قراءة في رواية “نزلاء العتمة”
تاريخ النشر: 22/07/18 | 23:44أحمل بين يديّ رواية للقاصّ الأردنيّ ” زياد أحمد محافظة”، الّتي وسمها بعنوان” نزلاء العتمة”، وقد حازت هذه الرّواية جائزة أفضل كتاب عربيّ في مجال الرّواية، ضمن جوائز معرض الشّارقة الدّوليّ للكتاب عام 2015.
وتدور أحداث الرّواية في أجواء غرائبيّة تخييليّة، عندما يلج ” مصطفى” السّجين الأمنيّ الّذي يموت في زنزانته المعتمة، غبّ تعذيب نفسيّ وجسديّ دام عشر سنوات، باب الانعطاف الفاصل بين عالمين، عالم الحياة الدّنيا وعالم المقابر.
وفي عالمه الجديد، أي، عالم المقابر، ينشد تغييره إلى الأفضل فينير فيه الشّموع، ويقيم حفلة موسيقيّة، ويعطي حيّزا هامّا للشّعر، فيصهر العديد من نزلاء المقابر في بوتقة التّغيير والتّجديد، عندها ينفضون عن أجسادهم، ما علق بها من تراب المقابر الكالحة.
مقابل هؤلاء الّذين ينشدون الحياة في مقابرهم ، تقف مجموعة تخشى العبث بما ألفوه من عتمة، وخشية من تدنيس قداستها، يزرع أفراد هذه المجموعة الخوف في نفوس قاطني المقابر بأنّ من يجرؤ على خلخلة النّواميس الثّابتة، سيتجرّع الآلام السّرمديّة، ولتحقيق مآربهم استعانوا بشتّى الوسائل الكفيلة بوأد ما قام به” مصطفى” من تغيير من خلال الّضرب والاعتداء، وانتهاك للحرمات، وسرقة للقبور.
بين هذين القطبين، يدور الصّراع، وكانت الغلبة بداية، للمتزمّتين المتشدّدين الّذين يرهبون النّور، وتنتهي الرّواية باستعداد مصطفى ومن معه للمواجهة الكبرى.
لا شكّ أنّنا أمام رواية محكمة بامتياز، تسير في فضاءين متوازنين، لكنّهما يتقاطعان ويلتقيان في موضوعة الظّلمة والعتمة، ومن خلال سرد ما يدور في العالم الافتراضيّ التّخيليّ، نستحضر عالم الواقع المعيش الّذي تلفّه العتمة هو الآخر، لكنّها عتمة من صنع أيدينا، ألفناها وأصبحنا لا نستطيع فكاكا من أسرها، ولا يتسنّى تقويضها إلا بخطوات تعيد بداية للإنسان إنسانيّته.
بعد دراستي لنزلاء العتمة، وجدت أنّها تدور في فلك الرّواية الهادفة، وهي ترمي إلى أبعاد خارجة عن فنيّتها، وقد أجاد الكاتب عندما زاوج بين الفنيّة والقصديّة، فاتّكأ على الحيلة الذّكيّة في توجيه مراميه من خلال إسقاط ما يدور في العالم الافتراضيّ على العالم الحقيقيّ الّذي يوجّه إليه سهام نقده.
ونظريّة الأدب الهادف أو الأدب للحياة، أو ما أطلق عليه الأدب السّياسيّ، أو أدب الأخلاق أو الأدب الأيدولوجيّ، أو الأدب المسؤول، هي نظريّة الأدب الملتزم، وفيها ينغمس الأديب بقضاياه الفكريّة العقائديّة الّتي هي انعكاس لمشكلات مجتمعه السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والاقتصاديّة، وهي المجال المفضّل الملزم الّذي يجب أن يعالجه الأديب.
ومن هذا المنطلق، ينبغي على الأدب، وبالتّالي على الأديب، أن يعبّر عن حركة المجتمع في تطلّعه نحو مزيد من الحريّات، وكسر المسلّمات المفروضة عليه قسرا بقصد التّطلع نحو غد مشرق أفضل.
وفي هذه الموضوعة، يلتقي الأدب الهادف بنظريّة النّسق الثّقافيّ الّتي تتعامل مع النّصوص في محاولة استكشاف أنساقها الثّقافيّة المضمرة غير المعلن عنها، ويكون التّعامل مع النّصّ الأدبيّ وفق منظور هذه النّظريّة، بوضعه داخل سياقه السّياسيّ، ضمن النّشاط الشّموليّ للجهاز المعرفيّ المتكامل.
وفي إسقاط مرتكزات هاتين النّظريتين على رواية نزلاء العتمة، وهو إسقاط ليس قسريّا، نستطيع ومن خلال الإيحاءات المركّزة أن نرى قصديّة الكاتب في إظهار السّلبيّ لحركة مجتمعه بهدف تغييره، من منطلق أنّ إرادة الشّعوب تهزم الطّغاة، وأنّ الالتفات إلى الماضي والاستكانة إليه، هو العائق نحو التّحرّر:
” وصل إلى قناعة بأنّ الأمس ليس أكثر من جسد مسجّى، لا حاجة لبعث الحياة فيه من جديد، لذا قرّر قطع علاقته بكلّ ما مضى.. كانت تلك أوّل مهمّة عهد بها لنفسه”.
وقد ظهر الطّاغية في صورة سجّان مصطفى الّذي أعلن هزيمته أمام محراب صمته ،أي، صمت مصطفى ، والصّمت هنا، نوع من التّحدّي في عدم الاستجابة لمطالب هذا المتجبّر العنيد:
” أترك زوجتي وأتسلّل صوب زنزانتك لأشفي غليلي من كبريائك المقيت، لعلّي أكسر هذا الصّمت الّذي احترفته وشهرته في وجهي منذ يومك الأوّل، لكن بلا جدوى، بلا جدوى، أيريحك أن أقول لك بأنّ صمتك هزمني، بأنّني لم أنجح في خلخلة ذاك الّذي لم يتوقّف عن النّموّ في داخلك. حسنا، لك هذا”
وما هذا الّذي ينمو في داخله، سوى بذرة التّمرّد على الأوضاع الّتي طال سباتها في ظلمة القهر والجهل، فتأتي صرخة مصطفى مدوّية:” لا أريد أن أبني حول نفسي زنزانة جديدة، أريد مكانا جديدا آوي إليه بحريّة ، ولو قدّر لي أن أخرج من هنا، فسوف أعيش حياتي مثلما أشتهي، لا مثلما يريدون”.
وتدوّي صرخته من نفس توّاقة إلى الّتغيير، بعد أن آلمته غربة الوطن في برودتها القاتلة:
“أحسّ وهو يغرس أصابعه في فتنة التّراب بلذّة ساحرة، شتّان بين حياة أرهقته وأخرى يتطلّع إليها بشغف، أين هو الآن من صلف الإسمنت البارد وكآبة الجدران الّتي كانت تسند زنزانة أطبقت طويلا على أنفاسه” .
ولا يمكن للتّغيير أن يحدث إلاّ إذا قهر العتمة في داخله أوّلا، ومدّ الجسور مع القادرين على التّغيير ،أي، مع الجيل الناّشئ المتمثّل في الطّفل ” حسّان” فيتساءل مصطفى: “كيف لرجل عاش وسط الخوف والألم كلّ هذه السنوات، أن ينفذ لقلب طفل صغير وينتشله من صمته وشروده”؟
وكي ينفذ إلى قلبه، عليه بداية قهر العتمة في داخله: ” أوّل شيء فكّر فيه، هو قهر هذه العتمة الّتي تبتلع كلّ شيء هنا”.
لكنّ العتمة كانت زادا لبعض المتقاعسين المعطّلين لحركة الشّعوب نحو التّحرّر:” من ذا الّذي يحدث فينا أمرا لم نعهده؟ بأيّ وجه حقّ يضيء عتمة المقابر؟، العتمة قدرنا وأنتم تعبثون بالأقدار”
وفي حوار الكاتب مع هذه المجموعة المعطّلة، يسوق تبريراتهم في محاربة التّجديد والتّغيير
في أنّ هذا الخروج عن المألوف ، إنّما يزرع بذور التّفرقة بين النّاس ولذا وجبت محاربته من خلال شتّى الوسائل المتاحة وغير المتاحة:” … لا بدّ من إيقافه عند حدّه. لا يخفى عليك أنّنا لم نعتد شيئا كهذا من قبل، نحن نأخذ الأمر على محمل الجدّ… لقد فرّق بفعلته هذه بين النّاس، والفرقة كما تعلم، بداية الأذى”.
ومصطفى، الّذي يرمز إلى من يسعى نحو حياة النّور، هو غريب في نظرهم، وليس منهم ولن يقبلوا أن يزعزع سكينتهم:” متى سيدرك هذا الغريب أنّه لا يستطيع أن يجلب معه الحياة إلى المقابر؟ أيريد أن يبني لنا عالما موازيا؟ لم يطلب منه أحد أن يفعل ذلك، فليدع النّاس وشأنهم”.
ولم يقتصر عمل من ينتمي إلى هذه المجموعة على إطلاق الشّعارات المندّدة بحريّة الفكر ، بل تجاوزتها إلى اتّخاذ أعمال ترهيبيّة، بقصد زرع الخوف ، فظهرت زمرة لصوص المقابر، من رجال غير مألوفي الملامح، وعاثوا فسادا وداسوا حرمة القبور، وإزاء هذه التّطوّرات، كان لابدّ من المواجهة الّتي حملت سمات التّصميم في تحدّي العتمة خاصّة بعد أن مدّت الجسور مع الجيل الصّاعد التّوّاق إلى حياة كريمة:” … وبعد أن جال ببصره عليهم، انحنى ليحمل حسّانا على كتفيه، وحين رفعه عاليا، أخذ نفسا عميقا وقال بصوت مشبع بالسّكينة: ذات مرّة قلت في حياتي “لا” ودفعت لأجلها ثمنا باهظا، والآن سأقولها مرّة أخرى، حتّى لو سدّدت ثمنها للموت”، قال هذا ومضى بهم نحو مواجهة ستطفئ دون شكّ، شيئا من عطش المقابر”.
وقد يصبح الكاتب أحيانا بوق دعاية لفكره المؤدلج، فيلقي آراءه بشكل تقريريّ في غاية الوضوح، عندما يتطرّق إلى موضوعة السّياسة:” ألقى ضبّاط المخابرات القبض عليّ بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم . تلك التّهمة كما تعلم، كفيلة بالذّهاب بك وراء الشّمس، لا أنكر علاقتي بالأمر، ولا أنكر رغبتي في كنس ذاك النّظام العفن الّذي شاخ وأصبح وجوده عبئا على الأخرين”.
وكما أشرت سابقا إلى نظريّة النّسق الثّقافيّ، فأنّ العمل أيّ عمل، يتأثّر ثقافة المجتمع الّذي يصدر عنه، وفي نفس الوقت يكتب من أجله، في محاورة القارئ للنّصّ وفي استلهام هذا النّصّ للحقول المعرفيّة السّائدة في المجتمع، من هذا المنطلق، أرى قصديّة واضحة، عند الكاتب، في اختيار أسماء شخصيّات الرّواية، ليدلّل من خلالها إلى الحقول المعرفيّة المختلفة الّتي تؤثّر سلبا وإيجابا في مسيرة مجتمعه. وفي تتبّع بعض من هؤلاء الأعلام نرى ما يأتي:
– مصطفى: الشّخصيّة الرّئيسيّة، ثائر سياسيّ، ألقي القبض عليه عندما كان ابنه لا يزال جنينا ينمو في أحشاء زوجته، لازم زنزانته المعتمة لمدّة عشر سنوات، ولازم صمتا قاهرا، قهر سجّانه الّذي أعلن هزيمته أمامه للمرّة الأولى. ومصطفى يعني الاصطفاء، فقد تمّ اختياره لينوب عن مساجين كثر شغلوا زنزانته قبل مجيئه وآلوا إلى الموت المحتوم. لكنّ هذا الاسم ، وفي التّناصّ المعرفيّ، يقودنا إلى النّبيّ المرسل، فقد اصطفاه الله ليخرج الأمّة من الظّلمات إلى النّور من خلال الكتاب الحنيف، ومصطفى، أنار عتمة القبور بضوء شمعة، وأعاد إلى مجتمعه الرّافل في الظّلمات، سحر الموسيقا وإلهام الشّعر، ومدّ الجسور بين أفراد المجتمع، ليتكاتفوا على فعل ما يضمن للإنسان كرامته وحريّته.
– الفضيل: شخصيّة تحلّت بطيب الأخلاق في الحياة الدّنيا، فلم يبخل على محتاج ممّا يملك، وفي عالم المقابر ، كانت له المكانة المرموقة، فهو الّذي يستقبل القادمين إلى هذا العالم الجديد بعد أن يشيع في نفوسهم الطّمأنينة بكلامه الرّزين وبسمته المعهودة.
لقد وقف الفضيل إلى جانب مصطفى، وكان عونه في نشر النور في جنبات القبور. وقد تجلّى موقفه في معرض الرّدّ على المعطّلين: أتقلقون من رجل أم من شمعة؟
وكأني بالكاتب، يدمج بين الفضيلة والنّور، فلا تناقض بينهما، وللنّهوض بالمجتمع نحو الآفاق المنشودة، نحتاج إلى مثل هذا التّزاوج، كي تكون المسيرة آمنة من عثرات الطّريق.
– حسّان: الطّفل الصّغير المنزوي، الّذي جاء عالم المقابر خائفا، باحثا عن أبيه، وتاركا أمّه في عالم الحياة، وما أبوه إلاّ المصطفى الّذي سيأخذ بيده، ليخرجه من عزلته ومعا سيبنيان عالما جميلا يحسن العيش فيه.
– مقابل هذه الشّخصيّات تطالعنا شخصيّة ” شهاب الدّين” وشخصيّة ” ياسين” وهما شخصيّتان سلبيّتان، تشيران بطرف خفيّ، إلى تسلّط من ينصّبون أنفسهم قيّمين على المعرفة الدّينيّة، وهم في الحقيقة، لم يتجاوزوا قشورها، وخير تعليق على هاتين الشّخصيّتين، ما جاء على لسان مصطفى في معرض التّحدّي لهما:
” أعرف تمام المعرفة، من ينصّبون أنفسهم وكلاء لكلّ شيء، بيني وبينهم قصص لا تنتهي… لا أعرف لماذا تقفز إلى خاطري الآن مقولة بليغة، طالما ردّدها على مسامعي رجل تقيّ، عزّ عليّ فراقه، كان يقول لي على الدّوام: نصف طبيب يفقدك صحّتك، ونصف إمام يفقدك إيمانك”.
كنت أرغب في نهاية هذه العجالة، ألاّ أتطرّق إلى نقصين في هذا العمل، أوّلهما يتعلّق في كتابة الهمزة، خاصّة وسط الكلام، فقد وردت أخطاء لا يمكن ردّها إلى خطأ مطبعيّ، وقد تجاوز عددها العشرين خطأ.
ويظهر النّقص الثّاني في خلل منطقيّ وقع فيه الكاتب عندما أشار بداية، في صفحة 9 إلى اللّحظة الّتي فارق فيها عالما لم يتحسّر عليه كثيرا، يتذكّر الوجه الأخير الّذي رآه قبل رحيله، وبين قوله في صفحة 21 من خلال قول السّجّان: لم تر وجهي أو تلحظ شيئا من ملامحي طوال تلك السّنين، قد تظنّ في قرارة نفسك بأنّني شبح لا وجود له” وهو ما تأكّد كذلك من صفحة 119 :” فوجوه الجلاّدين كانت تستتر على الدّوام خلف قناع أسود يخفي الملامح”.
لكنّها تظلّ رواية تحفّز ذكاء القارئ، وتحثّه إلى فعل يتعدّى مجرّد القراءة.
د. صفا فرحات
(مداخلة الدّكتور صفا رجا فرحات، في أمسية إشهار رواية منفى الياسمين في نادي حيفا الثقافي 19-7-2018)