صُبْحي الطيّب
تاريخ النشر: 30/07/18 | 11:36في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة التي رواها خليل بن شاكر بن إبراهيم مفرج المفرجي (أبراهام بن يششكر بن أبراهام مرحيب المرحيبي، ١٩٢٢- ١٩٨٩، شاعر ومفسِّر للتوراة، نشر تفسيرا له لكل التوراة بالعبرية السامرية) بالعربية، على الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤-) الذي نقلها إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. – أخبار السامرة، العددين ١٢٢٨-١٢٢٩، ١ شباط ٢٠١٧، ص. ٣٦- ٣٧.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالَم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي (رتصون) صدقة الصباحي (الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”فقر مُدْقع
”ما بالكم تشْكون؟ إنّكم تعيشون في عصر ذهبي. وُلدتم في وقت فيه كلّ شيء. لو عرفتم أيّة أوقات مرّت علينا، لكنتم تقدّرون جيدًا ما لديكم. لا يمكن مقارنة فترتنا بفترتكم. إنّ الفقر المدقع قد قضى علينا كليا. بالكاد استطعنا تأمين لقمة العيش لنا. كنت أعود إلى البيت غير مرّة، ولا أجد ما آكله. كنا نكشط (نبحبش) في النملية علّنا نعثر على فتافيت من الخبز القديم، أو ربّما كسرة متعفّنة من كماجة. لم أقدر على الاشتكاء، عرفت أنّ لا مال عند أبي ولا يقدر على إعالة أفراد عائلته.
لدى أولاد آخرين توفّر المال؛ مثلًا صديقي راضي بن الأمين صدقة (رتصون بن بنياميم صدقه)، شفاه الله، كان في صباه يطلب ويحصل من والده على نصف غرش كل يوم. آنذاك كان هذا مالًا جمّا. به اشترى شوكولاته. ثمن الأوقية الواحدة مليمان. كان بالإمكان شراء كومة كبيرة جدًّا من الشوكولاته بنصف غرش. في أحيان كثيرة، كان هذا الغذاء اليومي الوحيد، بالنسبة لي وللكهنة عاهد (بريت) وخضر (فنحاس) وسلوم (شالوم)، رحمهم الله، ولأولاد آخرين كانوا في شلّتنا في المدرسة. من كان بوسعه أن يحلم آونتها عن الشوكولاته، في الوقت الذي لم يتوفّر فيه الخبز؟ لو لم يعطنا راضي لكنّا ذقنا الشوكولاته مرّة في السنة.
صبحي الطيّب
من هنا أصل إلى القصّة الأولى في فترة الجوع تلك. في أحد الأيّام تضايقنا كثيرًا من الجوع. ما كان في جيب أبي ولو غرش واحد لشراء الطحين. ولكن لا بدّ من تناول شيء ما. كنّا على شفا الانهيار. أبي شاكر رأى مِحنتنا، أشار إلى لجَن الطحين الخاوي الذي تعجن فيه أمّي روزا العجين عند توفّر الطحين، وقال: ”خذه إلى دكّان صبحي ستتية وأعطه إياه عَرَبونًا لكيلوغرامين من الطحين، ليكون لنا الخبز ونُنهي الجوع. قُل له، في غضون أيّام معدودة سندفع لك الثمن ونسترجع لجن الطحين. طبعًا لم أجرؤ على مخالفة أمر أبي، أضف إلى ذلك، لم تتوفّر أيّة إمكانية أخرى. أخذت اللجن وسِرت إلى دكّان صبحي ستتية. فكّرت طَوال الطريق في ما سأفعله، انقبض قلبي في داخلي من شدّة الخجل.
ما كان في جيبي حتى غرش يتيم، وكوني شابًا يافعًا، لم أتمكّن من عمل أيّ شيء لإبطال بئس المصير. سيطر علينا الفقر بدون أيّ عائق. أبي حرَص على الحفاظ على شرفه بالرغم من كل شيء وبخاصّة عدم الاحتياج لصدقة الإنسان. استقبلني صبحي ستتية عند مدخل دكّانه بـ “”أهلا وسهلا“ من القلب وبابتسامة مرحة. وسرعان ما امحّت ابتسامته عندما رآني مرتبكًا خجولا. كان يعرف جيّدًا حالتنا الصعبة، ولذلك سأني برقّة عن مبتغاي. قلت له، جئت لأشتري كيلوغرامين من الطحين ولكن لا أملك النقود لدفع الثمن، إلّا أنّ اللجن الذي أحمِله أتركه عندك عَرَبونًا ريثما نحصل على المال الكافي لدفع ثمن الطحين. هذا ما أمرني به أبي لأقوله لك، أوجزتُ، وخجلت من النظر إلى عينيه.
صبحي ستتية صاحب الدكّان لم ينبِس ببنت شفة، راح وملأ كيسًا من الورق بكيلوغرامين من الطحين وناولني إيّاه. وضعت اللجن في مدخل دكّانه وغادرت المكان على عجل وكيس الطحين الغالي ممسوك بإحكام في حضني. بينما كنت أبتعد عن الدكّان، خرج صبحي ستتية صائحًا وراءي: إرجع إلى هنا! ظننت أنّه ندم على الصفقة، وكنت مستعدًا لإعادة الطحين له عند رؤية وجهه العابس.
”تعال هنا يا خليل“، صاح صبحي ستتية، ”أنا أناديك فرُدَّ عليّ“. رجعت إلى دكّانه متثاقلا، كيف سيراني أبي بدون الطحين؟ ”قل لي، كيف ستعجِن أمّك العجين واللجن هنا“؟ سأل صبحي. تفاقم غيظ صبحي ستتية. ”إفعل ما أقوله لك، خذ الطحين واللجن، عُد إلى أبيك وقل له: صبحي ستتية زعلان كثير منك، لأنّك فكّرت في مقايضة الطحين باللجن. ها نحن جيران، والجار الطيّب ينبغي أن يساعد جاره وقت الضيق. عندما يتوفّر لديه المال يدفع لي الثمن وإلا فالعوض سيأتي من مكان آخر. هكذا الله يساعدني ويساعده. ها نحن إخوة، أبناء إبراهيم“.
وقفت مندهشًا، مترددًا، أأعمل بما نطق. العطاء المجّاني كان من أكره الأمور بالنسبة لأبي، إلا أنّ صبحي ألحّ عليّ قائلًا: عُد إلى البيت، سيدفع أبوك لي متى أراد، هذه ليست هدية، المهم، بالصحّة والعافية. ألحّ وألحّ بي إلى أن قبِلت وإلا فكنت سأخدش شرف المُحسن لنا. أخذت اللجن والطحين وقفلت راجعًا بهما إلى البيت. استغرب أبي كثيرًا وسأل ما حدث؟ لم أُخْف عنه شيئًا، القول بأنّي لم أفرح في قرارة نفسي سيكون كذبا. الجوع ضايقني جدًا كما ضايق أبي، وتخيّلنا الكماجة الساخنة التي تُخرجها أمّي بالراحة.
بعد أسبوعين دعاني أبي وسلّمني ثمن كيلوغرامي الطحين. صبحي ستتية رفض بكياسة: آلاف كلمات الشكر والامتنان التي غمرته بها وقال: هلّا نحن إخوة، أولاد أبينا إبراهيم الخليل“.
ترجمة ب. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي