الخامس والعشرون من آذار قبل عام
تاريخ النشر: 29/03/14 | 2:10بقلم:د. خالد تركي- حيفا
لقد تعوَّدْتُ منذ ميلادي على أن يكون حضن أمِّي الدَّافئ ملاذي، وحصنًا منيعًا ألوذ به من العواتي العاتية وأذود منه عن نفسي، فكان مذوَدي، وملجأً توصَدُ أبوابه عليَّ وقت الشِّدَّة، فقد كانت أمِّي مخبئي العميق الذي أودع فيه ودائعي وأسراري، حين كنتُ أريدها أن تبقى دفينةً ومكتومًا عليها، أو حين أردْتُ منها رأيًا صائبًا أو احتجاجًا على عملٍ ما من شخصٍ ما، كيف لا وأنا منذ لحظة تكويني ومنذ أن كنتُ في صفر بدايتي، بعد أن حملتني في رحمها ﴿..وَهْنًا عَلَى وَهْنِِ﴾، أعيش في مقصورتي، حيث أكلتُ فيها من مأكلها الشَّهيِّ وشربتُ من مائها العذب، فكان لي ماءً سلسبيلاً ونميرًا، طيِّبًا كما هي طِيبَة أمِّي، بعد امتزج دمي بدمها الطَّاهر، ولامس هوائي هواءها العليل وتنفَّستُ من روحها بعد أن نفحَت فيَّ روحًا من روحها منذ خليَّتي الأولى التي لم أرها ولا أستطيع أن أذكرَها، فخفقان قلبي من خفقان قلبها، ونبض فؤادي من نبض فؤادها، حتَّى عندما توقَّف نبضها ونضب الدَّم وانقطع عن جريانه في شرايينها وامتنع قلبها، مُكرهًا، عن الخفقان، إلى دهر الدَّاهرين، استمرَّت مهجتي في عملها على خطاها بما قُدِّر لها أن تدوم، مشحونةً بقوَّتها ودعمِها “الأنانيِّ” لي وتعليمها وحسِّها ودفئها الصَّادر من صدرِها وحبِّها السَّاطع والنَّاصع من لُبِّها، هذا الحبُّ الذي قطع كلَّ الحدود الممكنة حتَّى الخياليَّة منها، لأنَّها حدودٌ ممكنة في عاطفتها، لدرجة أنَّها كانت تخاف عليِّ من مرور النَّسيم العليل قُربي، ومن الودود قبل اللدود..
والآن وبعد مرور عامها الأوَّل لرحيلها، في الخامس والعشرين من آذار، ومهما
مرَّت السُّنون سأبقى انشُدُ رضاكِ يا أٌمِّي، فأنتِ ديني ودنياي ودينونتي، وأنتِ جنَّتي على الأرض التي أطمح إلى بنائها، وأثابر بخطوات ثابتة دون أن أخبو ودون أن أنبو وإن كنتِ الآن في جنَّتك الخالدة تحاكين السَّنا وتراقبينني من على شُرفة المُنتهى تحتسين قهوتك من ماء الكوثر وتشعرين ما يمرُّ في خلدي..
إطمئنِّي يا أمِّي فإنَّ أمَّنا الكُبرى، الشَّام، بخير وستبقى بخير وسيكون نصرٌ وسيكون انتصارٌ وطنٌ حرٌّ وشعبٌ سعيدٌ، وستكون بلادي بلادي، فلا تِعتَلي همَّنا يا أمَّ خالد لأنَّ همَّنا زائل يا حنونة فلا تِهكلي همَّ من “ضحُّوا وراحوا”، ما دامت شامة العرب “جارتنا يا جيرة الهمم”..