قرار “عاجز” حكيم
تاريخ النشر: 16/06/18 | 9:59كان تقديم الدكتور عزمي حكيم استقالته من عضوية بلدية الناصرة متوقعًا، خاصة لمن تابع في الآونة الأخيرة تصريحاته ״الصاخبة״، لا سيما اعلانه، في الأول من حزيران، بأنّ “الناصرة بلد لا يطيب العيش فيه”.
لخطوته وقعان، واحد محلي وهو من “حصة” النصراويين ولن تتطرق إليه هذه المقالة، وآخر قطري وهو الموجع والمقلق والمثير ؛ فعزمي حكيم يُعدّ واحدًا من قياديّي فرع الجبهة الديمقراطية في الناصرة وأحد الأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي وناشطًا بلديًا معروفًا ، كان قد ترشّح كواحد من أربعة متنافسين على منصب مرشح الجبهة لرئاسة بلدية الناصرة.
لم تتضمن رسالة الدكتور عزمي المقدّمة لرئيس البلدية، السيد علي سلام ، موجبات استقالته، فلقد اكتفى بتعليلها “بأسباب خاصة وعامة” حدت به الى اتخاذ قراره الذي لا رجعة فيه، كما صرّح.
لاحقًا نشر عزمي على صفحته ما يوضح دواعي خطوته، حيث يمكن اختزال أهم ما أورده بجملة واحدة قالها معبرًا عن شعوره “بالعجز أمام هذه الحالة التي يتحمّل مسؤوليتها رئيس البلدية الذي يشجع هذه الأجواء” .
مع هذا فهو لن يترك ، كما أعلن، ميادين العمل السياسي بل “سيبقى في الجبهة إلى آخر نفَس” وسيكون إلى جانب رفيقه مصعب دخان الذي سينافس على رئاسة بلدية الناصرة ؛ هكذا وفقًا لما كتب.
يعرّي القرار حالة سياسية اجتماعية مأساوية متفشية في جميع تجمعاتنا السكنية العربية في إسرائيل؛ ويعتبر، على المستوى الشخصي، خيارًا موجعًا اتخذه “مقاتل عتيق” بعد أن سئم المضي في طريق “دونكيشوطية” بائسة، وفي فضاءات طاغية على مدينته، الناصرة، وحيّزات عامة لم تُبقِ، وفقًا لما كتب، حتى لمن أدمنوا الأمل، فرصًا للعمل ولتحقيق ذواتهم بحريّة واحترام بلا خوف أو قلق.
أولى بأهل الناصرة وبمؤسساتهم الحزبية والتمثيلية تناول الجوانب المحلية التي يعكسها قرار الاستقالة ودراسة دواعيها كما كشفها بصراحة بالغة؛ مع هذا، أود تسجيل تحفظ واحد أو تعقيب على تحميل د. عزمي لرئيس البلدية كامل المسؤولية عما أسماه “هذه الحالة” التي وجد نفسه عاجزًا أمامها ومضطرًا الى اتخاذ قراره بالاعتزال؛ فالناصرة التي كانت تنتخب لسنوات طوال جبهة الدكتور عزمي ورفاقه هي نفس الناصرة التي انتخبت قائمة “ناصرتي” وعلي سلام رئيسًا لها في الدورة السابقة، و”هذه الحالة” ما هي الا واقع مجتمع تشكّل في حضن وتحت ظل من كانوا “ساداتها” قبل صعود القوى الجديدة وتحكمهم في شعاب البلد وتمكنهم من شرايينها؛ وهي ككل سيرورة اجتماعية/اقتصادية ستفضي إلى تشكّل “حالة سياسية” متحرّكة، حيث يمكن ويجب التأثير عليها أو، بالمقابل، الاستسلام أمامها؛ ولكن قبل هذا وتلك كان يجب تقييم ومواجهة أسباب وعوامل نشوئها، وذلك من خلال عملية محاسبة جدّية، يصاحبها واجب تدفيع من كانوا مسؤولين عن حدوثها ثمن اخفاقهم واستخلاص النتائج الحازمة الصحيحة من أجل مستقبل ومصلحة الجبهة ومكانتها ومصلحة المدينة قبل كل شيء.
يحق لعزمي أن يختار مصيره كما يشاء ولا يحق لأحد أن يزايد عليه، فهو بخلاف كثيرين راجع طريقه وأقرّ ببعض أخطاء الماضي وحاول، كشيوعي وكسياسي بلدي وغيور وعنيد، أن يتصدّى لمن يسيئون، من وجهة نظره، للناصرة ولمصلحة الجماهير العربية، سواء كانوا من ممثلي الدولة الرسميين أو من وكلائهم العرب الكثيرين؛ ولهذه الأسباب بالذات يجوز احتساب استقالته كلائحة اتهام بحق جميع القوى “التقدمية” السياسية العاجزة، التي كان لأدائها، قبل الانتخابات المحلية والبلدية الأخيرة وبعدها، بالغ الأثر والتأثير في نشوء تلك “الحالة” السياسية المهيمنة، والتي ما فتئت قوتها تتنامى في معظم المجتمعات العربية وليس في الناصرة وحسب.
لو كنا نعيش في ظروف سياسية صحّية ومتوازنة لأحدثت خطوة عزمي حكيم ردود فعل حزبية ملموسة ؛ فالفضاء الذي حدثت فيه الاستقالة هو عبارة عن واقع قائم في مجتمعنا الكبير، وغياب ردود الفعل السياسية عليه بالمطلق هو البرهان على سوء الحال والدليل على ما سوف يكون.
من مظاهر “هذه الحالة” الأوضح يمكن اعتبار انحسار دور الأحزاب التقليدية في العملية الانتخابية المحلية والبلدية، ولهذا سيتعذر فهم خطوته الفردية إلا بكونها نتيجة حتمية لمن فقد الحواضن الحزبية المتينة وبات يواجه حالة من “السراب النضالي” الموهوم التي قد تودي بصاحبها الى العدم .
لقد انتمى عزمي إلى حزب كان كباره “سادة نجب” لا يخشون زرد السلاسل ولا عصي الشرطة في أيار ، واذا ما “جهل أحد عليهم” كانوا يردّون عليه كما يليق بأصحاب المطارق والنجمة الحمراء والمناجل؛ أما اليوم فما زال حزبه يسعى من اجل اعادة رايته وتحديد معالم هويته .
كانت الناصرة آخر القلاع التي خسرتها الجبهة، وبسقوطها انتهت مرحلة سياسية في تاريخ الجماهير العربية في إسرائيل، وبدأت تظهر في مواقعنا براعم أنماط قيادية بديلة.
فنحن نعيش زمن مخاضات سياسية لا تبشّر تداعيتها بالخير، ونشاهد كيف يحاول حكّام الدولة من جهة، والمستفيدون من انهيارات “النظام القديم” من جهة أخرى، ترسيخ قواعد حكم وتواصل جديدة وبناء نظام قيادي عربي قطري سينسف أواصر ما بني في العقود الخالية ويطيح بالقيادات الحالية ويطعن بشرعيتها.
لم تُصغِ الأحزاب والحركات السياسية لصوت السيل ولم تنجح في منع هزائمها؛ فوقعت معظم البلدات العربية تحت سيطرة مراكز قوى حديثة وتأثير تفاعلات اجتماعية واقتصادية، مهدّت الى نشوء منظومة حكم محلية متمردة على سيطرة الأحزاب العربية التقليدية، ويطمع أعضاؤها جهارةً، بما لديهم من شرعيات شعبية ووسائل ترغيب و”تسمين” ،الى استبعاد القيادات السياسية المتنفذة في المؤسسات القيادة العربية القائمة.
قد لا تنجح الأحزاب والحركات السياسية العربية التقليدية بقلب الحالة السياسية المستجدة، ولا بالانتصار عليها واستعادة بوابات قلاعها؛ لأن ما نما في بلداتنا كان في الواقع مما زرعته أيدي تلك الأحزاب ؛ وصار، كما يشعر الكثيرون، أكبر من قدراتها، خاصة وهي تمتهن فنون التناحر بينها وتعتاش على مقولات الماضي المكرورة وشعاراته النافدة.
فيجب قراءة استقالة عزمي الحكيم على هذه الخلفيات، واستيعابها كتعبير عن روح يرفض صاحبها ممارسة دور “البطل” المثالي كما جسدتها لنا الملاحم الاغريقية.
كثيرون يفعلون مثله لكنهم يلوذون بصمت كالفراشات، وبعضهم يرحلون إلى صدر المدينة التي تتيح لهم هوامش من سعادة زرقاء صافية، ومساحات من نضالات زاهية، من أجل غزة أو غيرها، حيث يواجهون هناك، في أسوأ الحالات، هراوات شرطة حاقدة، وهذه ستبقى حتمًا أأمن من ضربة “قدر” مصيرية.
فمتى شاهدتم مظاهرة عربية كبيرة ضد رئيس بلدة عربية؟
جواد بولس