“صفقة القرن” .. في المصطلح والاستهداف والمهمات الوطنية
تاريخ النشر: 24/07/18 | 15:53رغم ان الكثير من القادة والسياسيين والمفكرين والباحثين من صناع الراي في عالمنا العربي يستخدمون مصطلح “صفقة” في تعاطيهم مع المسعى الامريكي الهادف الى التوصل لاتفاق ينهي حالة الحرب بين العرب والفلسطينيين واسرائيل، وهو في حقيقته ليس سوى مشروع سياسي يتطابق في جميع عناوينه مع الرؤية الاسرائيلية للتسوية، غير ان هذا الاستخدام لا يعكس، بالضرورة، المعنى العلمي والقانوني للمصطلح كالذي يستخدم مثلا في القانون التجاري باعتباره حالة قانونية تعني طرفين او اكثر انجزا اتفاقا تجاريا، بعض النظر عن عدالة الصفقة، وبالتالي فان استخداماته في مجال السياسة تكاد تكون مختلفة كليا، وان استخدام مصطلح “صفقة القرن” قد يعني بنظر اصحابه انه الانجاز الاهم خلال قرن من الزمان، بغض النظر عن كيفية حدوث الصفقة وموقف اطرافها منها.
في الحقل السياسي لا زال المصطلح مبهم الاستخدام. وهو قد يحمل اكثر من معنى: فحين يربط المصطلح بالتاريخ (مثلا من عام 1917 وحتى 2017) فهو يتعمد الاشارة الى وعد بلفور، وكأن الرئيس الامريكي يمنح وعدا جديدا “لليهود” بأن يحقق لهم ما عجزت اسرائيل “الدولة” عن تحقيقه في حروبها المتعددة خلال اكثر من سبعة عقود، خاصة وان الاستخدامات السياسية للمصطلح خرجت الى العلن لأول مرة في اجواء ذكرى مرور “قرن” على وعد بلفور. وكان اول من استخدمه رئيس وزراء العدو نتن ياهو في 3 شباط 2017 عندما زار الولايات المتحدة ليستحصل على دعم مباشر من الرئيس الامريكي بعد تسلمه لمهامه. وكانت الادارة الامريكية الجديدة قد سبقت كلام نتن ياهو عن الصفقة باعلان موقف لافت من الاستيطان منتقدة الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما على السماح بتمرير قرار في مجلس الامن يدين الاستيطان في الاراضي الفلسطينية المحتلة (القرار رقم 2334 بتاريخ 23 كانون اول 2016)، ومتعهدة بعدم ادانة اسرائيل مرة جديدة في مجلس الامن. هذا الموقف تمت ترجمته بدعم فعلي من الرئيس الامريكي لاسرائيل حين خاطب نتن ياهو بقوله: “سنتوصل الى صفقة هى الأفضل ولن يفهمها الآن حتى الأشخاص المتواجدين في البيت الابيض”. ثم عاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليستخدم المصطلح مرة اخرى في نيسان 2017 بعد لقاءه الرئيس الامريكي للاشارة الى ان هناك صفقة يجري الاعداد لها امريكيا لانهاء الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين..
وقد يعني المصطلح مدلولا زمانيا مختلفا للمقارنة بين زمنين، زمن مضى لم تتمكن الادارة الامريكية تحقيق اي اختراق سواء على مستوى الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي او على مستوى قضايا عالمية كبرى. وزمن راهن يعتقد ترامب، ومن معه من متطرفي الادارة الامريكية، ان الوضع الدولي مهيأ لتحقيق انجاز امريكي، ترامبي وعالمي، خاصة حين تطرح الصفقة الى جانب قضايا عالمية هامة وحيوية بالنسبة للولايات المتحدة، كالملف النووي الايراني والملف الكوري الشمالي والعلاقات التجارية والسياسية مع عدد من البلدان. لذلك تصنف الصفقة، امريكيا، باعتبارها اهم حدث عالمي في عصرنا الحالي، وهي “صفقة العصر”، رغم ان الكثير من السياسيين الامريكيين لا يتفقون مع هذا التوصيف ويعتبرون ان هناك قضايا كبرى على مستوى العالم اكثر اولوية من مسألة الصراع العربي والفلسطيني الاسرائيلي، بل ان سياسيين ودبلوماسيين امريكيين وغربيين وعربا يشككون اصلا في قدرة الولايات المتحدة على تحقيق اتفاق سلام متوازن بين اطراف الصراع نظرا للانحياز الكامل الى جانب اسرائيل ومواقفها ما يفقد الولايات المتحدة اهليتها لطرح حلول سياسية تحتاج الى دراية ومعرفة بكل تفاصيل الصراع..
على هذه الخلفية، فالصفقة عند الرئيس الامريكي لا تمليها الوقائع السياسية والقانونية او دوافع مختلفة لاطراف هذه الصفقة ولشعوب المنطقة ورغبتها في الوصول الى “سلام”، بل احاسيس داخلية، كما ذكر الرئيس نفسه خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون، بأنه “صانع صفقات… وان لديه قدرة باحساسه الداخلي على معرفة ما اذا كان شخص ما يريد الصفقة ام لا”. الامر الذي يؤكد طغيان “الانا” على جميع تصرفات الرئيس السياسية واصراره على تمرير الصفقة بغض النظر عن النتائج التي قد تفرزها امكانية تطبيقها رغبة عن اطرافها الاساسيين.. خاصة وان طرح “الصفقة” جاء مترافقا مع سياسة غطرسة وتحدي مثلها الرئيس نفسه وبعض معاونيه، كالسيدة نيكي هايلي مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة التي اعلنت موقفها العدائي من الشعب الفلسطيني بشكل صريح. كما ترافق الطرح مع اجراءات ميدانية تشكل بالنسبة لأحد اطراف الصفقة عدوانا عليه وعلى حقوقه، وهو ما يفسر موافقة البعض على الصفقة سرا ورفضها علنا..
لهذا السبب، ربما، ولغيره من الاسباب المتعلقة، بعدم نضج بعض الظروف لاعلانها، نجد الحرص الشديد على السرية واحاطة كل ما يتعلق بالصفقة بجدار فولاذي، الامر الذي يطلق العنان لمخيلة الباحثين والسياسيين في تحديد العناصر الاساسية لهذه الصفقة. وهذا ما يحدث بالضبط في اطار التعاملات المالية والتجارية مع الصفقات الهامة والكبرى، التي دائما ما تبقى طي الكتمان حتى تكتمل عناصرها بحيث لا يعرف تفاصيلها الا المقربين جدا من طرفي الصفقة.. لذلك لا غرابة بان السرية تطال ايضا موظفين كبار في البيت الابيض وفي وزارة الخارجية الامريكية التي عادة ما تتولى تزويد الرأي العام بمعطيات عن السياسة الامريكية واتجاهاتها. ومن يتولى اليوم امر صناعة الصفقة والترويج لها هو صهر الرئيس جاريد كوشنير ومساعده جيسون جرينبلات اللذين لم يسبق لهما وان دخلا غمار المناورات السياسية من قبل. ولنا ان نتخيل حجم المغامرة التي تغيب عنها الخبرة والدراية السياسية والنتائج التي يمكن ان تتسبب بها مثل هذه السياسة. ولعل التفسير الوحيد لتكليف “هواة” في صياغة وصنع حلول لواحدة من اعقد قضايا الصراع في العالم هو ان هذه الصفقة ترسم خلف الكواليس من مؤسسات وهيئات واشخاص على علاقة جيدة ووثيقة مع داعمي اسرائيل في الولايات المتحدة..
وبشكل عام، فابرام اي صفقة يتطلب شخصين او اكثر لانجاحها ولا يمكن لشخص او طرف واحد ابرامها بمفرده كما يفعل الامريكيون الذين يخاطبون الفلسطينيين بقولهم: ” لن نطلب رضى او قبول الفلسطينيين بما نعمل، اذا كنتم ترغبون الانضمام الينا فافعلوا واذا كنتم لا ترغبون فلن نطلب رضاكم. وسنعلن الصفقة حتى لو غاب الفلسطينيون”. مثل هذا الكلام يتناقض حتى مع مفاهيم العمل التجاري الذي يفترض قبول طرفين قبولا صريحا للتوصل الى اتفاق، والا بطل الاتفاق واصبح عرضة للبطلان بدعوى الغبن الواقع على احد اطرافه..
فأي منطق هذا حين تتعاطى دولة كبرى، وديمقراطية، مع واحدة من اعقد قضايا الصراع في العالم بهذه الخفة! بل ان تعاطي الادارة الامريكية مع الفلسطينيين بمنطق القوة والضغط يطرح امام الشعب الفلسطيني امكانية الغاء اي اتفاق مستقبلي تحت عنوان عدم موافقته الصريحة باعتباره احد اهم اطراف الصراع. والتاريخ يحفل بعشرات النماذج لاتفاقات دولية الغيت من اصحابها نتيجة اما وجود عوار قانوني داخلها افضى الى الغائها او انها وقعت تحت التهديد او غير ذلك من اسباب تعطي للدولة الحق في الغائها. وهذا ما تقر به على كل حال اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (22 أيار 1969) في مادتها الثانية والخمسين التي قالت ان ” المعاهدة تكون باطلة إذا تم التوصل إلى عقدها بطريق التهديد أو استخدام القوة بصورة مخالفة لمبادئ القانون الدولي..”. ولعل هذا ما يحصل اليوم مع العرب والفلسطينيين، وليس بالضرورة ان يقصد بالقوة القوة العسكرية، بل ربما الاقتصادية واستخدام سياسة الابتزاز المالي والتجويع الجماعي التي قد تعني بصورة او اخرى جريمة حرب..
عناوين الصفقة
تحفل الصحافة العربية والغربية بمصطلحات “صفقة القرن” او “صفقة العصر”، دون معرفة تفاصيلها واطرافها وتوقيتها. ويجتهد كثيرون في محاولة اقتحام السور الذي يحيط بهذه الصفقة بشكل متعمد. وقد تمكن بعضهم من التعرف على بعض عناوين هذه الاحجية، اما بحكم قربهم من دوائر القرار لاطراف الصفقة او من خلال متابعة المواقف الرسمية التي تصدر بين الحين والآخر عن مسؤولين ذات علاقة مباشرة بما يحدث. وعلى هذا يمكن فكفكة بعض احجية هذه الصفقة وحل رموزها ورصد عناصرها الاساسية على الشكل التالي:
جغرافيا: اقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على الاراضي التي جاء ذكرها في اتفاق اوسلو واعطاء مرونة في تعديل بعض البنود لجهة توسيع نطاق السيطرة الامنية بالنسبة للسطة الفلسطينية وتحديدا بعض مناطق (أ) بما لا يتعارض مع الهواجس الامنية بالنسبة لاسرائيل التي ستقتطع الجزء الاكبر من مناطق (ج) وتضمها اليها بشكل رسمي في اطار عملية تبادل اراضي ثلاثية..
العاصمة الفلسطينية: نقطة البداية في نقاش هذه المسألة هو الاعتراف بالقرار الامريكي الذي هدف الى فرض امر واقع على الجميع واعتبار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل سقفا لأي عملية تفاوضية مستقبلية، وبالتالي حسم امر المدينة واخرجها من دائرة اعتبارها قضية تفاوضية بين الفلسطينيين واسرائيل، ويصبح الخيار المطروح امام الفلسطينيين هو اختيار مكان في او بجوار القدس واعلانه عاصمة للدولة الفلسطينية، مع امكانية وضع نظام خاص يعترف بحقوق دينية للمسلمين في مدينة القدس..
اقتصاديا: انشاء صندوق مالي، تترواح موازنته بين 20 و 100 مليار دولار امريكي تساهم به اكثر من خمسين دولة ويخصص لإنشاء مشاريع تنموية وشبكات بنى تحتية وطرق سريعة تربط اسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية والاردن ومصر ودول الخليج بعضها ببعض اضافة الى مناطق تجارية تستفيد منها دول عدة كالاردن ومصر وانشاء مطار وميناء بحري في قطاع غزه لا زالت صيغ ادارتهما غامضة..
تبادل الاراضي: التعاطي مع المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية وعددها حوالي (425) مستوطنة وبؤرة استيطانية يقيم فيها نحو (800) الف مستوطن وتستحوذ على حوالي 42 بالمائة من مساحة الضفة الغربية باعتبارها امر واقع لا يمكن تغييره. وتعمل اسرائيل على ضم حوالي ثلثي مساحة مناطق (ج) اليها، وهي التي تضم نحو 87 بالمائة من الموارد الطبيعية للضفة و 90 بالمائة من غاباتها و 50 بالمائة من طرقها..
بالمقابل يمنح الفلسطينيون اراض بديلة بعد تجهيزها، والمقترح هنا هو تخصيص جزء من مساحة شمال سيناء وضمها لقطاع غزه وللدولة الفلسطينية، والسيناريوهات تقول ان النسبة بين 700 و 1000 كلم متر مربع، بالمقابل يتم تعويض مصر بمساحات من اراضي منطقة النقب الصحراوية، مع امكانية اعطاء مصر حوافز مالية واشرافية على بعض المشاريع الاقتصادية التي يمكن اطلاقها..
اللاجئون: بات واضحا ان الحلول المقترحة لقضية اللاجئين الفلسطينيين تتجاوز المرجعيات القانونية وتعتمد على ما يسمى “حلول الامر الواقع” عبر السعي لالغاء المرتكزات السياسية والقانونية والاقتصادية التي تستند عليها قضية اللاجئين، ومن ضمنها استهداف واضح لوكالة الغوث عبر ابتزازها ماليا والضغط على موازنتها العامة بقطع المساهمات المالية الامريكية عنها، الامر الذي تسبب بعجز مالي بلغ نحو (300) مليون دولار انعكس على خدمات وكالة الغوث التي يستفيد منها نحو (6) ملايين لاجئ فلسطيني موزعين في لبنان، سوريا، الاردن، الضفة الغربية وقطاع غزه. ..
“حلول الامر الواقع” تفترض ان على الفلسطينيين ان يتجاوبوا مع المقترحات الواقعية للحل وان يعترفوا باستحالة تطبيق حق العودة، وبالتالي يصبح الحل “الواقعي”، من وجهة النظر الامريكية الاسرائيلية، هو توطين الفلسطينيين في الدول العربية وفي بعض المناطق التي قد تضم لاراضي الدولة الفلسطينية. لذلك يفرد الامريكيون دورا متقدما يمكن للاردن ان يلعبه، خاصة انه يحتضن العدد الاكبر من اللاجئين الفلسطينيين. وبعض السيناريوهات تتحدث عن امكانية عودة العمل بصيغة الارتباط الاداري والقانوني مع الضفة الغربية والذي تم الغاؤه في تموز عام 1988 على خلفية النتائج الايجابية التي افرزتها الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987..
التطبيع: التوصل الى اتفاق عام بين الفلسطينيين واسرائيل من جهة وبعض الدول العربية واسرائيل من جهة ثانية يجب ان يقترن باعلان انتهاء حالة الحرب المعلنة قانونيا منذ العام 1967، باستثناء مصر والاردن اللتين انهتا حالة الحرب مع اسرائيل وفقا لاتفاقيتي كامب ديفيد (1978) ووادي عربة (1994).
لذلك فان الخطوة التالية لانهاء حالة الحرب هي فتح ابواب الدول العربية امام اسرائيل واقامة علاقات طبيعية معها قد تكون ابعد من حالة التطبيع بمفاهيمها القديمة، إذ ان المطروح امريكا هو انشاء حلف سياسي وعسكري اسرائيلي عربي في مواجهة “الخطر الفارسي” الذي تشكله ايران.. ومن هذا المدخل بدأت الادارة الامريكية منذ الآن اعتماد سياسة الابتزاز المالي مع دول الخليج العربي تحت عناوين الدفاع عنها في وجه تدخلات ايران، الشيعية، ضد الدول العربية، السنية، وهذا ما سعت اليه اسرائيل منذ قيامها في العام (1948) باغراق العالم العربي بحروب وصراعات طائفية ومذهبية خدمة لهدفين: استنفاذ وتدمير القوى العربية في حروب لا جدوى منها واعتبارها بديلا عن الصراع الاساسي مع اسرائيل، والثاني تبرير وجود اسرائيل “كدولة يهودية” من حقها ان تعيش بسلام في محيط غير ديمقراطي يهدد دائما بتدميرها..
اذا رغم الغموض السائد حول بنود صيغ “صفقة القرن”، الا ان هناك قضايا تشكل جزءا محوريا واساسيا من الصفقة باتت معالمها واضحة كقضايا القدس واللاجئين والاستيطان والتطبيع. والوقائع الحالية لا تشير الى امكانية فلسطينية وعربية قادرة على احداث تغيير معين في الموقف الامريكي من هذه القضايا.. وحتى لو كانت “الصفقة” لم تطرح بعد كمشروع متكامل، والارجح انها لن تعلن كوثيقة متكاملة ببنود وملاحق، لكنها موجودة كمشروع عام يتم تسريب بعض عناوينه بشكل متدرج ومقصود، وبعض عناوينه الرئيسية هي بالتأكيد اصبحت موجودة لدى بعض ادوات الادارة الامريكية ويتم تقديمها الى الاطراف المعنية بالتقسيط وكل حسب علاقته بهذا المشروع..
ما المطلوب وطنيا؟
مهما تباينت الآراء حول بنود “صفقة القرن” والمدى الذي يمكن ان تصله، الا ان القاسم المشترك بين كل ما قدم حتى الآن انها صفقة تستهدف الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن المسميات التي تطرحها بهدف التخفيف من خطورتها. كما تستهدف الشعوب العربية في اكثر من قضية، ليس التطبيع اخطرها، ما يجعل من الترابط بين القضية الفلسطينية وعمقها العربي امرا واضحا ينبغي البناء عليه بمهمات مشتركة فلسطينية وعربية..
فعلى المستوى الفلسطيني لم يعد مجديا الاستمرار في انتهاج سياسات واستراتيجيات مضى عليها اكثر من ربع قرن دون ان تتمكن من تحقيق الحد الادنى من طموحات الشعب الفلسطيني، بل على العكس من ذلك. فالمشهد الفلسطيني الحالي يكاد يتشابه مع المشهد الذي كان سائدا قبيل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لجهة غياب الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة التي ينبغي ان تشكل حاضنة لكل مكونات الشعب الفلسطيني، في ظل حالات احباط تعيشها التجمعات الفلسطينية على مختلف المستويات ما ادى الى اتساع الفجوة ما بين القيادات السياسية وبين الحالة الجماهيرية المتقدمة والمفتقدة لمرجعية وطنية تقود نضالها وتدافع عن مصالحها..
ان استعراض هموم ومشكلات التجمعات الفلسطينية المختلفة، من غزة الى لبنان وسوريا والضفة، مضافا اليها تداعيات الانقسام الفلسطيني ومعاناة الاسرى وغيرها من القضايا والهموم الضاغطة تفرض على قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية نظرة اكثر شمولية في التعاطي مع واقع هذه التجمعات، خاصة وان بعضها عرضة لمخاطر وطنية كبرى تتخطى الوقائع الجغرافية لتطال المشروع الوطني برمته ..
وفي المقابل فالحركة الوطنية الفلسطينية تعيش ازمة فعلية نتيجة عدم قدرتها على مجاراة التغييرات الحاصلة من حولها سواء على المستوى الداخلي او لجهة مواجهة ما تتعرض له الارض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس من تصاعد عمليات الاستيطان والتهويد ومواصلة عمليات القتل والاعتقال، مضافا اليها الواقع الاقتصادي الصعب نتيجة القيود التي كرستها اتفاقية باريس الاقتصادية لجهة التبعية للاقتصاد الاسرائيلي وتداعيات التنسيق الامني مع الاحتلال.. كل هذا يؤشر الى ضرورة انتهاج سياسة هجومية تتصادم مع السياسة الاسرائيلية وتهيئ الاجواء الداخلية لانتفاضة ومقاومة شعبية قادرة على تعديل موازين القوى المختل لصالح العدو.. واعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني عبر نفض غبار اوسلو عنه واعادة احياء الهيئات والمؤسسات الوطنية خاصة منظمة التحرير الفلسطينية باعادة احياء وتفعيل دوائرها المختلفة التي كانت يوما ما اشبه بخلية نحل لجهة العمل الوطني المنتج الذي كان يزود القيادة السياسية بمعطيات تفصيلية تساعد في صياغة القرار الوطني الذي يجب ان يكون عصارة شراكة وطنية في كل ما له علاقة بحاضر ومستقبل القضية الفلسطينية..
على المستوى العربي وطالما ان الصفقة الامريكية ليست معزولة عن المشروع الأمريكي في المنطقة والترتيبات التي يجري الاعداد لها في اطار الترتيبات الإقليمية بشكل عام وعلى مستوى كل قطر بشكل خاص، فان “صفقة القرن” تعطي الحركة الشعبية العربية فرصة اعادة الاعتبار لدورها الوطني والقومي والتقدم الى الامام بصوت عال وبتحركات شعبية تتصادم مع افرازات وتداعيات هذه الصفقة في اوطانها.. وهذا ما يضع جميع مكونات الحالة الشعبية العربية بمختلف تشكيلاتها الحزبية والاجتماعية والثقافية والفكرية ومؤسسات المجتمع المدني ومختلف الأطر واللجان الاهلية امام مسؤولياتها التاريخية.. إذ ليس من المنطقي ان تكون مهمة المقاطعة في الدول الأوروبية في نهوض متصاعد فيما هي غائبة واحيانا منعدمة في الدول العربية وكأن ما يحدث في فلسطين والمنطقة امر لا يعنيها.
ان هذه الحالة مطالبة بالاستجابة لمهمتين؛ اولهما مواجهة عمليات التطبيع بمختلف اشكاله. وثانيهما مقاطعة المنتوجات والشركات الامريكية والمؤسسات التي تدعم النشاطات الاستيطانية في فلسطين.. والنجاح في هاتين المهمتين يسهم بشكل مباشر في افشال احدى عناوين “صفقة القرن” في شقها الإقليمي.. وهو ايضا دعم مباشر للشعب الفلسطيني الذي يعول كثيرا على حركة الشارع العربي، وبما يبعث برسالة قوية ان الشعب الفلسطيني ليس وحده في ميادين المواجهة..
لذلك ندعو الى وضع هذه المهمة على جدول اعمال جميع الهيئات والتيارات الشعبية العربية المعنية باعتبارها مسألة ذات أهمية في سياق ليس فقط الدفاع عن الشعب الفلسطيني بل وعن الشعوب العربية المهددة بأرضها وسيادتها وثرواتها..
فتحي كليب
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين