جمعية الزهراوي تستضيف الفنان سعيد العفاسي
تاريخ النشر: 13/05/18 | 14:45احتضن مركز أبحاث المثلث بكفر قرع، عرضا لمناقشة كتاب ” التفكير بالعين” للفنان والناقد التشكيلي سعيد العفاسي، المغربي المقيم بكفر قرع، بدعوة من جمعية الزهراوي، بمشاركة نخبة من الفنانين والشعراء والنقاد من مختلف مدن وقرى المثلث والشمال، وهي مناسبة لمناقشة مضامين الكتاب، واثراء النقاش الجاد حول الفن والفلسفة، والفن والفنانين، وصيغ القراءة والتلقي.يقع الكتاب في 156 صفحة من حجم 11/18.5، في طبعة أنيقة ومنقحة، تطرق الكاتب سعيد العفاسي فيه إلى أربعة مواضيع:
– التفكير بالعين.
– فن جمالية التفكير.
– تفكيك بصري للغائب.
– الظاهر المرئي والعمل الفني.
واعتبر الدكتور والناقد سعيد أصيل، في تقديم خص به الكتاب، ” أن العين -تمر في أحايين كثيرة-على تلك الأشياء المزدحمة بماء حياتنا وفتنتها، وبلوحاتها، لكن دون أن تقف ملياً لنفكر في مرئياتها؛ لعلها تظفر بفكرة جديدة أو متعة تفتقدها في تلك اللحظات، وهي أحوج ما تكون إليها، لاسيما إذا أضفنا لتلك المعادلة مجتمعة ضغوطات الحياة وسرعة الزمن المنفلت من بين تجاعيد عقولنا.
هناك ثقوب كثيرة قد لا يملؤها إلا الفن.. إلا التفكير بالعين الرائية النافذة إلى عمق الأشياء: منظر جميل هادئ، حادث لطيف جميل، أو مفجع، نمر عليه، أو بالأحرى يمر علينا، رؤية عابرة لأناس –أو لأشخاص- يحملون همومهم، كما أفكارهم، على ظهورهم المتقوسة… تلك لعمري لوحات فنية يسترق الفنان السمع والبصر إليها بواسطة ريشته؛ بحثاً عن مضمرات قَلَّ ما يُنتَبَهُ إليها، لكن بفكر العين وبعين الفكر يعيد الفنان تركيب الأشياء والتفاصيل اليومية و”اللايومية”، فيعكس “رؤية” عميقة تتجاوز برودة المقطع المشاهَد وسرعة اللحظة العابرة، وقد اقتنص جوهرها، معيداً تشكيله من جديد.
في كتابه الجديد “التفكير بالعين” يتتبع الناقد فعل العين وعلاقته بالتفكير عبر مسارات الفن الإنساني منذ القديم إلى اليوم، يعكس لنا التحولات التي صاحبت هذا النمط من القارئ والخالق لصورة الفن منذ العصر البابلي و الآشوري إلى اليوم، مروراً بالعصر الإسلامي وعصور “التنوير” والنهضة والحداثة، ليخلص إلى أن تقاليد عناق العين والفكر صاحبت الإنسان منذ البداية، لكن تشكُّلاتها عرفت تطوراً مطَّرِداً في متابعته للصورة، وتفاعلت مع معطيات أزمانها في علاقات تمثلت المعرفة بالأوضاع عبر انفعالات إنتاج الصورة واللوحة والتصوير – بما فيه النحت – في مزيج غريب، أحياناً، لكن له دلالاته “بين السحري والديني، بين العقلي والبصري، وبين النفعي والجمالي” في عمليات مرتبطة بسياقاتها التاريخية والاجتماعية…
وعن هذا الكتاب أكد الفنان الناقد التشكيلي محمد بن كيران، بأن المؤلف ” التفكير بالعين ” يستجمع في التتابع التأليفي لفصوله بين الفكرة والمعنى والتجربة والمبنى وعناصر اللون والإيقاع والفضاء والمنظور على مستوى بعد جمالية التفكير، للإجابة عن أسئلة وثيقة الصلة بين العمق الفلسفي والبعد البصري في العملية الفنية، ويؤكد على أن الانسجام الواعي بين العين والتفكير لا بد أن يحكم عليه استبصارنا باعتباره عارضا لا غنى عنه لتلبية حاجات الفهم والادراك، لهدف تناغم الموجودات مع ما نستهدف رؤيته وتأويله واستعماله، إذ بواسطتها فقط نكتسب المعرفة، ليقترن بنبل الغاية الشعور باللذة ويكون شرط هذا النبل المعرفي تمثل قبلي متخيل ينطوي على مبادئ القراءة والتأويل.
وعلى امتداد تعدد الأساليب الفنية تسافر العين المفكرة وهي تطوي المسافات الفاصلة بين الناظم والمتلقي وبين واقعية سهلة الإدراك وأخرى تعيد الفكر للنبش في الجذور وإيقاظ الأحلام التي تؤرق الإنسانية، تلك هي نبرة الخطاب التي ميزت أسلوب المؤلف في الاتجاهات الجوهرية لمحتوى الكتاب بعيدا عن الملاحظة والوصف والوقوف عند حدود المباشر من القول، ليحلل بعمق الحركة الداخلية للأثر الفني على العين والعقل والسلوك وهي سمات إنماز بها الفنان والكاتب سعيد العفاسي في الكشف عن الموضوعات التي تؤثث العين وتوقظ الفكر بإعمال مسالك الفلسفة وتجليات النقد الحصيف”. تلك هي القراءة الشمولية لفعل الرسم والكتابة والخط، إذ لا يمكن أن نجمع شتات الأشياء إلا بالنظر إليها في كليتها، وتلك هي الصورة/ اللوحة، تُرى في كُلِّيتها، وتُقرَأ في كليتها، وتُتَجاوَز-أيضاَ- في كليتها، بحثاً عن كلية المعنى في كلية المبنى، مادامت جزئيات الضوء هي ما يسمح بأن يشيع ويملأ المكان و الفضاء ألقاً و نوراً و دهشة، في هذا الكتاب يعرض الفنان العفاسي تجارب المدارس الفنية ورؤيتها للصورة في مزج تآلفي ناقد ونافذ، بحثاً عن قراءة مختلفة جامعة للوحة، قراءة تجمع بين عمق التفكير الفلسفي ومتعة النظر الفني، قراءة عين تتجسس على تفاصيل الصورة واللوحة، تتابع تفاصيل الوجود بداخلها وتحولها إلى جسد مفصلي متماسك، لكن أهم عناصره غير بادية للعيان، إنها خلف الأشياء وخلف ما هو بارز ومحسوس، تكمن وراء الوراء، ولا يكشف هذا الوراء وراء إلا عين تفكر، تقتنص ما هو خلف لباس الجسد المُدَثَّر بثياب قَلَّمَا تكون مقصودة لذاتها، لكن لابد منها، ولذلك تفترض الصورة/ اللوحة الاعتناء بتلك الثياب كما تعتني، وبعمق شديد، بما هو خلف الثياب والألوان.. فراشات ترقص وتراقص الألوان والخطوط والظلال، وخلف الظلال يكمن جوهر الوجود، وجوهر الفعل، وجوهر العين، وجوهر الأشياء كلها.
بهذا العمق يعود الفنان العفاسي إلى استكشاف علاقة الرؤية بالحجاب في الثقافة الإسلامية من خلال البعد الصوفي العميق للأشياء وللوجود ضمن رؤية عرفانية خارقة للمعطى الحسي الذي تختبئ وراءه المعاني والدلالات، وهو ما لم تفطن له الرؤية الكلاسيكية الغربية للوحة والصورة، في حين اخترقت المنمنمات كثيراً من الحُجُب التي لا يفطن لها إلا الراسخون في الفن الراؤون لما وراء الحجاب.
من خلال مساءلة هذا العمق نتساءل: هل يمكن أن تسعفنا “سيميولوجيا الصورة” في قراءة اللوحات وسبر أغوارها، قصد الوصول إلى فهم الرسائل المضمرة والمختفية وراء الألوان والأشكال والظلال، ومن ثم إدراك الإشراق القادم عبر نوافذ العين/ العيون والكشف عن تفاعلات العناصر المتداخلة، في بعضها، في انسجام يتطلب معرفة موسوعية بالمدارس والاتجاهات الفنية والنقدية في مختلف الحقول المعرفية؟… إنه عمل لا يقوم به إلا من كان له باع طويل في عملية القراءة وتذوق الفنون واستدراج الآراء والنظريات العلمية والفلسفية، وهذا ما توفر للكاتب، وزاد عليه ممارسته الفنية التشكيلية والأدبية/ الإبداعية، مما جعل الكتاب عصارة تجربة رائدة خبرت مدارج متعددة ومسيرة إبداعية ونقدية طويلة صاحبتها جولات وصولات في عالم التشكيل والمدارس والمعارض عبر مختلف بقاع الأرض، وتواصل دائم مع الفنانين والمنظِّرين في العالم بأجمعه، لتنتج لنا قيمة مضافة، لعل هذا الكتاب أحدها – بعد الكتاب الأول -“إضاءات في الفن التشكيلي”-، وحتما ستتلوها كتب/ مغامرات أخرى.
لقد مارس الناقد سعيد العفاسي، قراءة تفكيكية – بكل ما تحمله هذه الكلمة من مستلزمات- لعملية التفكير بواسطة العين، عبر معانيها ودلالاتها والعلاقات المتحكمة في أنساق الكلام، ليقدم للقارئ لحظات سندبادية، دائمة المغامرة، بحثاً عن الاكتشاف وعن لذة الخلق في الصورة/ اللوحة، منصتاً، مشاركاً، مشاغباً، بعينه المفكرة وعقله الرائي، وتلك هي الإضافة الكبرى في تفاصيل الكتاب.
أخيراً، يمكننا اعتبار هذا الكتاب بمثابة “مقدمة” لمشروع نقدي فني، قد يرى النور فيما سيأتي من زمن، لاسيما إذا ما انتبهنا إلى العملية الاختزالية التي قام بها من خلال تكثيف مجموعة من الأفكار والمواقف والآراء، المبثوثة داخل صفحات المؤلَّف، وهو ما يتطلب توسيعاً وشرحاً وتفصيلاً وأمثلة ومزيداً من الأسئلة المنفتحة المقلقة والجميلة”.
مواضيع الكتاب تنسجم وفق خيط رفيع رابط، يجعل من العين وإعمال العقل بالتفكير في كل الموجودات التي تسهم في تأثيث العمل الفني والرقي به إلى جمالية تستجيب لذوق الرائي، حيث يؤكد الفنان الناقد ان للعين تاريخ من الاستعمالات والاستجابات والاستثارات المركزة في لحظة عين، في وقفة تستجمع في انفعال يبدو تلقائيا ما كان قد استقر وجرى تصنيفه وترتيبه في مخزون العين التاريخي كما الجمالي، فالأكمه -أي المعدوم البصر- على ما هو معروف في دراسات طبية واختبارية، إذ يستعيد البصر، قد يرى الحائط من دون أن يجنبه ذلك من الاصطدام به، وقد يرى أشخاصاً يعرفهم سابقاً، لكنه لا يتعرف إليهم إلا بعد سماع أصواتهم أو بعد ملامستهم، ما يعني أن للعين ذاكرة لازمة تباشر بها المرئيات، بما فيها مرئيات الفن البصري، بل أكثر من ذلك أن العين هنا تتذكر وتفكر وتنتجن هكذا لا تكون العين ما نرى به، بل ما نستقبل به؛ وهي ليست بدئية بل مسبوقة ومبنية تاريخياً وقيمياً، فالعين أبجديتنا عند قراءة أي لوحة، أي عمل فني، وهي ما نكتب به كتاباً، أو لوحة، أو مشهداً، وهي ما يرينا أنفسنا ويطل بنا كما النافذة إلى الفضاء.
بدأت مسيرة البحث في مسالك المعرفة تتشكل لدى سعيد العفاسي، منذ كان في الصف الإعدادي، ذلك أن مواظبته على حضور جلسات القراءة، والمناقشة، والمناظرة، بدار المبصرين بفاس، جذبته لقراءة الكتب للطلبة المكفوفين، كتب تتنوع بين الفكر الإسلامي، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأصول، وفقه اللغة، والأدب القديم والحديث، والشعر، والرواية، والدراسات الإسلامية، واللغات الحية، بحيث لم يكتف بالقراءة فقط، بل كان يتساءل بصوت عال، ويقف لمحاولة الفهم، والاستفسار عن ما لم يستطع فهمه، في المقابل كان يجد عقما بليغا في مناهج صفه الدراسي، وهو الذي انفتح على علوم ومعارف بسطت له طرائق الأسئلة، وطرح الإشكاليات الممكنة، وإعادة صياغة السؤال الجيد قبل الاضطلاع بمهمة البحث عن الجواب الشافي.
في هذه الأجواء البليغة الحكمة، والمنفتحة على الفكر المجرد، الممهور بالبحث عن أسئلة وجودية، تنعش البصيرة قبل البصر، وتعيد للروح ألقها في استشراف اليقينيات البديلة، بدأ سعيد العفاسي ينبش في اللون والشكل، يشاغب بقلق شفيف تجليات الحرف، والنقطة، والمساحة، والظل والضوء، وهو ما جعله يلتحق بالمدرسة التقنية للفنون التشكيلية بمدينة الدار البيضاء، لكي يجدد صلته بالرمز والعلامة والحفر في مشارف الفن، من خلال التشكيل، ثلاث سنوات كانت كافية لكي تبرز موهبته في الرسم والتشكيل والبحث في مضامين ما بعد اللوحة، ويحصل خلالها على شهادة التخرج بميزة حسن، بعدها سيلتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، لكي يواصل مسيرة الحرف والشكل، طالبا في شعبة الفلسفة تخصص علم الاجتماع، لم يجد صعوبة في فهم المضامين العلمية والمعرفية التي كانت تقدم من طرف أساتذة يشهد لهم بالكفاءة في مجاورة الأدب والفلسفة والعلوم الإنسانية، وهو ما عمق صلته بالحرم الجامعي، مناضلا، مثابرا، في سبيل طرح حقوق الطالب الجامعي بكل أبعادها الوطنية والقومية، وأحقيته في عيش كريم يضمن له فهم المستقبل قبل الحاضر.
وفي بعض أعماله التشكيلية تتكون العناصر المرتبطة بقوانين حسية داخلية تحكمها دينامية وظيفية، وكل ما من شأنه اكتساب الفهم من حيث إدراك كل الأبعاد ومعرفة الترابطات بين الأجزاء وضبطها، وتحديد سلوكيات التعلم من المتلاشي الذي فقد الإنوجاد بيننا، ليتم تلاقحه وتشكيله كما هو، ليصبح منسجما وفق منظومة الإحساس التي تقود للإدراك الواعي، وهي عملية إدراك الهيكلة والتنظيم نحو تجاوز الأشكال والغموض والتناقضات ليحل محلها الاستبصار والفهم والإفهام، وبهذا استطاع أن يشكل المواقف المتشابهة في البنية الأصلية والمختلفة في الشكل والمادة والتمظهر، لتعزيز التلقي النابع من الداخل والذي مر عبر الحدس وأفق التوقع، وعند تحقق الفهم الاستبصاري وكشف جميع العلاقات المرتبطة بالموضوع، والانتقال من الغموض إلى الوضوح، من الكل لفهم الجزء، يتشكل المشهد بصيغة الواحد غير قابل للفصل أو التجزئة، لأن الإحساس والإدراك عند الفنان سعيد العفاسي عمليتان في عملة واحدة بحيث تقوم العين – الإحساس- المجردة المتأملة بتدبر الشيء، لتكمله عملية الإدراك بوجود الخطر، وفي ذلك ما يدل على أن الإحساس مقتصر فقط على استقبال الصور البرانية، وأن الإدراك مرهون بتشكيل هذه الصور المستقبلة من طرف الإحساس، ويؤولها إلى لغة مشغوفة بالرمز، إن بحثه الدؤوب في العمل الفني ومزاوجته بين التطبيقي والنظري في مجال الفنون البصرية، جعلته يفوز بجائزة التفكير باليد التي نظمها معهد ( ثيربانتيس ) بإسبانيا.
وقد خص الكاتب الطبعة الثانية، التي صدرت عن مطبعة سيما بمعليا، المزيدة والمنقحة، بهذه الفقرة التي تنصت جيدا لنبض لمضامين الكتاب وتعزز أفق القراءة والتأويل : “كما هو الحال دائما في الفلسفة، الصعوبة الأولى تكمن في رؤية أن الاشكالية صعبة، فأنت إذا قلت لشخص غير مدرب على الفلسفة – البصيرة-:
-كيف تعرف أن لي عينين؟ فإن رده سيكون: (ما أسخف هذا السؤال! أستطيع أن أري أن لك عينين.)
ليس من المفترض أنه عندما ينتهي التقصي، سنكون قد وصلنا إلى أي شيء يختلف جذريا عن هذا الموقف غير الفلسفي، ما سوف يحدث، ويطور مداركنا، هو أننا سوف نرى تركيبا معقدا فيما اعتقدنا بأن كل شيء في الاشكالية بسيط، وأننا سوف ندرك شبه الظل لعدم التأكد المحيط بالموقف الذي لم يكن مثيرا لأي شك، وأننا سوف نجد الشك مبررا بشكل أكبر عما كنا نعتقد، وأن أكثر الفروض قبولا سيظهر نفسه قادرا على إيجاد استنتاجات غير مقبولة، والنتيجة هي إحلال تردد مؤكد محل يقين جازم، وما إذا كانت هذه النتيجة ذات قيمة على الاطلاق يكون السؤال، لن أوليه اعتبارا.
فنحن نقبل التفسير الفني للشيء الذي نراه، ليس كحقيقة مؤكدة، وانما على أنه أفضل ما هو متاح حاليا… ”