حيفا وسراج أمّي
تاريخ النشر: 09/05/18 | 9:39“أعلم علمًا ليس بالظنّ، أنّ الناقد الأدبي في مجتمعنا الفلسطينيّ داخل اسرائيل يعاني أزمة حقيقيّة بالنسبة لتقييم الشعر المحلي الجديد، ذلك أنّ قسمًا كبيرًا من شاعراتنا وشعرائنا الجدد تستعصي أشعارهم عن التحليل والتفسير لغموض ما يحول دون استحسان أو استهجان العمل الأدبي المعتمد…. أمام هذه الحالة المستعصية يتقدّم الناقد مزوّدًا بقيم ومعايير ومقاييس ألفها ودرج على استخدامها ولا يستطيع التخلّي عنها، لا لجمود فيه أو انغلاق في نظريّته، بل لأنه يعجز أن يطوّر كل يوم قيمًا جديدة تعتمد العمق النفسي والفكري لهذا الشعر الجديد.!!!!!” هذا ما كتبه حامل شهادة دكتوراة في النقد الأدبي الحديث في بداية مقالة نقديّة لكتاب يحوي قصائد وومضات صدر مؤخّرًا ونشرها الأسبوع الفائت، وصُدمت لقراءة ما كتب!
لحسن حظّي، كقارئ عاديّ، لم أحتاج لمعايير ومقاييس ونظريات ذلك الدكتور حين قرأت ديوان “حيفا في يديها سراجُ أمّي” للشاعر د. جمال سلسع (الصادرِ عن مكتبة كل شيء الحيفاويّة، يحوي الديوان 50 قصيدةً، تقع في 272 صفحة، زيّنت الغلاف صورة سراج، قام بتصويرها مصوّر مجهول الهويّة؟!؟. د. جمال سلسع هو طبيب وكاتب فلسطيني، أصدر دراسات نقديّة ومنها على سبيل المثال، لا الحصر: الصورة الشعرية الحديثة، الظاهرة الابداعية في الشعر الفلسطيني الحديث، الظاهرة الابداعية في شعر راشد حسين، الأسطورة والتراث في الشعر الفلسطيني الحديث، الرسالة الشعرية الفلسطينية ما بين الدين والقومية، تحت المجهر الأدبي، أوجه التحليل الشعري داخل القصيدة الحديثة وغيرها، وكذلك دواوين شعريّة ومنها: جمرات متوقّدة في أرض الاشجان، أيا قدس أنت الخيار، أناشيد البرق والاطفال والحجارة، عندما تتكلّم الحجارة، ديمومة البقاء، رضعنا المجد دينا، لم الانكسار رغيفي الوحيد، عشّ الروح، شك اليقين وغيرها).
تزامنت قراءتي للديوان مع الذكرى السنويّة الأولى لوفاة صديقي الحيفاوي حتّى النخاع – طيّب الذكر أحمد دحبور- فتذكّرت لقائي الأخير به وتجوالنا في شوارع حيفا العتيقة وساحلها ومشيِنا على رمالها وقوله:
“كنت ملفوفًا بعامين من الكرمل والنسناس
حين انفجرت، في شجرة الكينا،
الرياح الأربع
ما الذي كان أبي يخشاه حتى ارتكبت أخطاؤه
فعل السنونو
ليته قال: اذبحوا طفلي
ولم يرحل”
وجاءني بكاؤه حين مسك بيدي وأنشد:
“إنني أقرأ باللمس
لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟
أين أنا؟ أين تكون
خذ يدي، يا سيدي، اضربني تصدّق أّنني حي
وفي قلبي جياد خاسرة”
وكذلك نشر لوحة عنوانها “الرحيل” بريشة صديقي د. يوسف عراقي الذي هجّرَ من حيفاه في النكبة… وما زال فيها، نشرها عشيّة الذكرى السنويّة لرحيل أحمد دحبور، وعشيّة يوم ميلاد “العائد إلى حيفا” غسّان كنفاني الذي قال: “لماذا يحبّ الشعراء باريس؟ ويُجيب: لأنّهم لم يروا حيفا .. أغبطكم وانتم تكحّلون أعينكم يوميًّا ببحر حيفا من سفوح الكرمل). كانت سوق حيفا تبعد أقلّ من مئة متر عمّا كان وقتها بوّابة الميناء. حين بدأ القصف، كانت البوّابة الوجهة الطبيعيّة للفلسطينيّين الذين أصابهم الذعر. أزاح الحشد حرّاس البوّابة من الشرطة جانبًا واندفعوا إلى داخل الميناء، وسارع العشرات إلى القوارب التي كانت راسية هناك وصعدوا إليها وبدأوا الرحيل عن المدينة، آملين بعودة سريعة.! استحوذتني تلك اللوحة التي تستنشق هواء حيفا النقيّ قبل تلوّثه، ومثل ما كان الرحيل القسريّ، هناك عودة قادمة لا محالة تدغدغ الأحلام وتصرخ: “يا حيفا ….عائدون!” وكانت تلك اللوحة الرائعة ركيزة لقراءة ديوان يحمل اسم حيفا.
أشعاره مباشرة، بلغة شاعريّة انسيابيّة، لجأ نحو التبسيط وابتعد عن التعقيد فأبدع.
للقدس حضور طاغٍ على الكثير من قصائد الديوان، له علاقة مكانيّة، زمانيّة، روحيّة وتاريخيّة معها، عاش فيها طفولته المسلوبة ويشتاق إليها، ترزح تحت نير الاحتلال وهو قلق عليها ويتألّم لما آلت إليه حالها وأهلها، فنجدها محور قصائده: القدسُ تبحثُ عن قَطرةِ ماء!، القدسُ تنتظرُ الرعودْ، إنكسرَتْ في القدس فصول التاريخ، حنين الروحِ للقدس، القدسُ قصيدة دمعتي! يقول فيها:
“ذُبِحَ الهديل، فجال في زيتونة نوَّاحُ
وبكت حجارةُ قدسِنا، فسقوطها ذبّاحُ
…..
وقفتْ قرنفلتي على باب المدينة دمعًا
والدمع في أحشاءِ روحي، هاجسٌ سوّاحُ
عطِشَ النداءُ وغاب عن زمنِ النخيل سحابٌ
فمتى يُبلِّلُ صرخةَ الأقصى ندىً وكفاحُ؟
وعلى المآذنِ والكنائسِ دهشةٌ تمشي ف….قَ
مذلّتي، يا ويحَ قلبي ما استجابَ سلاحُ!”
يكتب د. سلسع للوطن فيصرخ في قصيدته “وطني…!”:
“وطني يا أجملَ قنديلٍ،
يحملُه قلبي
في زكمِ الليلِ
هل يتعثّرُ خطوي،
والقنديل طريقي
يحملني نورًا
بدّدَ عتمةَ ويلْ؟”
تمّ اعتقال الشاعر وسجنه، فلم ينسى إخوته المعتقلين والسجناء في معتقلات الاحتلال وسجونه، فكتب لسجناء الحريّة قصائده: باب الشمس، إلى باب الشمس، باب الشمس خيلُنا، على سواعدك انتشى، آهة القيد، وقصيدة السجين التي يقول فيها:
“يا سيدي…
من نقَشِ صخرِكَ
سال نايٌ
وابتدا وقتُ الضياءِ،
مغرِّدًا فوقَ القيودِ،
ولاغيًا…
لغة النواحْ”
يتحسّر الشاعر على وضعنا وما آلت إليه حالنا فيثور ضد التفاهات والشعارات وتسطيح قضيّتنا فيقول في قصيدته “ثقافة الاغتراب”:
“يا قُدسُ هذي قشورُنا
فيها الثقافةُ غُربةٌ…
كُتِبت على أوجاعِنا
فاحتلّنا الكذِبُ!
فنُّ الخطابَةِ عِشقُنا
فرِماحُنا خشبُ
فينا السيوفُ تنوحُ
دمعَ مذلّةٍ
سألتْ سواعِدَ عُربِنا
فأتى الجوابُ هزيمةً
يستافُها الهَرَبُ
طلّتْ على أرواحِنا
غَضَبُ!”
المدن والقرى الفلسطينية محفورة في ذاكرته ووجدانه فيتحسّر على فقدان الوطن، ساحل حيفا وبيّارات يافا ودموع برتقالها، تمامًا كما يتحسّر على فقدان القدس والبلاد، فيهدي حيفا عنوان ديوانه لأنّها تعني له الكثير الكثير، هي هويّته وأوجاعه وأمله… وعودته المشتهاة ليفرح حينئذٍ على شواطئها فيقول في قصيدته “على حبلِ الغيابْ”:
“ردَّ عن قلبي العتاب
فيا ويحي…!
دموعُ البرتقالِ،
يهزُّها شجرٌ…
على أوجاعِ حيفا
في يديها سراجُ أمّي
كيف يذبحُني انتظارٌ
لا يزال سِراجها…
يشتاقُ قمحَ يديها…
………
أتدري أنَّ ظلَّ سراجها
مثل الهديلِ،
يحطُّ
في لغة اغترابي
الشمسَ؟
يبدأُ من شظايا الروحِ،
هزَّ نخيلُهُ… وطنًا
فتأتي حيفا من فرحِ الشواطئِ،
دهشةً… لا…
لا يُفارِقُها الحضورْ
غدي في داخلي…
يمشي على نخلي…
وشرفةُ سجني…”
ملاحظة لا بدّ منها؛ قرّر د. جمال نشر قراءة نقديّة حول قصيدته “أنا أكونُ…أو… أنا أكونُ” بقلم خالد طالب عرار، 32 صفحة!!! في آخر الديوان كعتبة نصيّة؟ تُبَجّل الشاعر، فتساءلتُ: هل هي وسيلة تسويقيّة للديوان؟!؟ وهو طبعًا بغنى عن ذلك.
تساءلت حيال غياب وتهميش صاحب “‘صورة” الغلاف الرائعة، وتتلاءم مع عنوان الديوان، الذي لم يُعطَ حقّه ؟!؟ سُئلت مرّة ماذا أقترح أن يُكتب حين يكون صاحب لوحة/صورة الغلاف مجهول فكان جوابي بأنه يتوجّب التنويه في الكتاب: “لوحة الغلاف: بذلنا كل جهد لمعرفة صاحب اللوحة ولم ننجح، نرجو من صاحب اللوحة الاتصال بالناشر أو المؤلف”!!
المحامي حسن عبادي