“هدووووووء…! نحن نقتل”
تاريخ النشر: 05/06/18 | 12:54“من أكبر مشاكل الترجمة هي صعوبة توصيل المعنى الدقيق لأيّة مفردة في النصّ الذي نريد نقله إلى لغة أخرى، وتوجد عدّة عوامل في هذه القضية، أهمّها: العامل الثقافيّ- إنّ كلّ لغة تنتمي إلى ثقافة معيّنة، والسؤال الهامّ هنا كيف ننقل الشحنات الثقافيّة للكلمات، قد ننقل الكلمة إلى لغة أخرى ولكن يصعب علينا أن ننقل ثقافة هذه الكلمة بشكلٍ سليم إلى ثقافة أخرى، إذ ننقل الحالة الموجودة في الكلمة الأصليّة إلى اللغة المستهدفة في الترجمة. وقد تؤدّي تلك الاختلافات اللغويّة على مستوى المفردة إلى إشكاليات كبيرة …. نبقيها كما هي بدون ترجمة وننسخها بأحرف عبريّة Transcription ما نسميه نقحرة (النقحرة هي كلمة منحوتة من كلمتين: نقل حرفي) ونضيف بعده ملاحظة إضاءة… وكذلك القواعد والنحو- إنّ كلّ لغة ذات طابع خاصّ في تركيب الجملة وترتيب مفرداتها في نحوها وقواعدها… وعلى المترجم معرفة معاني الكلمات والمصطلحات، الأمثال الشعبيّة، قواعد ونحو اللغات التي يترجم منها وإليها، معرفة البيان والبلاغة للّغتين، معرفة حضارة وثقافة الشعوب والمجتمعات التي تتحدّث هذه اللغات لأنّها تحتوي على شارات ورموز وأمور دقيقة جدا Nuances وتحتوي على قيم وعادات وتقاليد وأنماط سلوكيّة وعقليّة عند متحدّثي اللغة، ومن المهمّ جدًّا أن نعرف أن لكلّ ثقافة نكهة خاصة تجعل للكلمات مذاقًا مميّزًا، وبدون ذلك يصعب على المترجم النقل الصحيح للفكرة”، هذا ما كتبه د. نبيل طنوس في مقالة له بعنوان “دليل المترجم من طاولتي”(نُشِرت في العدد الرابع، السنة الثالثة لمجلة شذى الكرمل الصادرة عن الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين-الكرمل).
أهداني الشهر الفائت الكاتب أمين خير الدين كتابًا ترجمه عن اللّغة العبريّة بعنوان “هدووووووء…! نحن نقتل” (يشمل 65 نصًا مُتَرجَمًا لمقالات الإعلاميّ جدعون ليفي في 229 صفحة، صورة الغلاف لجنود يطلقون النار بهدف القتل قام بتصويرها مصوّر مجهول الهويّة؟!؟، صدر عن “مكتبة كلّ شيء” الحيفاويّة، ومن الجدير بالذكر أنه صدر كتاب سابق للثنائيّ المذكور بعنوان “كيف تولد المخرّبة وكيف تموت”).
أمين خير الدّين كاتب ملتزم، توقيعه: “لأنّي أحبُّ شعبي، أحببتُ شعوب الأرض. لكنّني لم أستطعْ أن أحبَّ ظالمًا!”. كتب المقالة والدراسة والقصّة القصيرة وصدر له: رسائل إلى ولدي، المخدّرات هي الطاعون، قصص قصيرة، العين الثالثة، الرجل الذي قتل ظلّه، الشيطان يحاضر، وكان ابنه الثمن، اعتقال ميّت، مقالات مُنحازة، هكذا أنا …، رمادُ الحروب وغيرها.
قال أمين في الإهداء: “دائمًا وأبدًا، إلى كلّ ضحايا الاحتلال، الذين سقطوا من رصاص الاحتلال، وغطرسته، على الحواجز، على عتبات بيوتهم، على الشوارع، أو على أسرّتهم في غرف نومهم”.
جدعون ليفي صحافيّ إسرائيليّ يكتب مقالة أسبوعيّة وينشرها في جريدة هآرتس العبريّة، يعرّي بها وجه الاحتلال القبيح، مقالاته موثَّقَة بشهود، وشهادات وأسماء الضحايا أو أهاليهم، فهو صحافيّ ميدانيّ يدخل قلب العاصفة بجرأة وإنسانيّة وشجاعة لينقل الحدث دون رتوش.
ترافق أغلبيّة النصوص صور قام بتصويرها المصوّر التقدّميّ أليكس ليباك ممّا زاد النص متانة وقوّة وحركة فاعليّة.
قام الكاتب أمين خير الدين بترجمة مقالات ليفي بمهنيّة، ترجمة أمينة للمصدر نتاج إلمامه ومعرفته بقواعد اللغتين ونحوهما وأصولهما، معرفة البيان والبلاغة للّغتين ومعرفة حضارة وثقافة الشعبين، متطوّعًا، فبرع بنقل ما كُتِب بمصداقيّة عالية.
راق لي أنّ المترجم ذكر موعد نشر كلّ مقالة من المقالات الأصليّة للمصداقيّة والتاريخ (وهذا لم يكن في ترجمة الكتاب الأوّل وكنت قد أشرت إليه في مقالتي حول ذلك الكتاب)، ولكن أزعجتني الأخطاء المطبعيّة (14 سنة ونصف في السجن، 17 يوما بلا طعام … الصواب 71 يوما وليس 17!!، “تعبيد” بدلًا عن “فلاحة”، حاجز “جبارة” وليس “جبرا”، والاقتباس غير الدقيق للحديث النبويّ الشريف “أنصر أخاك ظالمًا أو مظلوما” وغيرها) مما ظلم الكاتب والمترجِم، فحبّذا الاهتمام بالتدقيق اللغويّ بطبعات قادمة.
تطرّق جدعون ليفي في مقالاته لعنجهيّة حكّام إسرائيل (“إسرائيل تهوى الحروب”، “أردان مَن؟ أردان ماذا؟”، “الغارة إعلان حرب”)، دور أمريكا (“أخيرًا الولايات المتحدة تَرمي أقنعتها”، “أمريكا وإسرائيل أُختان”، “شكرًا لك، أمريكا”)، ازدواجية المعايير لدى الشعب الإسرائيليّ (“المنافقون المُرتعِدون ممّا في حلب”، “هدوووووو…! نحن نقتل”، “الصداقة المُرَصّعة بين أزاريا و”المخرب””، “يُسعِدني أن أسكن في شارع ياسر عرفات”، “سلفيّ إسرائيل”، “بطَلُ إسرائيل”، “فجأة ينادون بالمساواة”)، صمت الضمير الإنسانيّ عند الإسرائيليّ (“أطباء مستشفى بيلينسون، كيف تنامون الليل؟”)، وحشيّة وهمجيّة جنود الاحتلال بتعاملهم مع الشعب الفلسطينيّ (“فتى عمره 15 سنة أُطلِقَت النار على عينه. اشتكى أبوه فاعتُقِل الفتى”، “ما الحاجة ل30 جنديًّا لاقتحام بيت ولتوبيخ فَتَيَيْنِ”، “قُتِل الابن على عتبة بيته، وبقيت الأم محبوسة داخل البيت”، “بدا الرجل كأنه جَمَد في مكانه- عندئذ بدأ الجنود بإطلاق النار عليه”، “15 رصاصة على ابن 15 سنة … رشق جنود الشرطة ابن ال-15 سنة بالرصاص فقتلوه، لكنّهم قالوا لأبيه: إنّه جريح”)، “نزاهة” الجهاز القضائيّ الإسرائيليّ (14 سنة ونصف في السجن، 17 يوما بلا طعام”، “الأسرى الأمنيّون بشر”،” محاكمة أزاريا: حشرجة احتضار لنظام سويّ”، “لا حاجة لهاج، لدينا الكريا”)، تعامل السلطة مع الأقليّة العربيّة (“أقتلوهم، دمهم مهدور”، “العربي الصالح، هو العربي الميّت”)، انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق المحتلّة (“مَن يحتاج قانونًا، إذا كان بالإمكان مصادرة الأرض بالقوّة”، “ثلاثة عَجَزَة، وحدهم في جَيْب معزولون”، “فتى عمره 14 سنة، مبتور الرجل، اعتُقِل لمدة أسبوع تقريبًا”، “حاول ابن ال-17 أن يهرب من جنود جيش الدفاع الإسرائيليّ، أطلِقت النار على ظهره فقُتِل”، ” مُوتي، تألّمي، يا قحبة”، “دولة القنابل العنقوديّة”، “واقع كئيب في غزّة”)، ومقالات/صرخات ضميريّة (“نكبتنا”، “أنا أعتذر”، “هذا العلم ليس لي”، “خمسون سنة، خمسون كذبة”، “احتفال بالسنوكر”) لينتقد “العمى الأخلاقيّ” لدى الإسرائيليّين وغيرها.
يقول ليفي: “مهمتي المتواضعة هي أن أمنع الإسرائيليّين من الوصول إلى يوم يقولون فيه: ” لم نكن نعرف”! يدعم الانسحاب أحاديّ الجانب من الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة دون تنازلات ويقول: نحن لا نريد لإسرائيل أن تُعطي، على إسرائيل أن ترجع أراضي الفلسطينيّين المسروقة وتعينهم على استعادة احترامهم للذات، جنبًا إلى جنب مع حقوق الإنسان الأساسيّة والإنسانيّة.
قرأت مقالات ليفي بالعبريّة حين نشرها، تُميّزها الجرأة والسخرية السوداويّة الجارحة، وعناوينها الفتّاكة وحين قرأت الترجمة للّغة العربيّة كان لها مذاق آخر، وحبّذا لو يقرأها “صُنّاع القرار” العرب علّها تكون عبرة وبداية الطريق للخلاص من الاحتلال المقيت؟!
تساءلت حيال غياب وتهميش صاحب “‘صورة” الغلاف الرائعة الذي لم يُعطَ حقّه ؟!؟ سُئلت مرّة ماذا أقترح أن يُكتب حين يكون صاحب لوحة/صورة الغلاف مجهولًا؟ فكان جوابي بأنّه يتوجّب التنويه في الكتاب: “لوحة الغلاف: بذلنا كلّ جهد لمعرفة صاحب اللوحة ولم ننجح، نرجو من صاحب اللوحة الاتّصال بالناشر أو المؤلّف”!!
المحامي حسن عبادي