مطر نيسان.. ورد أيار
تاريخ النشر: 05/05/18 | 14:29نيسان ..أبريل..شهر الرغبات كما يقول ت.إليوت في الأرض اليباب:
نيسان أقسى الشهور يخرج
الليلك من الأرض الموات
يمزج الذكرى بالرغبة يحرّك
خامل الجذور بغيث الربيع
تجمع أمي مطر نيسان في قارورة تحليه بالعسل تناولني القارورة تقول : اشرب تشدد أمي مطر: نيسان مبارك. إنها تترجم سلوكيا مقولة أبو قراط: الطبيعة هي الشافية من الأمراض. تتماهى روح أمي في عفويتها، في حكمتها، في خبرتها مع روح السياب الشاعر الذي كان يتداوى بالندى والمطر:
و في ليالي الصيف حين ينعس القمر
و تذبل النجوم في أوائل السحر
أفيق أجمع الندى من الشجر
في قدح ليقتل السعال و الهزال
وجه أمي من وجه الأرض في تبرجها في الربيع وجدائل شعرها حين تفتحها لتمسحها بزيت الزيتون وتأخذ قارورة الكحل لتكتحل بالمرود وفي يدها المرآة من سنابل القمح وهي تتطامن بحباتها الجنينية نحو الشمس والضياء أتأمله وأقول: أنت جميلة ياأماه ! تضحك كبرت ياولدي أنا عجوز …لا تشيب الأرض ولا تهرم ياأماه ! ظللت إلى الخامسة عشرة أنام بجنبها أحضنها أضع رجلي على ساقيها وأنام إلى الصباح طراوة الجسم المندى بالعرق ورائحة الكحل وزيت الزيتون تتماهى مع رائحة الربيع وأبريل على الخصوص الأرض المنداة بالمطر ورائحة العشب الأخضر ينمو رويدا رويدا .
أحببت أمي كما يحب كل إنسان أمه وأحببت الحياة لأني أحببت أمي وكثيرو ن يزعمون حب الحياة وهم أعداء للحياة !
أخذت الحكمة من أمي وأمي أخذتها من الأرض من الحياة .
أمي والحياة صنوان، وجهان لمخلوق واحد كل ما في الأرض من عطاء ومن جمال ومن بركة له مقابل في الأم: الرحم، ماء الحياة ، الجنين ، المخاض، الولادة ، الحدب، التضحية الجمال …
جوف الأرض، المطر، البذور، الربيع ، البركة، الزهور……
أحببت أمي كما يحب كل إنسان أمه وأحببت الحياة لأني أحبت أمي وكثيرو ن يزعمون حب الحياة وهم أعداء للحياة.
الحياة في صيرورتها في تطورها في عنفوانها فلست أعرف أحمق من الذي يدير ظهره للحاضر ويبحث عن الماضي زاعما أنه بإمكانه أن يستحم في النهر أكثر من مرة يبخس نفسه قيمتها ويرى الكمال في آخرين طوتهم غياهب القرون يصنع أصناما من الوهم بيديه ويعبدها ويطمس إنيته ويرتهن حريته .
***
كبرت وكبرت ونثرنا غبار ضحكاتنا على صهوة الريح ، وادخرنا ذكرياتنا في جيب القمر في غقلة من الحراس –أوصياء القبيلة- قبيلة التمجيد والتقديس والممنوع والمكبوت
حين يدخل أيار ينثر ورده وأيار تشتاقه النفوس شوقا إلى ورده كما يقول أبو العلاء :
تشتاق أيار نفوس الورى** وإنما الشوق إلى ورده
كنت أسابق النسيم إلى حقلنا ذات صباح من أيار لأقطف وردة أيار مباركة بماء نيسان أتشمم أريجها أعطيكها تصطنعين الخفر وتتبسمين في كيد برئ هو كيد أمي كيد الحياة لله ما أحلاه ! نتفرج على البيادر نفرح بمحصول العام تشتد فينا الرغبة نترك لغة القبيلة ونصطنع لغة الحياة.
***
في هذا الزمن المعاصر ارتهنت التقنية حياتنا وسجنتنا في بيوتنا صنعت لنا العوالم الافتراضية دنيا من الوهم وعالما من الزيف وعزلتنا عن أمنا الأرض قطعت الحبل السري الذي يصلنا بالأرض وسجنتنا خلف شاشات الكمبيوتر نتلذذ بأحاديث لا عبق لها وصداقات لا مصداقية لها نجري وراء الصورة ونعبد الصورة حتى خلقت لنا الصورة ورما كل واحد يفاخر بورمه ويكاثر الآخرين بأورامه إن هذه العوالم الافتراضية لهي المبرد الذي نلحسه ونتلذذ بدمه المسفوح وهو دمنا وقتنا، علاقاتنا الحميمية، أسرنا، حاضرنا، مستقبلنا حتى تسلمنا هذه العوالم بعد زمن طويل إلى شيخوخة مبكرة وجهالة مطبقة ورصيد من قبض الريح وحصاد الهشيم وخيوط العنكبوت.
***
لماذا نحن إلى طفولتنا هل اليأس من الحاضر والمستقبل معا؟ أم الخوف من الموت الذي نقترب منه؟
أم لأن الطفولة هي الحياة بلا لب بلا وعي بلا ألم بلا تاريخ إلا الحاضر؟:
والطفل تصحبه الحياة وما له** لب يصاحب عقله ويلقن
ليس عندي جواب ولكن أعرف أن الذي الراشد العاقل الذي يحن إلى الماضي ويرى الكمال فيه هو إنسان بلا حاضر ومستقبل معا وهو خارج الزمن.
بعض الأمم كان التاريخ عبئا عليها والأمة العربية إحدى هذه الأمم .
أنت منحتني الزنابق أول مرة منذ عام
حتى أسموني فتاة الزنبقة
لكن عندما عدنا في ساعة متأخرة من حديقة الزنابق
ذراعاك مملوءتان ، وجدائل شعرك مبتلة ، عجزت
عن الكلام ، وعن رفع جفوني ، لم أك
حيا أو ميتا ، ولم أعلم شيئا
و أنا أشق بعيني قلب الضياء ، و السكون
و البحر خواء مترامي الأطراف
ت.إليوت
بقلم إبراهيم مشارة – كاتب جزائري