أوصال من الغربة .!
تاريخ النشر: 24/07/18 | 16:35في النرويج ..
هناك التقيت بخالي ..
أمي قبل أن تموت , أوصت وصيَّتها الأخيرة ..
” لا تتوقف عن البحث عن خالك .! ” .
وخالي هذا , التي تطلب مني أمي البحث عنه , إذا ما زال على قيد الحياة , فقد طوى المئة عام بمراحل .!
وكان أخر من تركها من أهلها .. تركها بعد ان لم تبق معه رصاصة واحدة ..
“فصُّ ملح وذاب .!” كانت تقول من بين ملح دموعها , التي تسيل مدراراً , كلما تذكرته ..
وآخر مرة رأته فيها , كان في آخر أيام النكبة ..
دخل علي َّ وبكى ..
قضيت طفولتي وشبابي معه في الكفرين , قبل أن أتزوج وأنتقل الى دار زوجي .. هنا في عرعرة .. ولم أره يبكي أبداً ..!
بكى وأبكاني معه ..
الكفرين .. الكفرين راحت يا أختي .. ! الكفرين ضاعت وضعنا معها يا أختي ..!
فاطمه وين .!؟ ” سألته ..
دفنتها هناك .. في مقبرة البلد ..
فزعق وهو يلطم مثل النسوان : ” طخّوها , قتلوها اليهود .!” .
طلق أصابها , عندما خرجت من الطابون .!
ماتت بين يدّي , وهي تقول : ” لبلاد يا سالم .! الكفرين يا سالم.!”.
وأنا أتوسَّل لها أن لا تتركني لوحدي ..
والله هواتين في الراس بوجعوا يا أختي ..
تركت دمها على تراب ساحة الدار .. ودفنتها في المقبرة , والرصاص يزمر فوق راسي .ّ
كانت تخرج الكلمات من جوفه , كأنها فتات .. من جمر منفوش , يرافقها نشيج مقتول ..
ناولني صرّة فيها بعض الأشياء , وقبل أن يغادر سألته :
” لوين وجهتك ..!”
فأجاب ووجهه , مثل رغيف الطابون المحروق :
” ألم يقولوا .. بلاد الله وسيعة ..يا أختي .!” فغادر , ولم أره بعد ذلك .
والذي أعاد ليوصل ما انقطع من سيرة خالي .. ما حدث لنا في أوسلو عاصمة النرويج ..
جلست , انا وزوجتي, على مقعد , في إحدى حدائقها العامة ,
وإذا بزوجتي تنبهني ان هناك شاب , يجلس على مقعد مقابل لنا
, يحدِّق بنا منذ زمن طويل .. ولا يرفع عينيه عنا . . يبدو ان تحجبّي أثار فضوله .!
قمت من مكاني وتقدمت منه , وجلست على مقعده ,قاصداَ التحدث
معه , ومعرفة سبب تحديقه فينا ..
لكنه سبقني , وقال بلكنة عربية ثقيلة : ” أنتم عرب ..!؟ ”
وقبل أن أجيبه أكمل : ” وأنا عربي فلسطيني .. أنا من بلد اسمها الكفرين..!” .
فأصبت بذهول شديد ..
الكفرين ..!؟ صحت من بين موجات ذهول ..
“جدّي أصله من هناك .!” .. أكمل ليخفّف من صدمتي ..
الكفرين تلاحقني حتى القطب الشمالي .. !
قلت في نفسي , وانا أتخبط في دهشتي ..
وجلسنا نتحدّث .. وقلت له أنك بمثابة خالي ..فلم يفهمها ..!
حدَّثته عن بلادنا .. عن الكرمل والروحة والجليل .. ولم بدأت بالحديث عن الكفرين أوقفني ..
كان يعرف موقعها , عدد بيوتها وسكانها , وديانها وآبارها , مدرستها , مزروعاتها ..كلَّ شيئ عنها ..
مِلْت الى زوجتي وهمست في أذنها , في غفلة منه : هذا الولد سيقتلني .!
وقال متابعاً حديثه :
“أتردَّد على هذه الحديقة كثيراً .. لعلّي التقي بأحد يزودّني بمعلومات حول الصّرة .!”
” أية صرًّة .!” سألته بدهشة ..
” صرَّة جدِّي التي تركها أمانة , عند عائلة تربطنا صلة قرابة بهم..” أجاب كأنه يتكلَّم عن شيئاً اعتيادياً ..
عندما وقعت على أسماعي هذه الكلمات , غامت بيَّ الدنيا ومالت , وشعرت أنّي على وشك الوقوع أرضاً , فتشبثت بالمقعد الذي نجلس عليه ..
” إنَّها صرَّة خالي , التي تركها عند أمّي , قبل رحيله بعد النكبة .!!
وافترقنا ..
وتبادلنا العناوين ..وأرقام الهواتف ..
وأخبرناه أن الصرة , موجودة في أمان عندنا , وسنرسلها له بالبريد فور عودتنا الى البلاد ..
وعندما فتحنا الصرًّة .. وجدنا فيها :
كوشان الأرض وصورة قديمة للكفرين ومفتاح البيت ,ومحبس زواج ..
وأرسلنا الصُّرة الى عنوان الشاب , في النرويح ..
وبعد شهر أو يزيد , وصلتنا رزمة بريدية ..
كانت منه .. من خالنا النرويجي ..
وعندما فتحناها صدمت أنظارلنا ,وذهلت عقولنا .!
كانت نفس الصرّة .!
بكلِّ محتوياتها ..!
الكوشان والصورة والمفتاح والمحبس ..
ولكن كان فيها شيئ جديد ..
كان فيا ورقة مكتوب فيها :
“لقد صوّرت محتويات الصرَّة , وها أنا أرجعها إليكم في هذه الرّزمة البريدية المسجَّلة ..
لا أريد لها أن تعيش مثلّي في مرّارة الغربة .!!” .
يوسف جمّال – عرعرة