ينقص الكون عندما يرحل الطيبون
تاريخ النشر: 06/08/18 | 10:51ينقص الكون عندما يرحل الطيبون
عمتي انتصار محمد طه في ذمّة الله
بالأمس، كان لي في قرية دير الأسد، الوداع الأخير مع عمتي انتصار، واحزاني عصافير معشّشة فوق رأسي بعد أن أمضت 78 عامًا كامرأة كادحة معطاءة محبة ورؤوف، فارقت زوجها وأولادها وعائلتها وقد رافقتهم عشرات السنين في السراء والضراء. لقد ماتت عمتي، وليس بعجيب أن تموت، فالناس كلهم يموتون، لكن العجيب وهي ميتة أن تعيش معنا، وقليل من الأحياء يعيشون. وخير الموت ألا يغيب المفقود.
كلّما ذهبت لأزورها، كانت تقول لي: لقد قرأ لي خالك ما كتبته في صحيفة “الاتحاد”… فقد كانت متابعة لما يكتب بالصحيفة عن طريق زوجها، المختار احمد على طه، الشيوعي العريق رفيق دربها الذي كان يكتب في نفس الصحيفة بشكل أسبوعي مقال نقدي اجتماعي وسياسي. ستون عامًا، وهي تعمل معه في الأرض والفلاحة وعند الاستراحة، تجهّز قهوتهما وتنصت لما جاء في الجريدة.
علمتنا عمّتي انتصار الإحساس بالأطفال ومشاطرتهم افراحهم واحزانهم والعيش بين الاخرين وحب الوطن ومقت اعدائه. مشوارها كان درب طويل، تكلل بالأفراح والاتراح واللحظات الجميلة والحزينة… كانت عمتي انتصار رمزا للمرأة المعطاءة المحبّة للصغار والكبار، فكان الأولاد الصغار ينادونها “تيتا ملبّسة” لأنّها كانت تعطيهم الملبّس كلّما مرّوا بجانب بيتها، وهناك من نسي اسمها الحقيقي، وأصبحوا يدلون عليها بهذا الاسم. كنتِ يا عمتي تأخذين الكون إليكِ وتُعيدينه إلينا ضحكة أو ابتسامة أو نُكتة فيصير أحلى وأحلى.
كانت عمتي تحكي لنا وتبدع في قص حكايتها علينا، وكأنّها ممثلة على خشبة المسرح، تلعب بصوتها وتثيرنا وأحيانًا أخرى تخيفنا بلغة جسدها، وما زالت تبهرني حتى هذه اللحظة على الثروة اللغوية المباحة والغير مباحة في سردها، حتى أنّني وهذه اللحظة لا أجرؤ على قص الحكايات كما كانت تحكيها عمّتي.
كانت لي حكايات كثيرة مع عمّتي لن انساها، بمنظارها الذي ينظر إلى سعادة مأواها الابتسام معطّرة بالأفراح والذكريات الجميلة، أذكرها فأُوزع الدموع بعد أن تفقص وأبيع الأحلام على تلك الأيام الحلوة. لا أحد مثلك أيتها الراحلة، فليكن ذكراك يا عمّتي مكللا بعبق الحبق.
ميسون أسدي