوة الفيسبوك والوسائل الإلكترونية والغربة بين اللغة العربية والأجيال الجديدة. هذه اللغة الغرائبية لا تفهمها إلا صفوة
من الناس تجيد اللغة والبلاغة وكأنّنا في عصر المقامات .على الكاتب أن لا ينسلخ عن مجتمعه لغة ،كي يفهم المتلقي رسالة عمله . صحيح أنّ العمل الأدبي يجب أن يحمل لغة شاعرية وأدبية
لكن يجب ألا يغلب الشكل والأسلوب على المعنى .
إضافة إلى ذلك اللغة المنتقاة تنسف الفكرة والأحداث التي يحملها النصّ والتي من المفروض أن تسيّر القارئ وتجعله يتفاعل معها ،وتترك في عالمه اندهاشا وأثرا .لكن حين ينتهى القارئ منها يرى أمامه مرآة مشظاة من حيث فهم موضوعاتها وطلاسمها .
( ألقيت بتاريخ 18 26/4/ في نادي حيفا الثقافي في أمسية إشهار رواية ” منفى الياسمين” للدكتورة عبلة الفاري).
بقلم : سمير حاجّ