حول الفيلسوف المبشِِّّر رامون لول والعربية
تاريخ النشر: 09/05/18 | 22:15رامون/ريمون لول متعدّد جوانب الثقافة ـــ فيلسوف ولاهوتي ومبشّر ورياضي ومتصوّف وشاعر قتالوني (من قتالونيا/كتالونيا في شمال شرق إسبانيا وعاصمتها برشلونة)، واحد من أبرز مفكّري أوروبا الثلاثة في القرن الثالث عشر، بجانب توما الأكويني الطلياني ودون سكوت الإنجليزي ، ويلقّب بفيلسوف الحبّ الروحي. التحق بالرهبنة الفرنسيسكانية واعتبر شهيدًا فيها. لم يعتبر شخصية مرموقة في عصره، بل بعد مماته لأسباب عدّة، منها كون بعض مؤلّفاته الهامّة كتبها بلغة أمّه القتالونية ولم تُنقل للغات أخرى شائعة آونتها، ثم ذلك المرسوم الذي أصدره البابا غريغوار الحادي عشر القاضي بحظر استعمال مؤلّفاته. يُعزى لرامون لول العمل الكبير الأوّل في الأدب القتالوني، رواية Blanquerna، وربّما كانت الرواية الأوروبية الأولى، وهي تسرُد حكاية شابّ مثالي متزوّج، هجر الدنيا وما فيها من ملذّات ومغريات من أجل إقامة ملكوت الربّ على الأرض. بين دفّتي هذه الرواية انعكاسات عديدة لسيرة الكاتب. وروايته الثانية عن ”المحبّ والمحبوب“ متمّمة للأولى وفيها ٣٦٥ حدثًا أو قصة؛ والرواية الثالثة ”فيلكس وعجائب العالَم“، وفي بعض أجزائها ما يذكّر بكليلة ودمنة. له أيادٍ بيضاء في بلورة اللغة القتالونية الأدبية. طُوِّب عام ١٨٤٧ من قِبل البابا بيوس التاسع، وعيده في الكنيسة الكاثوليكية في الثلاثين من حزيران. وُلد رامون لول في عائلة نبيلة ثرية في إسبانيا في پالما في جزيرة مايوركا/ميورقة (Majorca) بُعيد تحريرها من الحكم الإسلامي عام ١٢٢٩ على يد الملك خايمه (Jaume) الأوّل، ووالده القاتالوني شارك في معركة التحرير. شغل منصبًا في البلاط الملكي، وتزوّج من Blanca Picany من أقارب الملك وأنجبا ولدًا وبنتا. وبالرغم من ذلك قضى فترة شبابه منغمسًا في الشهوات، متجولًا كالتروبادوري، أي كشاعر غنّاء خليع، ينظم ويغنّي الشعر الغرامي.
خلّف وراءه في غضون ثلاثين سنة، قرابة الثلاثمائة أثر بالقتالونية واللاتينية (باللاتينية حوالي ٢٠٠ مؤلَّف، صدر منها حتّى الآن ثمانية وعشرون مجلدًا، وفي المعهد الذي يحمل اسم رامون لول في جامعة فرايبورغ ألفا فُليم/ميكروفيلم تضمّ مخطوطات أعمال لول) والعربية، وكثيرًا ما تَرجم من إحدى هذه اللغات للأُخريين. بعض مؤلّفاته، حوالي خمسين كتابًا قد اندثر وما زال الكثير من مؤلّفاته الباقية قابعًا في غياهب المخطوطات، أما كتبه باللغة العربية فلم يصلنا منها شيء. من مؤلّفاته التي تعالج مواضيعَ متباينة كثيرة مثل الطب، الفيزياء، المنطق، علم النفس، الفلك، الفلسفة، اللاهوت، التصوّف، الرياضيات، الأدب، المنطق: الفن العظيم والنهائي كتاب المحبّ والمحبوب؛ علوّ شأن العقل؛ شجرة العلوم؛ الفن الكبير في الكشف عن الحقيقة؛ حياة معاصرة؛ كتاب النور؛ ملخّص منطق الغزّالي ت. ١١١١ (مقاصد الفلاسفة) بالقطلانية شعرا؛ كتاب التأمّل في الله بالعربية أصلًا عبارة عن موسوعة في التصوّف؛ كتاب التأليف والتوحيد وكتاب الكافر والعارفون الثلاثة بالعربية ثم نقلها إلى القطلانية؛ كتاب الفوضى؛ كتاب الكواكب السبعة؛ حول الممكن والمستحيل؛ المتناقضات ؛ صلوات ضد الرشديين؛ أسماء الله المائة؛ موجز مبادىء الفروسية؛ الفن الموحى؛ هدايا الروح القدس السبع؛ كتاب الأمثال؛ فن الاقتراع. من الممكن القول إنّ رامون لول كان الفيلسوف المسيحي الأّول في القرون الوسطى الذي استخدم غير اللاتينية في تأليف كتبه الأساسية. أُسّست عام ١٩٩٠ جامعة خاصّة في برشلونة تحمل اسم الفيلسوف رامون لول.
ظهر له يسوع المسيح خمس مرّات، بينما كان منهمكًا في نظم قصيدة حبّ فاجر لامرأة ليست زوجته. في العام ١٢٦٣ ترك عائلته، زوجته التي تزوّجها عام ١٢٥٦وطفليه وكلّ ما يملِك تقريبًا للتفرّغ لخدمة الله بحماس شديد حتّى الموت في التبشير بالمسيحية وفي تنصير المسلمين، وفي إقامة مؤسّسات دينية لتعليم لغات أجنبية، تأليف كتاب حول كيفية التغلّب على اعتراضات التنصير. بعبارة موجزة، كرّس لول حياته لإيصال الإنجيل للعالَم الإسلامي. دافع عن العقيدة المسيحية على أُسس عقلانية تتكىء على وسائل معقّدة مأخوذة من الميكانيكا والمنطق وتضمّ أعدادًا وحروفًا وأشكالًا ذات الرموز والعلوم الطبيعية. في مايوركا، التي كانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا في غرب حوض البحر الأبيض المتوسّط، حيث كوّن المسلمون ثُلث سكّانها، وعاشت طائفة يهودية كبيرة. هذا الوضع دفع لول إلى نشر البِشارة بين المسلمين. لذلك اشترى عبدًا مسلمًا ليعلّمه العربية، عادى في ما بعد سيّده فسجن ومات. أمضى تسع سنين حتى العام ١٢٧٤ في الدراسة وأتقن العربية، والتأمّل في حياة عزلة على جبل راندا، وفي العام ١٢٧٦ أسّس وأدار مدرسة للغات في دير ميرمار لتعليم الرهبان اللغة العربية، وتدريب مبشّرين للعمل في أقطار إسلامية. طالع بنهم في اللغتين اللاتينية والعربية ودرس الفكر اللاهوتي الفلسفي لدى المسيحية والإسلام. درس الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، القرأن والتلمود وأعمال أفلاطون وأرسطوطاليس ومؤلّفات الأوروبيين المعروفة. في العام ١٢٩٩ سمح الملك للول بالوعظ في الكُنس والجوامع في أراغون. اعتقد لول أن العشق الإلهي يجب ألّا يتأتّى عن خوف من نار جهنم من جهة، ولا من نِعم الجنّة من الجهة الأخرى، بل من كمال الخالق. ويذكر أنّ مثل هذا الكلام قد قالته قبل لول بأربعة قرون رابعة العدوية.
انتهج لول حياة رجل دين متسوّل بلباس خشن، كان مفكّرا شديد التأّمل، لا يعرف السكينة في العمل مدّة ثلاثة عقود، كتب في كل سنة منها قرابة التسعة كتب، يحتوي أحدها على مليون كلمة تقريبا. من مؤلفاته الأولى: فن العثور على الحقيقة (ars inveniendi veritatis)، وعرف في التاريخ بمخترع فن إيجاد الحقيقة. هنالك وَفق لول عدد محدود من الحقائق الأساسية في كافّة ميادين المعرفة. اعتمد على المنطق لانتاج المعرفة. مثلًا خصائص الله التسع: الخير، العظمة، الخلود، القوة، الحكمة، الإرادة، الفضيلة، الصدق، المجد. كلّ مؤمني الديانات السماوية الثلاث، اليهودية، المسيحية والإسلام يعترفون بهذه الخصائص. كما عمل لول على تنصير يهود أوروبا وإزالة أي تأثير يهودي في المسيحية، وممّن تصدى له من اليهود ربّي شلومو بن أديرت (المعروف بـ رَشْبا اختصارًا، ١٢٣٥-١٣١٠) من برشلونة، وموشه بن شلومو من ساليرنو (النصف الثاني من القرن الثالث عشر).
درس اللغة العربية والثقافة الإسلامية، كما نوّهنا، كي يدعو المسلمين إلى المسيحية حيث كان يزور شمال إفريقيا وآسيا الصغرى وفي هذا المجال كان طليعيًا. كما تجوّل في أوروبا والتقى البابوات والكرادلة والملوك والأمراء ورؤساء الجامعات من أجل تأسيس كليّات خاصّة تُعنى بالتبشير. عشِق العربية وتفانى في نشرها، اجتهد في تدريسها آملًا أن تصبح وسيلة هامّة للتفاهم بين الشرق والغرب. اعتزّ لول بمعرفته للعربية وقد أوجد صيغًا في اللغة اللاتينية على منوال العربية (modus loquens arabicus). أعماله حول الحوار مع الإسلام كتبت باللاتينية والعربية. كان على علم بالقرآن والحديث النبوي والتفاسير. بعد قرنين ممّا يسمّى بالحروب الصليبية حمَل رامون لول، الذي يُعتبر أّول المبشّرين، الإنجيل لا السيف ليكرز به بين المسلمين، وممّا قاله ما معناه ”إنّي أومن، أيّها المسيح أنّ احتلال الأراضي المقدّسة يجب أن يتمّ كما فعلت أنت وتلاميذك بالمحبّة والصلاة والدموع والتضحية بحيواتنا“. من الأمور التي استحسنها في الإسلام وودّ نقلها إلى المسيحية: فصل الرجال عن النساء في الكنائس ووضع اسم يسوع المسيح في بداية الرسائل كما هي حال البسملة في الإسلام.
لول ضحّى بحياته شهيدًا في شمال إفريقيا. وقد ارتكر نشاطه التبشيري المتمثّل بثلاث رحلات لشمال إفريقيا وواحدة لقبرص، على خطّة تتكوّن من: تعلّم العربية ولغات أخرى يستخدمها المسلمون؛ دراسة التراث الإسلامي؛ رغبته في التضحية بنفسه ليكون مبشّرًا بين المسلمين لا معلّم فلسفة. وهو الذي كان يصلّي ما معناه ”يا ربّ ، عبدك يخاف خوفًا شديدًا من الموت الطبيعي … إنّه يفضّل أنبل ميتة، الموت من أجل محبتّك“. وقد استمرّ الاستعداد لهذه الرسالة تسع سنين. في الكثير من الأحيان باءت جهوده بالفشل، إلّا أنّه أحرز بعض النجاح في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا. بفضل جهوده أصدر المجمع الكنسي في ڤيينا الذي عُقد عام ١٣١١ مرسومًا يقضي بإنشاء كراس أستاذية لتعليم العربية والعبرية والآرامية في جامعات باريس وسلامنكا وبولونيا وأكسفورد والبلاط البابوي. درّس في جامعة باريس بين السنوات ١٢٨٨-١٢٨٩، ١٢٩٧-١٢٩٩، ١٣٠٩-١٣١١، كما حاضر في معاهدَ أخرى بدون أن يحمل أي شهادة جامعية. رغب لول في توحيد الكنيسة بين المتخاصمَين، الشرق والغرب، وفي توحيد الإنسانية تحت كنف المسيحية. كان الهدف من فن لول وفلسفته الفرنسيسكانية التبريرية التنصير بواسطة الإقناع الهادىء، وحاول بناء الحقيقة مجدّدًا فلسفيا ولاهوتيا. حاول في بعض أعماله إظهار أخطاء في فلسفة ابن رشد. اعتقد لول بأن لا فرق بين اللاهوت والفلسفة، بين العقل والإيمان. ومن أجل فهم أسمى الحقائق لا بدّ للعقل من أن يستعين بالإيمان إذ أنّ العقل بحاجة لمساعدة إلهية. معرفة الحقيقة عن الله لا بدّ من عقل وإيمان. ولول طوّر نهجًا فلسفيًا خاصًّا به أُطلق عليه اسمه ”اللولية“، حاول فيه إثبات صحّة المسيحية عن طريق المنطق.
استهلّ لول رحلته التبشيرية الأولى في صفوف المسلمين عام ١٢٩٢ في تونس، المركز الإسلامي الغربي في العالم حيث فشلت الحملة الصليبية السابعة عام ١٢٥٤ بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع. عاد لول لتونس وعاش فيها من ١٢٩٩ إلى ١٣٠٦، أجرى نقاشاتٍ عامّة في تونس مع علماء المسلمين بالعربية، مركّزًا على ما دعاه انعدام المحبّة في مفهوم الله في الإسلام. كما لم يتوان في إلقاء العظات بشأن تعاليم الثالوث وتجسّد يسوع المسيح، وفيها يتجلّى خير الله وعظمته، اتّحاد الخالق بالمخلوق ومعاناة الله من أجل محبته للإنسانية. كما أنه عرض الوصايا العشر كونها قانون الله الكامل . تمكّن لول من تنصير بعض التونسيين إلّا أنّه سُجن وطُرد من البلاد، هرب من السفينة التي سُفّر بها وعاد لشدّ أزر المتنصّرين ثم عاد إلى أوروبا. بعد خمس عشرة سنة أبحر لول إلى مدينة بجاية الساحلية في الجزائر للتبشير بالمسيحية فهوجم وزُجّ به في زنزانة لمدّة نصف سنة، رشي وعُذّب للتخلّي عن عقيدته، ولكنّه ثبت بحزم بل واستمرّ في كَرازة الإنجيل في السجن، ثم أُبعد لإيطاليا. في أواخر سني حياته قام لول برحلته التبشيرية الثالثة والأخيرة لنفس المدينة الجزائرية. في هذه المرّة مكث سنة في المدينة وعمل سرًّا في تشجيع وتدريب مجموعة ضئيلة من المتنصّرين. أخيرًا لم يقو على كبح جماح رغبته في التبشير علنًا، فخرج ذات يوم وأخذ يعظ في سوق المدينة عن محبّة الله المتمثلة بيسوع المسيح الذي ضحّى بحياته على الصليب تكفيرًا عن خطايا البشر أجمعين، وغيظه عن أخطاء الإسلام. بعد أن سمعه الحاضرون غير مرّة أمسكوه، جرّوه إلى خارج أسوار المدينة ورجموه بالحجارة. في هذه النقطة ثمة اختلاف لدى كاتبي سيرته، هنالك من يقول بأنّه قضى نحبه على شاطىء شمال إفريقيا، ومن الجهة الأخرى، هناك من يشير إلى أنّ أنصاره أنقذوه وحطّوه في سفينة أقلعت به إلى مايروكا مسقط رأسه حيث لفظ أنفاسه الأخيرة. شعاره كان ”مَن لا يُحبّ لا يحيا ومن يعيش الحياة لا يموت“. وجاء في آخر كلماته هذه الصلاة ”مثل رجل جائع يتناول لُقَم كبيرة بسبب جوعه، هكذا عبدك يشعر برغبة عظيمة للموت ليمجّدك. إنّه يُسرع ليل نهار ليُكمل عمله من أجل ذرف دمه ودموعه من أجلك“.
ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي