الوطن للأغنياء والوطنيّة للفقراء

تاريخ النشر: 29/07/18 | 6:09

قرأت في حينه كتاب “من مروج الجليل – مذكرات طبيب من الناصرة” لطيّب الذكرِ المرحوم الدكتور الياس سليم سروجي الذي تحدّثَ فيه عن الدورِ الثقافيِّ للمجلسِ الملّي الارثوذكسي في عهدَ الانتدابِ لفلسطين وفي ذلك الأسبوعِ التقيتُ ورفيقي القارئَ ظافر شربجي مع زميلي المحامي الحيفاويّ فؤاد نقارة في باحةِ مسجدِ الجرينِةِ الحيفاويّ، حيث شاركنا في جنازةِ المرحومةِ سَروينازْ ايراني – دقة (30.11.2011) فحدّثتُه عن الكتابِ وسألتُه مستفِزًّا: “وينكمْ” فلم يكذّبْ خبرًا وبادرَ لدعوةٍ تشاوريّةٍ تأسيسيّةٍ نتاجُها تأسيسُ نادي حيفا الثقافي في الحادي عشر من شهر شباط عام 2012، وضمن نشاطاته قراءة ومناقشة كتاب في الشهر وفي يوم 15.05.2018 تناولنا الكتاب السابع والخمسين وكان رواية أفرهول للكاتب زياد أحمد محافظة (دار فضاءات الأردنيّة، 215 صفحة، صدر له عدّة روايات: “بالأمس.. كنت هناك”، “يوم خذلتني الفراشات”، “نزلاء العتمة”، “أنا وجَدّي وأفيرام”، “حيث يسكن الجنرال” ومجموعة قصصيّة بعنوان “أبي لا يجيد حراسة القصور”).
تحمل الرواية عنوانًا ساخرًا سوداويًا جريئًا، فهو يرى الوضع خربانًا ومهترئًا ويلزمه كثير من الإصلاح، “البلد خربانة.. شو بدّك تصلّح تا تصلّح”، قلق على الوضع ولكنّه متفائل ويأمل بتصليحه وتغييره، يرى الفساد والفوضى والقشور ومن يدفع الثمن هو الإنسان العاديّ والبسيط، يُكبَت ويُستغَلّ باسم الدين والوطن، ومن ينتفع هم طبقة صغيرة جدًا. أعادتني قراءة الرواية ثانيةً للوحة تشكيليّة خطّية على حائط مكتبي، هديّة صديقي الفنّان التشكيليّ ظافر شوربجي، لتداعيات صار لها معنًى آخر، اللوحة بعنوان “الوطن للأغنياء والوطنيّة للفقراء”.
من خلال قراءئي لروايات من شتّى أرجاء الوطن العربيّ فوجئت بأن الموتيف المركزيّ في العشرات منها يتمحور في حلم الهجرة من البلد. هجرة داخليّة … هجرة خارجيّة… في النهاية الأمر سيّان حين يهجر الإنسان المكان؟ هل هذا فعلًا هو وضعنا؟
وها هو مازن الإمبريالي، بطل الرواية، يعود من غربته بعد ربع قرن، لتجمعه الصدفة برفاق طفولته وزملاء الدراسة، لم يرغب في بعث صداقات الماضي، فصُدم لأنّ تلك السنين لم تغيّر في طباعهم شيئًا، مواضيع حديثهم نفسها، أحلامهم مكرّرة واهتماماتهم بقيت هناك، وكأنّه لم يفارقهم كلّ تلك السنين…يقول: “ليس الأمر مدعاة للدهشة، بل على نحو محيّر، لم يتغيّر على معظم من تركتهم ورائي سنوات طويلة الشيء الكثير! فاجأني هذا. أيُعقل أن تمرّ كلّ تلك الأيام على الواحد منّا دون أن تحدث في حياته لأي تغيير يذكر؟ ألهذا الحدّ يمكن أن يكون المرء محايدًا في علاقته بالحياة!” (ص.7)، وكأنّهم خارج الجاذبيّة، يجترّون الأيّام ذاتها ويكرّرون الأحلام.
صادمٌ أن ترى الجميع يشعر بالغربة داخل الوطن، ولا يشعر بالانتماء له، يحلم بالغربة ولا حديث ولا حلم لديه سواه، فكلّ يشعر بفقدان الهويّة والخصوصيّة، الوطن حاضر غائب، مهدّم يحتاج “أفرهول”، والناس تعيش المرارة والوهم الأزليّ الدائم، يضيف مازن: “لا يعنني هنا تلك التفاصيل الكلاسيكيّة التي ترتّبها لنا الحياة بطريقتها الخاصة وتقودنا إليها في مرات كثيرة؛ كالزواج أو العمل أو الإنجاب، بقدر تلك الانعطافات التي يمكن أن تحدث فرقًا حقيقيًا في حياة الواحد منا؛ قدرتنا على تليين الحاضر وتطويعه، اكتشاف المخبوء في أعماقنا، مواجهة المخاوف والتحوط لها، تجاوز تلك الخسارات التي تنهش من كل اتجاه، وسعي الواحد منا لكشف شيء من المآلات الغامضة التي يمكن أن يصلها رغمًا عن إرادته. هذا ربما بعض ما كنت أعنيه”.
تناول الكاتب بجرأة حالة الفساد، الفوضى والأزمة التي يمرّ بها البلد، ويدفع ثمنها المواطن البسيط، هو الضحيّة والخاسر دومًا.
أسلوب الكاتب مشوّق، فقد نجح برسم شخصيّاته، على علّاتها، دون رتوش فجاءت انسيابية تجعل القارئ يتماهى معها، يواكبها على مراحلها، بمجهريّة أنتروبولوجيّة ثاقبة وفاضحة كمتفرّج جرّب نمط حياة آخر في الغربة، فيصوّر حيواتها واهتماماتها دون التدخّل بمستقبلها ورسمه، حياة وواقع البسطاء العادييّن، وكأنّ كلّ منهم ينظر لصورته بالمرآة، كلّ منهم يحكي روايته بلسانه هو.

لبطل الرواية علاقات متشعبّة، تسبّب له المشاكل وتأتي عليه بالمصائب ليواجهها لوحده، يتخبّط بها ومعها ليثير تساؤلات وجوديّة مع النهايات المفتوحة لتحفّز القارئ على إيجاد الحلول التي تناسبه.

لداعش وللحركات المتعصّبة الظلاميّة والتكفيريّة حضور بين عمان ونيويورك وأماكن نفوذها التي تمتد خيوطها إلى أماكن متشعّبة.

مَن يعيش في المنفى والغربة يرى الأشياء بمنظار آخر، أشياء يراها من هناك ولا نراها من هنا، يتابع كلّ صغيرة وكبيرة للمشهد الإجتماعيّ، السياسيّ والاقتصاديّ، وبما أنّه متفرّج “حياديّ” فبإمكانه تصويرها بحذافيرها ورصد التغييرات من الخارج كمتفرّج وشهادته غير مجروحة لأنّه لا يعيش الأمور، وتحليلها و”ما بتروح عليه شاردة ولا واردة”.

يصوّر الكاتب حياة المقاهي الثقافيّة التي بدأت تنتشر في العالم العربيّ، مستوردة من الغرب، كما عهدناها في مقهى الأمبريالي في عمّان، الدارة النصراويّة، راية الحيفاويّة… وفتّوش.

لغة الكاتب غنيّة سلسة، متبّلة بالعاميّة أحيانًا ومشوّقة، ولكن هناك الكثير من الأخطاء اللغويّة، حبّذا لو تفاداها.

سمعت صوت غسان كنفاني في “رجال في الشمس”، يقرع الخزّان: “ما تبقى لكم.. ما الذي تبقى لكم؟ اقرعوا جدران الخزّان. اقرعوا جدرانَ الخزّان، لم يعد أمامكم سوى إتمام رسالتكم انتم على وشك الانتهاء من رحلة الألف ميل!

المحامي حسن عبادي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة