البطولات المزعومة وتزوير التاريخ!
تاريخ النشر: 10/06/18 | 15:11قراءة مغايرة في كتاب “نوم الغزلان”، لمحمد علي طه.
(1-4)
*د. محمد هيبي*
مقدّمة
عندما تضع رأسك على الوسادة بعد انتهاء يوم عملك، مهما بلغ طولا أو عرضا، راحة أو إرهاقا، قبولا أو رفضا، سعادة أو شقاء، وبغضّ النظر عن كيف سيكون نومك بعد ذلك، نوما عميقا بما فيه من راحة وهدوء، أو “نوم الغزلان” بما فيه من قلق واضطراب، لا بدّ لك أن تكون صادقا مع نفسك، أن تُحاسبها حسابا عسيرا عن كلّ ما سوّلته لك في نهارك من إساءة للآخرين. وإن لم تكن صادقا معها قبل خلودك للنوم، فلن تكون صادقا في شيء، لا في عملك ولا في حياتك، حتى لو صدّقك الناس، أو سكتوا عنك لأسباب قد نقبلها أو نرفضها. ومهما حاولتَ طمس، أو إنكار، أو تجميل ما سوّلتْه لك، فاعلم أنّ الحقيقة لا بدّ لها أن تبزغ يوما، وتسطع كالشمس في كبد السماء في يوم قائظ كقيظ ذلك اليوم الذي هُدمت فيه “ميعار” وشُرِّد أهلها.
اسأل نفسك: هل صمتك عن الحقيقة، أو أنكارك، أو تزييفك وتشويهك لها، أو تجميلك لما زيّفت وشوّهت، أو ادعاؤك البطولة في هذا الحدث أو ذاك، وأنت تعلم علم اليقين أنّه لا ناقة لك فيه ولا بعير، هل أضرّ بك وحدك، أم بالآخرين أيضا، واقعا وشعورا؟ وهل أنت مهيّأ أو مستعدّ للمساءلة، أم أنّك ترى نفسك فوقها، وليس من حقّ البسطاء أن يُسائلوا العظماء؟!
واعلم، أنّنا نعيش في مجتمع يغضّ النظر عن الأخطاء لأنّه غارق فيها. وبما هو كذلك، يرجو ألّا يفيض الكيل على كيّالٍ قد تضطرب أمعاؤه ويَبُقّ الحصوة التي لا يرغب البعض برؤيتها أو سماع ارتطامها بأرض واقعنا، ويتمنّى أن يختفي الكيّال أو يُصاب بالشّلل قبل أن يَبُقَّ حصوته، لأنّه ربما لا تزال في بعض وجوهنا بقية من حياء. ورغم ذلك، نعلم علم اليقين أنّ بيننا وجوها جفّ ماؤها ومات حياؤها، وأصبحت جلودها من السماكة والجمود ما يجعلها عازلة للماء مقاومة للصدمات. صُمِّمت كالسيّد سايكو وساعاته، “كم أنت قاسٍ يا سيّد سايكو. أنت إنسان بلا قلب وبلا شعور وبلا إنسانية” (13). فهل لنا أن نلوم السيّد سايكو وبيننا من هم أقسى منه وأسوأ؟!
وضعنا الثقافي القائم وخطوات قبل “نوم الغزلان”.
نعيش في الفترة الأخيرة، صحوة أدبية ثقافية فيها الكثير ممّا يُرضي وينفع، رغم كل ما لنا عليها من مآخذ تجعلها في بعض جوانبها مشبوهة أو موجّهة بأيدٍ لا تُريد لنا الخير. وأولها، وربما أهمّها، هو ندرة المثقّفين العضويين بيننا، وثانيها، وأخاله لا يقلّ أهميّة، أنّنا نُبدع في الأدب وننشر، ولكنّنا لا نقرأ. ومن يقرأ، لا يُدرك غالبا، أنّ بعض كُتّابنا يخدعونه ولا يقولون الحقيقة؛ ولا أحد يُحاسبهم. والغريب أنّ بعض نقّادنا أحيانا، لا يقولون الحقيقة حول ما يُشهره النصّ أو يُضمره، لأنّهم لم يروها، وهذا مؤسف، أو رأوها وآثروا لأسبابهم، غضّ النظر عنها وعمّن كتبها مشوّهة أو مجزوءة أو مقلوبة، وهذا مؤسف أكثر. والأغرب، إنّ بعضهم، يكيلون المديح للكاتب، ويُغفلون الحقيقة المسيئة لهم ولغيرهم، لأنّ الكاتب، بغضّ النظر عن شكل كتاباته ومضمونها، هو “كاتب كبير”، أو “شابّ حبوب ويستحقّ”، أو “صبية نغنوشة” تستحقّ الاهتمام الأدبي وغير الأدبي.
عزيزي القارئ، هذا المقال ليس نقدا أدبيا خالصا، ولا علميّا خالصا. ولكن يُمكنك اعتباره فصلا على هامش النقد الأدبي، لـ “فصول على هامش السيرة الذاتية”. وقد تأخّر نشره نتيجة التّريّث في أمور عديدة كان لا بدّ من فحصها بدقّة والتأكّد من صحّتها قبل الكتابة. ذلك لأنّني لا أنتصر لنفسي، بل للذين ظُلموا وسُرقت بضاعتهم مرتين: مرة على يد السلطة الظالمة التي قد نفهم ظلمها ولكن نرفضه بكل قوة، ومرة على يد نفر من أهلنا، لا نفهم ظلمهم، وقطعا نرفضه بقوة أكبر. فهو أشدّ من ظلم السلطة على حدّ قول الثائر تشي جيفارا: “الأقربون طعنتهم أشدّ لأنّها تأتي من مسافات قصيرة”، خاصة وأنّ المظلومين في الحالين، غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، إمّا لأنّ الموت غيّبهم، وإمّا لأنّهم ضعفاء أو مستضعفون. وطلبا للحقيقة التي لا لبس فيها، بحثت عن بعض من خرجوا من دائرة الضعف، وطلبت منهم أن يدعموا رأيي فيما أدّعيه، أو يُصوّبوني فأتراجع عن كل ما يكتنفه الشكّ.
الكاتب محمد علي طه، في كتابه الأخير، “نوم الغزلان”، يبدو كمثقّف واسع الثقافة والاطّلاع. ولكن، هل هو كما وصفه بعض أصدقائه، النقّاد وغيرهم، مثقّف عضويّ حسب نظرية المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامشي؟ هذا ما لا أراه أبدا في كتابه. فالمثقّف العضويّ عند غرامشي يعيش هموم شعبه ومجتمعه، وينتمي لمشروع ثقافي يُجنّده لخدمتهم، ويُضحّي بالنفس والنفيس من أجلهم. بينما محمد علي طه في كتابه، فعل العكس تماما، إذ لم تردعه معرفته وثقافته عن قلب الحقيقة وتزييفها، أو ادعائها لنفسه أحيانا، ضاربا باحتياجات شعبه ومجتمعه عرض الحائط. فما هو دافعه الحقيقي لذلك؟ هل هو غروره ونرجسيته؟ لو توقّف الأمر عند هذا الحدّ، لما كتبتُ، ولكنّه تعدّاها إلى ما هو أبعد بكثير. وبعض الذين كتبوا عنه، غامروا بهذا الوصف وتجاهلوا أنّ عوالمَ الاستبداد لا يُصارعها أدبٌ وأدباء ليسوا أحرارا ولا يقولون الحقيقة. ولذلك أرجو أن يتذكر القارئ المقولة التالية، لأنّها مقياس أومن به وبصدقه ومصداقيته!
قال الناقد الفلسطيني المعروف، د. فيصل درّاج: “الفنّ لا يقول الحقيقة إلّا إن كان حرّا، ولا يكون فنّا إلّا إن قال الحقيقة. ولذلك فإنّ تاريخ الفنّ العظيم هو تاريخ الصراع ضد عوالم الاستبداد”. فهل يُصارع عوالم الاستبداد قلم لا يقول الحقيقة؟!
والآن، بعد أن هدأت الضجّة المفتعلة التي أثارها، لا أقول “نوم الغزلان”، وإنّما كاتبه ومن يُصفّقون له، جاء دور الحديث عن الحقيقة، وعن البطولات المزعومة وتزوير التاريخ، وما زيّفه أو ادّعاه أو أخفاه لغاية في نفسه.
للأسف، يلتفت بعض النقّاد للكاتب أكثر من النصّ، ويُهملون النقد والتحليل الاجتماعي والنفسي، الذي قد يفضح حقيقة أخفاها الكاتب أو زيّفها. فإذا أهملها النقّاد فمن سيظهرها؟! هل فكّر أحدهم، بدافع آخر غير وطنيّة الكاتب كفلسطينيّ شرّدته الصهيونية، هدمت بيته وصادرت أرضه؟ سأحاول ما استطعت، أن أكشف السرّ من خلال فهمي وتحليلي الاجتماعي والنفسي لما ورد في كتاب “نوم الغزلان”، ليتسنّى للقارئ التفكير بعمق عند اصطدامه بالحقائق التي طرحها الراوي/الكتاب أو أخفاها، وليقف على مدى صحّتها وصدقها، أو مدى التلاعب فيها.
نشر الشاعر علي هيبي، الناطق الرسمي بلسان الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيين – الكرمل، خبرا في جريدة الاتحاد، حول قيام أعضاء الاتحاد القطري بزيارة لقسم اللغة العربية في جامعة النجاح في نابلس (الاتحاد، عدد 12/4/2018، ص 9). في الخبر، سقط قصدا أو سهوا، اسم الكاتب محمد علي طه كرئيس ثانٍ لاتحاد الكتّاب العرب بعد الشاعر سميح القاسم، واللذيْن كان الأمين العام للاتحاد القطري، الكاتب سعيد نفّاع، قد ذكرهما في كلمته في اللقاء المذكور. وقامت الدنيا لدى الكاتب محمد علي طه ولم تقعد، لأنّ اسمه سقط من الخبر، فبدأ اتصالاته مع من لهم علاقة بالاتحاد القطري، والضغط عليهم ليضغطوا على الناطق الرسمي، حتى نشر الأخير بعد يومين، خبرا مفاده “سقط سهوا”، وذكر اسم الكاتب فيه (الاتحاد، 15/4/2018، ص 6). ولنا أن نتساءل هنا: إذا كان الكاتب محمد علي طه لم يحتمل مثل هذا الخطأ، مقصودا أو غير مقصود، كيف إذن احتمل هو نفسه، كلّ الموبقات المثيرة للاشمئزاز والاستهجان والتساؤل، التي ارتكبها في كتابه “نوم الغزلان”؟ ولماذا علينا نحن القراء والأشخاص والمؤسسات الذين مسّت بهم، أن نحتملها؟ وهل سيأتي ذلك اليوم الذي يعتذر فيه الكاتب الكبير لمن أساء لهم أمواتا، أو لمن دفنهم في كتابه، وهم أحياء يُرزقون؟
رغم محاولاتي النقدية، أصابت أم أخطأت، ولأسباب خاصة وعامة، لم أفكّر بنقد أعمال الكاتب محمد علي طه. أمّا اليوم، فإصداره الأخير، “نوم الغزلان”، الذي وسمه أو وصفه بـ “فصول على هامش السيرة الذاتية” (18)، طيّر النوم من عينيّ. وتصرّفه حيال الخبر أعلاه، كان القشّة التي قصمت ظهر البعير. أرغمني أن أطرح كل أسباب الصمت، لا لأسباب شخصية، ولكن دفاعا عن الحقيقة التي أعتقدُ أنّ الكتاب وكاتبه، لم يكونا أمينيْن عليها. وكل ما أريده هو إخراج الحقيقة للناس، الحقيقة التي ظلمها الراوي/الكاتب في كتابه، وظلم أصحابها حين أخرجها مجزوءة ومشوّهة، أو ادّعاها لنفسه وهو يعرف أنّها ليست له، أو قبر بعض فصولها ولم يذكره أبدا، رغم أنّه يعرف أنّها فصول لعبت دورا ذا بال في حياته وفي حياة رفاقه وأصدقائه أيّام كان مسجّلا كعضو في الحزب الشيوعي وفي الجبهة الديمقراطية، قطريّا ومحليّا. ولعبتْ كذلك دورا ذا بال في حياة الناس من أهالي قريتي “الدامون” و”ميعار” المهجّرتين، وقرية كابول الباقية، التي استقرّ فيها بعد النكبة وما زالت تحتضنه. وكل ذلك التجزيء والتشويه والقلب والقبر، الذي كان نصيبَ الحقيقة في كتابه، حسب فهمي المتواضع للنصّ، هدفه “الأنا” والذات الكاتبة التي خانت الحقيقة وخانت أهداف الكتابة والأدب؛ فقد انتفخت إلى حدّ المسّ بالآخر أو تغييبه كليّا. وقامت بإحياء الآخر المقبور، وقبر الآخر الحيّ لغاية لا أرى غيرها، الاستعلاء على الناس، أفرادا ومؤسسات، وإنكار دورهم، أو تشويهه إرضاء للنرجسية المقيتة التي يراها القارئ تطغى في كتاباته. وهي بلا شكّ، نابعة عن عقدة الشعور بالنقص، وقد أعمته فلم ير أنّها قد تكون قاتلة. ولذلك، أرى “نوم الغزلان”، رصاصة أطلقها الكاتب فارتدّت إليه وفضحته وزعزعت مصداقيته، ليس فيما كتب فقط.
ظلّ الكاتب، طيلة سنيه، يُحدّق في صورته المنعكسة في بحيرة كتاباته وبطولاته المزعومة، إلى أن سقط في البحيرة؛ وإن سقط ولم يمت، اجتماعيا وأخلاقيا، فذلك بفضل عيوب مجتمعنا. لأنّ كتابه يمسّ بالآخر ويُسيء للكثيرين، أفرادا ومؤسسات، والأهمّ من ذلك، يُزوّر التاريخ. بل ربما أكثر من ذلك أيضا، أشتمّ في بعض أسلوبه، ما هو أخطر، يجعلني أبقّ حصوة أخرى.
الكاتب محمد علي طه إنسان ذكيّ بالفطرة، وذكاءه تطوّر وتبلور عبر السنين وتراكم التجربة. فهل استخدمه يوما، في خدمة شيء غير ذاته؟ لكم جوابكم، ولي جوابي القاطع: لا! وما جاء في “نوم الغزلان”، كافٍ لإثبات ذلك. “نوم الغزلان” الذي لا تكمن خطورته في أنّه لا يخدم الآخر والجماعة، أو لا يخدم إلّا ذات الكاتب، أو لا تكمن في قلبه للحقيقة وتزييفها وتشويهها، أو قبرها أحيانا، وإنّما تكمن أيضا، في بعض جوانب أسلوبه في عرض الحقائق المزيّفة والمشوّهة بشكل يتناقض مع كونه كاتبا وطنيا، أو رئيسا للجنة الوفاق، أو عضوا في لجنة الصلح العشائري، لأنّ في أسلوبه دعوة مبطّنة للفتنة، نعم الفتنة التي قد تنشب بين من تُسوّل له نفسه نبش الماضي سعيا وراء الحقيقة، وبين أناس لهم صلة بأبطال الأحداث والحقائق التي شوّهها أو قلبها، لأنّ أبطالها الحقيقيين أصبحوا في ذمة الله. فكيف نسأل شاهدا فارق الحياة حين يضع أحد على لسانه كلاما لم يقله، أو ليس صحيحا، أو ليس دقيقا، أو يُثير تساؤلات حَسِبَ الكاتب أنّ لن يجرؤ على طرحها أحد، أو توقّع أن لا يجرؤ أحد على نبش الإجابات عنها، لأنّه إذا فعل، قد يُعرّض نفسه لصدام مع أقارب أبطال الأحداث والحقائق التي زُيِّفت. كيف سنتّهم فلانا بالعمالة ويسكت أهله؟ كيف نطرح موضوع بيع الأرض ونذكر من باعها للمؤسسة الصهيونية ولا نصطدم مع أهله؟ يعرف الكاتب أنّهم يخجلون ممّا حدث ومن مجرّد ذكره. والكاتب أدرى الناس بطبيعة مجتمعنا! فهو يُدرك جيّدا أنّ “هلل كوهين”، ذكر في كتابه “عرب جيّدون”، أسماء العملاء والخونة الذين تعاونوا مع المؤسسة الصهيونية قبل النكبة وبعدها، فهل اعترض أحد أو رفع صوت احتجاج؟ ولكن، هل يستطيع أحدنا أن يُردّد تلك الحقيقة أمام أحد أبنائهم أو أقربائهم؟ ألّا توافقون أنّه قد تحدث فتنة؟
كما أنّ هناك مثالا أطرحه وأنا أشعر بالخجل. يقول: “قدّم أبو سلام (إميل حبيبي – م. هـ.)، في بداية اللقاء تقريرا مختصرا عمّا جرى في الاجتماع السابق وحمّلني مسؤولية فشله واتّهمني بالتطرّف القومي وعدم فهمي للواقع السياسي والحزبي في البلاد وأضاف أنّ موقف “حبيبنا سميح” (القاسم – م. هـ.) كان متطرّفا ولكنّه “ألطف” أو أقلّ تطرّفا من موقف “رفيقنا أبو علي” … وأمّا سلمان ناطور فكان “ينعوص”، ولم يسلم من “وخزاته” سوى أنطون شلحت وسهام داود” (181). شعرت بالخجل، وسُررت أنّ قرّاءنا قلّة، وتمنّيت أنّهم يقرأون ولا يفهمون، لأنّ في هذه الفقرة، إلى جانب النرجسية وشعور العظمة، دعوة للفتنة الشخصية والاجتماعية والطائفية. سأتركها للقارئ يقرأها ويسبر أغوارها ويُحاول فهم دلالاتها. وإن لم يستطع فقد يكون ذلك أفضل من باب “ولا تكرهوا شيئا”!
“نوم الغزلان” وأسلوبه، يدفعان إلى الفتنة بكلّ من يسعى إلى الحقيقة، أو يلجمانه خوفا منها ومما قد يُصيبه من تردّد خشية الصدام، خاصة عندما يكون تاريخ من ذكرهم الكتاب مشبوها، قد لا يحتمل البعضُ نبشَه؟! وإذا كنت أبالغ في قضية الفتنة، فهل أبالغ في قضية اللجم؟ والأمر نفسه ينطبق على الرفاق والأصدقاء أعضاء الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، لأنّ معظم ما ذكره الكاتب عن قادتهم مثير للاستهجان والتساؤل، ويحتاج إلى إثبات، وقد يُثير الخلاف بينهم؛ طبعا إذا قرأوا الكتاب وركّزوا في فهم النصّ وليس في شخص الكاتب وعبقريّته.
قد يقول قائل: إنّ ما يكتبه محمد على طه، أدب، والأدب يسمح بتخييل الواقع حتى لو كذب. نعم، ذلك جائز. ولكنّ نزعة التوثيق في هذا الكتاب تطغى على الكتابة الفنيّة، خاصة وأنّ الكاتب نفسه، هو من وَسْم كتابه بـ “فصول على هامش السيرة الذاتية”، ما يعني أنّه قرّر مسبقا أن يذهب في طريق التوثيق. وعليه فقد ألزم نفسه بقول الحقيقة كاملة بغضّ النظر عن أسلوب عرضها. وأكثر من ذلك: هل هناك ناقد، مهما كان حاذقا، يستطيع أن يقول إنّ السرد الأدبي بما فيه من تخييل للواقع، يسمح بتشويه الحقيقة أو تزييفها؟
ورغم كلّ ما تقدّم، للكاتب أو عليه، يُجانب الحقيقة والصدق، من يقول إنّ محمد علي طه ليس كاتبا. فهو كاتب غزير الإنتاج، وكاتب قصة قصيرة جيد على المستوى المحلّي. وإضافة إلى غزارة الإنتاج، له أسلوبه الخاص. وهو أسلوب لا يخلو من سخرية هادفة، ولا من لغة شاعرية جميلة، وفيه كذلك نكهة عربية فلسطينية ميعارية. ولكنّ المؤسف حقّا، هو أنّ النرجسية تطغى غالبا على أسلوبه الأدبي. وقد كتب أحد النقّاد دراسة حولها، ولكنّه لم يتطرّق بعمق إلى جوانبها السلبية. وفي حالة “نوم الغزلان”، هذا الكتاب الوثيقة، إلى جانب طغيان النرجسية فيه غالبا، والتكلّف والتصنّع أحيانا، يطغى فيه أيضا، أسلوب طمس الحقائق وتزييفها وتشويهها.
عندما صار عندي بعض الإلمام بالنقد الأدبي، أعدتُ قراءة بعض إنتاج الكاتب محمد علي طه، لأبحث فيه عمّا يدعم “تهمتي” له بالتكلّف والتصنّع وعدم الصدق، خاصة وأنّ له الكثير من الإعمال القصصية الجيّدة. إنتاجه الروائي لم يتعدّ رواية واحدة، “سيرة بني بلوط” (2004)، ظلّت يتيمة إلى كتابة هذه السطور. قرأت الرواية ولاحظت هزالها رغم ما فيها من جوانب إيجابية، ولم أحكم عليها إلّا بعد أن دعم رأيي أكثر من ناقد له باع في النقد، أطول من باعي بما لا يُقدّر. ومع ذلك لم أعطِ للأمر كبير أهمية. فمن جهة، الرجل كاتب قصة قصيرة جيد، ومن جهة أخرى، بحثت في إنتاجه فقط عمّا قد يدعم “تهمتي” له، لأنّني أومن أنّ الفنّ لا يكون فنّا إلّا إن قال الحقيقة، وأنّ الكاتب يكتب ذاته، بغضّ النظر عن الشخصيات التي يرسمها، أو الأحداث التي يسردها، أو القضايا التي يُعالجها في نصوصه. وقد وجدت في روايته وقصصه ما يُؤكّد تلك “التهمة”. ولكنّ ذلك لم يكن كافيا بحيث يدفعني للكتابة، لأنّني من جهة، أعرف ضرورات التخييل، وإن كان التخييل لا يعني تزييف الحقيقة أو طمسها. وقد تذكّرت دائما مقولة ألبيرتو مورافيا (1907-1990)، الروائي الإيطالي وأحد منظّري الرواية: “أنا كاذب، وهذا يعني أنّني روائي”. ومن جهة أخرى، اعتبرت أنّ ما يكتبه محمد علي طه، مهما بلغت نرجسيته، لا يتجنّى فيه على أحد، بل وفيه بعض الفائدة الأدبية والمنفعة الثقافية للناس. وكان هذا كافيا، لا لأن يشفع له عندي فأستمرّ في لجم قلمي فحسب، بل لأن يضعه أيضا في المركز الحقيقي الذي بلغه من الكتابة. وعليه، فقد استمرّ صمتي إلى أن أصدر “نوم الغزلان”، ووسمه بـ “فصول على هامش السيرة الذاتية”. وهذا الوصف، شاء أم أبى، لا يُخرجه من إطار السيرة الذاتية. ولكن المهمّ في الأمر، إنّه اخترق فيه كلّ قواعد الصدق والأمانة في الكتابة والأدب، وأباح لنفسه قلب الحقائق والاستهتار بعقول الناس والقرّاء. وهنا أقصد الناس والقرّاء عامة، ولكن بشكل خاص، أولئك الذين يعرفونه شخصيا، فبعضهم عاش معه، وبعضهم لا يزال يُقاسمه المكان والهمّ.
وعودة إلى مورافيا، قال: “أعمالي ليست سيريَّة بالمعنى المعتاد للكلمة، مهما يكن للعمل صلة بالسيرة الذاتيّة، فهو كذلك، فقط بطريقة غير مباشرة مطلقًا، بطريقة عامة للغايّة. أنا ذو صلة بـ “غيرولامو”، (أحد أبطال رواياته)، لكنّني لستُ هو. لا آخذ، ولم آخذ قط لا واقعه ولا شخصيّته من حياتي بشكل مباشر. السيرة تعني شيئًا آخر. يجدر بي ألّا أُقْدِم على كتابة سيرة ذاتيّة حقيقيّة، أنتهي دائمًا إلى التزييف والاختلاق القصصي، أنا كاذب، في الحقيقة، وهذا يعني أنّني روائي”.
إذن روايات ألبيرتو مورافيا ليست سيرة ذاتية له، حتى وإن لمح القارئ بعض ملامحه فيها. ولكن، أهمّ ما يُفهم من كلامه هو أنّ كتابة الرواية الفنّية، تختلف في تناول الحقائق عن كتابة رواية السيرة الذاتية. فالسيرة الذاتية تتحدّث عن أحداث وحقائق وقعت لا مجال فيها للتشويه والتزييف والتحريف، وذكرها يحتاج إلى كثير من الشجاعة والجرأة، إن لم يتَحَلّ بهما الكاتب، فالأفضل له أن يتّخذ من مورافيا قدوة، أي أن يصمت ولا يخوض التجربة.
ما قلته عن أعمال مورافيا ينطبق على أعمال غيره من الروائيين، كما ينطبق على الأعمال القصصية والروائية للكاتب محمد علي طه. فهي ليست سيرة ذاتية له كما يدّعي في كتابه. أمّا فيما يتعلّق بكتابه الأخير، “نوم الغزلان”، فالأمر مختلف تماما، لأنّه سيرة ذاتية حقيقية تحتاج إلى الأمانة والصدق. وقد أخطأ في وسمه بـ “فصول على هامش السيرة الذاتية” (18) لسببين أولهما واضح، وهو نرجسيته التي ترى كلّ أعماله خارج الأدب، وكذلك الأشخاص الذين التقاهم وأعمالهم، أقلّ شأنا من أعماله الأدبية، باعترافه حين قال إنّ “سيرته الذاتية هي كل أعماله الأدبية التي نشرها وسينشرها” (18)، وهذا القول يُكذّب ادعاءه بأنّ هذا الكتاب “فصول على هامش السيرة الذاتية”، فهو فصول من السيرة الذاتية لأنه جزء مما نشره، أي يشمله اعترافه المذكور. والسبب الثاني هو جهله أو تجاهله أنّ هذه الفصول، وثائق يجب أن تُكتب بمنتهى الصدق والأمانة، بغضّ النظر عن أسلوبها. وقد ألزم نفسه بهذا الوصف، بما لم يلتزم به من الصدق في الكتابة والأمانة في التوثيق!
وللتذكير، أول قواعد فنّ السيرة وأهمّها، الأمانة في نقل التاريخ، لصاحب السيرة ولمن كان حوله، وقول الحقيقة ولو على نفسه. لا يجوز الانتقاء والغربلة والتجميل في السيرة إلى حدّ التشويه. وهي ليست لنقل البطولات أو اختراعها بل لبيان الحقيقة الجميلة والقبيحة على حدّ سواء. وهذا ما نعرفه بالتجربة أيضًا حين قرأنا العديد من السير الذاتية كسيرة حنا أبو حنا وفدوى طوقان وإدوارد سعيد وغيرهم. وبالإضافة لذلك، “السيرة الذاتية هي سرد نثري واقعي يدور حول شخصية حقيقية … ومن أهمّ مقوّماتها، التطابقُ التام بين المؤلِّف والشخصية والراوي، وغلبةُ الصوت الواحد الذي يحمل رؤية الكاتب الأيديولوجية”. هذا ما قاله صديقي الناقد د. رياض كامل في مقال له حول السيرة الذاتية في كتاب “نوم الغزلان”. وهذا ما أقوله أنا ويقوله كل منظّري الرواية. وأكثر من ذلك، يقول د. رياض كامل إنّ الكتاب يحمل “رؤية محمد علي طه المباشرة، فضلا عن تبعثر المقالات والمواضيع في أزمنتها وأمكنتها، واعتماد السرد في غالبيته على أحداث شهدها الكاتب أو كان شاهدا عليها في أزمنة وأمكنة واقعية … والزمان يسير في السيرة الذاتية بشكل أفقي، كما هو في “نوم الغزلان” … من الواضح أن الكاتب يعمل على ترسيخ رؤيته فعمد إلى توثيق التاريخ والأحداث من خلال شخصية واحدة شاهدة على العصر”.
وعليه، “نوم الغزلان”، مهما سمّاه الكاتب، هو فصول في سيرته الذاتية، تقوم على كتابة بعض مذكراته الشخصية التي انتقاها بذكاء لتخدم أهدافه الشخصية، وليس الأهداف الحقيقة التي تبحث عنها الكتابة. وإن كسّر في كتابه قواعد السيرة الذاتية، فلا لوم في ذلك. كذلك لا حقّ لأحد بمحاسبة الكاتب على ذاتيته حتى لو بلغت حدّ النرجسية المقيتة. ولكن، يحقّ لكلّ قارئ أن يُحاسبه على غياب الحقيقة وانعدام الصدق والأمانة، وعلى نفيه المتعمّد للغير، وقلبه للحقائق وتزييفها وتشويهها أو إخفائها، إرضاء لنرجسيته التي بلغت في الكتاب، أحيانا، حدّ الوقاحة في تزوير التاريخ والاستهتار بعقول الناس عامة والقرّاء خاصة. فقد وضع نفسه بدرا واحدا ووحيدا، في سماء أقليّة عربية ظلامها حالك، ليس للناس فيها، أفرادا ومؤسسات، من رجاء أو نور إلّا نوره والهالة التي نفخها وأحاط نفسه بها. ويا للمهزلة، كأنّ كلّ المبدعين والفلاسفة والحكماء والسياسيين والعلماء، منذ فجر التاريخ، وكذلك قادة الحزب والجبهة، وقادة الشعب الفلسطيني، كلّهم خرجوا من معطفه. ألم يقل في أكثر من محفل ولأكثر من شخص، إنّ كل من عزم الترشّح للبرلمان من قادة الحزب والجبهة، كان يزوره ليحظى بنصيحته ومباركته؟ وأنّ الرئيس عرفات استشاره في مناهج التدريس (237). ولا يسعني هنا إلّا أن أكنّ الاحترام والتقدير لمن قرأ الكتاب وبقّ الحصوة، مثل صديقي ورفيقي نمر نجار، صاحب مكتبة الجيل في كفر ياسيف، الذي قرأ الكتاب فاشمأزّ وامتعض. وحين قابلته وتحدثنا عن الكتاب، سجّل موقفه بكل جرأة وصراحة. قال: “أيّ استعلاء مخجل هذا؟ كأنّه لا يوجد في العالم غيره”!
يعتدى الكاتب محمد علي طه في كتابه، على خصوصية الأحياء، ويخطف من الأموات هدأة نومتهم الأخيرة. وفيه إساءة لأفراد وجماعات ومؤسسات، كان الأجدر به ككاتب “وطنيّ” كما يدّعي، أن يكون أمينا عليهم وعلى الأحياء والأموات، وعلى التاريخ. وأن يُدافع عنهم ويُنصفهم، حتى لو ظلم نفسه. قال تعالى: “يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ” (النساء، 135). فإذا كان الكاتب الحاجّ لا يعرف هذه الآية فتلك مصيبة، وإذا كان يعرفها فالمصيبة أعظم. ولكنّه في الحقيقة، لو أراد في كتابه أن يُنصف أحدا، لأنصف المرحوم والده الذي لم يسلم من مخالب نرجسيته!
ولكيلا أظلم الكاتب، بل لأبيّن ظلمه هو لنفسه وللآخرين، قرأت الكتاب، وأعدت قراءته، ثم زرت أشخاصا ومؤسسات، واستعرضت معهم الحقيقة التي تخصّهم، لأكون أمينا على كل ما أعرضه هنا. ولكن، لن أذكر أسماءهم، لا لأنّ بعضهم طلب منّي ذلك، وإنّما لأجعل القارئ يشعر كم هو قاسٍ عدم ذكر الأسماء عند الحاجة لذكرها. وهو أسلوب استعمله صاحب “نوم الغزلان” بكثرة في كتابه. وسأتحدّث عن ذلك لاحقا.
محمد علي طه كاتب جيّد، وذو قدرة لا يمتلكها الكثيرون. ولكن للحقيقة والأمانة أيضا، يُجانب الصدق والحقيقة، حتى لو كان جهبذ الجهابذة في النقد، من يدّعي أنّه الأجود. فهناك من يفوقه محليّا في مجال القصة القصيرة، ولكنّه لم يحظَ بالاهتمام الكافي من النقّاد والمؤسسات، لا لسبب إلّا لأنّه لم يطرح نفسه في المزاد العلني في سوق النقد والجوائز. وستكون لي وقفة مع الجوائز.
في هذا المقال كما أسلفت، أحاسب “نوم الغزلان”، لأنّه ليس عملا روائيا بقدر ما هو عمل سيريّ توثيقي. ولا أبالغ إذا قلت: بلغ السيل الزّبى! فقد أغضبني وأنطقني بعد صمت! وفي الحقيقة لم أقتنِ الكتاب، ولم أكن أنوي قراءته، ولكن لسوء حظّي، وقع في يدي صدفة عندما زرت صديقا استعاره من صديق كان قد اقتناه. تناولت الكتاب وأخذت أقلّب صفحاته، إلى أن قرأت في إحداها ما أغضبني وأثار اشمئزازي وجعلني استعير الكتاب وأقرأه (يتبع …).