الادعاء بالمعرفة
تاريخ النشر: 26/06/18 | 12:55قف معي أمام هذه النماذج:
* متعلم عرف مادة، وربما علّمها، فظن أنه الخبير بها، فظل يقدّمها بل “يقدسها”، كأن الباطل أو الخطأ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها. فإذا أضفت شيئًا لم يعرفه أخذته العزة بالإثم، فلا مصادر ولا مراجع تقنعه، فحسبه مبلغه من العلم.
..
قارئ نصف مثقف يقحم نفسه في ملاحظة عابرة أو في حديث هامشي جانبي ليس في جوهر الموضوع الذي يتناوله الباحث. لا ينتبه للأفكار الجوهرية أو المحورية، وربما لا تهمه.
وبدلاً من أن يقول: “تعلمت وأفدت” يقعد للباحث وكأنه يضاهيه أو يساويه أو يجاريه.
..
قلت لباحث صديق اعتاد بعضهم “مناقشته” في معلومات جزئية يحفظونها، وكأنهم درسوا المادة وأجادوها: “ضع حدًا لهم! واطلب منهم بدءًا:
هل السؤال للإفادة أم للمناقشة؟ فإذا كان للإفادة فيا حبذا!
وإذا كان للمناقشة فاسبر غور السائل ماذا قرأ؟ وماذا يعرف؟
فإن كان متعبًا في محادّة ومشادة فما أغناك عنه!
إذ كيف لك أن تتعامل مع من يقفز بك عن الحقائق، ليلعب في ساحة أخرى، أو ينقلك إلى مسارب بعيدة، وفي ردوده يبحث عن أناه أكثر مما يبغي أن ينصت أو يتعلم أو يقتنع.
هل جربتَ في نقاش ما أن يجرّك من يحاورك إلى الجوانب إلى مواضيع أخرى إلى مسارب أخرى؟
..
إزاء هؤلاء أقول ما قاله الحسن بن هانئ:
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً *** حَفِظْتَ شَيئًا، وغابَتْ عنك أشياءُ
..
أكتب ذلك وأنا أرى كثرة كاثرة من مدعي العلم وراكبي مطية الشعر، وخطباء آخر الزمن و “علماء” في كل ميدان، ينسون قوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}-.
..
لعل السبب في هذه الظاهرة الادعائية أن الشخص المدّعي يعلم أنه “فارغ”، فيضطر إلى المكابرة وإلى المهاترة.
“قال أبو علي مِسْكويهِ: سبب ذلك محبة الإنسان نفسه، وشعوره بموضع الفضيلة، فهو لأجل المحبة يدّعي لها ما ليس لها؛ لأن صورة النفس التي بها تحسن، وعليها تحصل، ومن أجلها تسعد – هي العلوم والمعارف، وإذا عريت منها أو من جلّها حصلت له من المقابح ووجوه الشقاء بحسب ما يفوتها من ذلك.
ومن شأن المحبة أن تغطي المساوىء، وتظهر المحاسن إن كانت موجودة، وتدعيها إن كانت معدومة، فإن كان هذا من فعل المحبة معلومًا، وكانت النفس محبوبة لا محالة، عرض لصاحبها عارض المحبة، فلم ينكر ادعاء الإنسان لها المعارف التي هي فضائلها ومحاسنها وإن لم يكن عندها شيء من ذلك”.
(أبو حيان التوحيدي: الهوامل والشوامل- سؤالات أبي حيان لأبي علي مسكويه، ص 71).
..
قال ابن المقفع في كتاب الأدب الكبير، وكأنه يوجه النصح لمثل هؤلاء المدعين:
“لا تكثرن ادعاء العلم في كل ما يعرض بينك وبين أصحابك فإنك من ذلك بين فضيحتين.
إما أن ينازعوك فيما ادعيت فيهجم منك على الجهالة والصلف، وإما ألا ينازعوك ويخلوا في يديك ما ادعيت من الأمور، فينكشف منك التصنع والمَعجزة.
(الأدب الصغير والأدب الكبير، ص 101)
..
ادعاء العلم مرض، وهو نقيصة أو مثلبة. وغالبًا ما نجد ذلك لدى من سميته “نصف المثقف”، فالنقاش معه فيه معاناة أكثر بكثير من إفهام الجاهل، لأن الجاهل إذا سأل يتواضع، وهو يعرف قدرك، فيبحث عن فائدته، بينما لا يقبل ذلك الرأس المكابر أي جديد؛ فهو شخص أحب نفسه وأقنعها بأنها محور العلم الذي عُرف به، فيتحدث بثقة مطلقة، وغالبًا ما يرفع صوته مدلاً بنفسه، ويرفض من يخالفه في الرأي حتى لو تسلح هذا بالمراجع والدلائل والوثائق.
روي عن الخليل بن أحمد:
” الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فخذوا عنه!
ورجل يدري وهو لا يدري أنه يدري، فذاك ناس فذكّروه!
ورجل لا يدري وهو يدري أنه لا يدري، فذاك طالب فعلّموه!
ورجل لا يدري وهو لا يدري أنه لا يدري، فذاك أحمق فارفضوه!
(ابن الجوزي: أخبار الحمقى والمغفلين، ص 36)
وأنا لا أقول إنه “أحمق”، بل أقول إنه متعب.
..
كنت قرأت تقسيمًا للجهل أود أن أثبته في هذا السياق:
هناك الجهل الكامل؛ وهو عدم معرفة أي شيء عن موضوع ما.
هناك الجهل البسيط؛ وفيه يتم فهم موضوع ما دون معرفة التفاصيل المحيطة به.
أما الجهل المضلل ففيه يتم فهم الموضوع بشكل مخالف للحقيقة.
ويبقى الجهل االمقتنع- الذي تجد في حوزته الكثيرين في عالمنا العربي، ممن يرفضون النصيحة، حتى لو كانت نصيحة إلهية من كلمة واحدة تقول «اقرأ»!
..
أذكر أنني التقيت دكتورًا في جامعة عربية، فسألته إن كان يضيف لمعلوماته -بعد تخرجه- موادَّ وأبحاثًا مستجدة؟
أجاب: ولماذا أضيف؟ أنا استوفيت الموضوع في دراستي وحصلت على الامتياز.
..
ب. فاروق مواسي
جزاك الله خيرًا، أستاذ (من الأستاذيّة) د. فاروق على الكتابة في الموضوع بهذا الأسلوب، وعلى تدعيم ادعاءاتك وأفكارك بإحالات إلى دسِم وجميل المراجع العربيّة. رغم عشق بعضنا لها، غالبًا لا تسعفنا وتيرة الحياة المحمومة والتخصصات الأكاديمية بالرجوع إليها.
يلاحظ القاريء/ئة اللغة ومفردات التعريف بالفئة قيد البحث، حيث اقتصرت على “الرجل” في هذه الأدبيات، لظروف تاريخية أقصت المرأة عن مجالات العلم والفلسفة والنقاش، أو غيّبتها في الكتابة رغم حضورها في المحافل المذكورة، أو ببساطة لنحت اللغة على صورة الرجل. في الحاضر،تقتضي التحوّلات المجتعيّة، والتي أفرزت نساء ذوات معرفة مختصّات في مجالاتهن، كما رجال، وأيضًا جاهلات ومدّعيات للمعرفة،يلزم برأيي اعتماد مفردة/ات أخرى.
أضيف لمقالك الذي أحاط بالظاهرة والأصناف، أنّ كثيرين من يدّعون وكثيرات من يدّعِين المعرفة في كل مجال وفي كل تخصص! حتى حين يكررون ما سمعوه أو يكررن ما سمعنه منك، أو من غيرك، في مناسبة ليست ببعيدة، وبطريقة مشوّهة ومبتذلة، وهو تكرار لم ينمّ عن فهم شامل وعميق للفكرة، ولا أقول للموضوع، أو في أحسن الحالات هو فهم مجتزأ، ناهيك عن أن مدّعي/ة المعرفة لا ي/تثبّت المفردات والجمل، ولا يستخدم الأدوات المعرفيّة في مكانها، إذ فهمها أصلًا لم يتحقق له/ا.
ختامًا، فهم المسموع و/ أو المقروء، هو معضلة بحد ذاتها. حتى من ي/تعرف محدوديّة فهمه/ا للمسموع و/أو المقروء لا ي/تتوانى في إدّعاء المعرفة والخوض في نقاشاتها. أما مع هذه الفئة فنصيحة إصغِ/ي أو إقرأ/ي، وإن تقبّلتها، فهي محدودة النجاعة.
تحيّاتي لك،
ما أروعك وأروع تعليقك الدارس المدروس!
نعم يا عزيزتي، فكم من الكتّاب من يصول ويجول ولا يعرف أنه لا يقدم ثمرًا أو فائدة، بل رصف جمل وادعاء وخواء …ونحن لا نجرؤ بمصارحة هؤلاء إلا نادرًا، وأن جرؤنا فقدنا علاقاتنا بهم.
فهم يقدسون ما يعرفون، وفي جملتي الأولى قلت يقدمها بل يقدسها…
وهذا حالنا.
أرأيت كيف ختمت بالدكتور الذي لا يضيف لمعلوماته جديدًا، فقد أصر على استيفائه الموضوع، فلماذا يقرأ من جديد.؟
مشكلتنا الأولى أننا لا نعطي كل ذي حق حقه، وصدق المثل الشعبي “كله عند العرب صابون”!