في ذكرى رحيله.. محمود درويش خالدٌ في فلسطين
تاريخ النشر: 12/08/18 | 14:00شهد تاريخ الشعر العربي؛ بل العالمي الكثير من الشعراء الذين تركوا ورائهم بصمة خلدت أسماؤهم للأبد، ولكن نادرًا ما تجاوزت قصائدهم حدود الشعر، لتصبح معبرة عن قضية سياسية وإنسانية في كل مكان وزمان، ومن هؤلاء محمود درويش، أحد أهم الشعراء الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن والرمزية.
يصادف اليوم التاسع من أغسطس رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش عام 2008 عن حياتنا، وبهذه المناسبة نحتفل في حياة درويش الحافلة ، وإنجازاته التي وضعت اسم فلسطين في مقدمة المحافل الدولية.
من هو محمود درويش؟
هو شاعر وكاتب فلسطيني ولد في قرية البروة الواقعة في الجليل الفلسطيني، شرق مدينة عكا عام 1941م ، قبيل حدوث النكبة بسبع سنوات، التي هاجر على أثرها قسرًا إلى قرية في الجنوب اللبناني، ثم عاد مع أسرته إلى وطنه بعد عام من هجرته ليجدو “البروة” مدمرة بالكامل، فتوجهوا إلى حيفا التي أنهى بها درويش المرحلة الثانوية، ليلتحق لاحقاً بالحزب الشيوعي “الإسرائيلي”، ثم عمل محررًا في صحافة الحزب، كما عمل كاتبًا ومحررًا في عدة صحف أخرى.
تنقله في العالم
بسبب مواقفه ونشاطاته السياسية اعتُقل درويش أكثر من مرة من قبل السلطات الإسرائيلية منذ عام 1961، وهنا بدأت رحلته في المنفى حتى سافر إلى موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي عام 1972 لإكمال دراسته، التي وصفها بقوله: “أقمت في موسكو سنة، وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي”.
انتقل بعدها إلى القاهرة عاصمة مصر، حيث قال أن الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياته الشخصية؛ في القاهرة ترسخ قرار خروجه من فلسطين وعدم عودته إليها، ولم يكن هذا القرار سهلاً، ليلتحق هناك بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح مستشاراً للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ليشرف لاحقاً على كتابة وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني، لكنه استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحريربسبب رفضه لاتفاقية أوسلو.
جزء من نص الوثيقة التي صاغها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش:
“على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ.
بالثبات الملحمي في المكان والزمان، صاغ شعب فلسطين هويته الوطنية، وارتقى بصموده في الدفاع عنها إلى مستوى المعجزة، فرغم ما أثاره سحر هذه الأرض القديمة وموقعها الحيوي على حدود التشابك بين القوى والحضارات… من مطامح ومطامع وغزوات كانت ستؤدي إلى حرمان شعبها من إمكانية تحقيق استقلاله السياسي، إلا أن ديمومة التصاق الشعب بالأرض هي التي منحت الأرض هويتها، ونفخت في الشعب روح الوطن، مطعما بسلالات الحضارة، وتعدد الثقافات، مستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني”.
مرحلة جديدة في حياة الشاعر كانت في لبنان التي أحبها وقال عنها: “حنيني إلى بيروت ما زلت أحمله حتى الآن، وعندي مرض جميل اسمه الحنين الدائم إلى بيروت، ولا أعرف ما هي أسبابه”، وأسس فيها مجلة “الكرمل” الشهيرة عام 1981، وهي مجلة ثقافية انتشرت على نطاق واسع، وكان لها تأثيرها الكبير بين المثقفين وغيرهم، كما شغل منصب رئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية، و ترأس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
غادر درويش لبنان بعد الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة بيروت عام 1982 وأصبح يتنقل ما بين دمشق وقبرص والقاهرة وتونس، وباريس التي عاش فيها نحو عشر سنوات بشكل متقطع، وقال عنها: “كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكنًا، لا أعرف؛ لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية، وإذا أردت أن أميّز شعري، فأنا أتمسك كثيراً بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها، هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء”.
عاد درويش عام 1994 إلى أرض الوطن ليقيم في رام الله، متنقلًا بينها وبين عمان من فترة إلى الأخرى، حيث كان له فيها نشاطات أدبية ملموسة، فقد كان من أعضاء الشرف في نادي أسرة القلم الثقافي الأردني.
تحدث درويش عن عودته قائلاً: “بعدما أصبح في إمكاني أن أعود إلى “جزء” من فلسطين وليس إلى “جزء” شخصي بل إلى “جزء” من وطن عام، وقفت طويلاً أمام خيار العودة، وشعرت بأن من واجبي الوطني والأخلاقي ألا أبقى في المنفى، فأنا أولًا لن أكون مرتاحًا، ثم سأتعرض إلى سهام من التجريح لا نهاية لها، ثم سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة”.
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردّد إبريل، رائحة الخبزِ
في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس ، أول
الحب، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط ناي، وخوف
الغزاة من الذكرياتْ.
على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ: نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ
الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ
سِرباً من الكائنات، هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم
باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ.
من قصيدة “على هذه الأرض”.
مؤلفات محمود درويش وشعره
بدأ كتابة الشعر في المرحلة الابتدائية وعُرف كأحد أدباء المقاومة، نشر أول مجموعة من قصائده التي تحمل اسم “أوراق الزيتون” عام 1964م، وألحقها بما يقارب الثلاثين مجموعة شعرية ونثرية ترجمت إلى أكثر من 22 لغة، بالإضافة إلى تأليفه ثمانية كتب.
بدأت انطلاقة محمود درويش كشاعر عندما اكتشفه الفيلسوف اللبناني روبير غانم وقام بنشر قصائده في الملحق الثقافي التابع لجريدة الأنوار التي كان يرأس تحريرها، ثم نشأت علاقة صداقة قوية بين درويش وعددٍ من أشهر الشعراء المعاصرين مثل نزار قباني ورعد بندر ومحمد الفيتوري وفالح الحجبة.
نشر الشاعر الراحل آخر قصائده بعنوان “أنت منذ الآن غيرك” يوم 17 يونيو/حزيران 2007، وهي التي انتقد فيها التقاتل الفلسطيني الداخلي، ومن دواوينه الشعرية “عصافير بلا أجنحة”، ،”أحبك لا أحبك”، “حبيبتي تنهض من نومها”، “أوراق الزيتون”، “أصدقائي لا تموتوا”، “عاشق من فلسطين”، و”العصافير تموت في الجليل” والكثير من الأشعار الرائعة.
رأيتك أمس في الميناء
مسافرة بلا أهل .. بلا زاد
ركضت إليك كالأيتام،
أسأل حكمة الأجداد :
لماذا تسحب البيّارة الخضراء
إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء
و تبقى رغم رحلتها
و رغم روائح الأملاح و الأشواق ،
تبقى دائما خضراء؟
و أكتب في مفكرتي:
أحبّ البرتقال. و أكره الميناء
و أردف في مفكرتي :
على الميناء
وقفت، و كانت الدنيا عيون الشتاء
و قشرة البرتقال لنا. و خلفي كانت الصحراء!
من قصيدة “عاشق من فلسطين”.
الرمزية “العبقرية” في شعر درويش
محمود درويش لم يصبح أسطورةً شعرية من الفراغ؛ بل أحدث ثورةً خلقت مفهومًا جديدًا للشعر، باستخدامه الرمز في قصائده، بعد أن استوعب مفهوم الرمز الطبيعي وتعداه، وصفه النقاد بأنه صنع قاموسًا شعريًا لم يكن من قبل، ومن هذه الرموز: الأرض، التراب، الزيتون، البرتقال، الحلم، الزمن، الفراشة، الحمام و السنديان وغيرها.
ولو قمنا بمقارنة توظيف محمود درويش لكلمة “البحر” أمام نظيرها عند المتنبي الذي يعتبر أحد أعظم شعراء التاريخ -ولكل منهم زمنه وظروفه- سنجد كيف كان درويش مرحلة انتقالية في الشعر الذي استمر لآلاف السنين.
يقول درويش في قصيدته “تأملات سريعة في مدينة قديمة وجميلة على ساحل البحر المتوسط”:
يا بحر البدايات، إلى أين تعود
أيها البحر المحاصر
بين إسبانيا وصور
ها هي الأرض تدور
لماذا لا تعود الأن من حيث أتيت؟
آه من ينقذ البحر
دقت ساعة البحر
تراخى البحر؟!
كرر هنا درويش لفظة “بحر” للدلالة على الشعب الفلسطيني تارة (أيها البحر المحاصر)، والدلالة على الرحيل تارة أخرى (دقت ساعة البحر)؛ أي أن الرحيل بالنسبة لهذا الشعب قد يكون لا مهرب منه، وجاء البحر في صيغة منادى ليعمق وطأة الرحيل، بل وزاد في تعميق هذه الدلالة اقترانه بحرف نداء يفيد القريب والبعيد معًا، للمناداة على شعب قريب من الوجدان بعيد عن الأرض، كما أنه بدأ بـ (يا بحر البدايات) ليدل على التيه الأبدي والكوني للإنسان.
يقول المتنبي في قصيدته “لكل امرىء من دهره ما تعودا”:
هُوَ البَحْرُ غُصْ فيهِ إذا كانَ ساكناً . . . . . . . على الدُّرّ وَاحذَرْهُ إذا كان مُزْبِدَا
فإنّي رَأيتُ البحرَ يَعثُرُ بالفتى . . . . . . . وَهذا الذي يأتي الفتى مُتَعَمِّدَا
وهنا يضرب المتنبي لسيف الدولة المثل بالبحر الذي إنما يسلم راكبه إذا كان ساكنا وإذا ماج وتحرك كان مخوفًا لذلك هو يقول ائته مسالمًا ولا تأتهِ وهو غضبان، وبذلك فهو يشبهه بالبحر كما هو في معناه بالقاموس العربي.
درويش في عيون “الإسرائيليين”
في عام 2016، غادرت وزيرة الثقافة من حزب اليمين “الليكود”، ميري ريغيف، القاعة أثناء حفل توزيع جوائز السينما “الإسرائيلية”، فورما بدأ مغني الراب الفلسطيني تامر نفار في قراءة جزء من قصيدة الشاعر محمود درويش، “بطاقة هوية” (سجّل، أنا عربي).
أدى ذلك التصرف إلى ردة فعل غير متوقعة في الوسط “الإسرائيلي”، ففي حين كانت ترغب ريغيف في مقاطعة إبداع درويش، أصبح يتصدر اسم محمود درويش العناوين بفضلها، وقد اهتم الكثير من “الإسرائيليين” به وبشعره، فازداد البحث عن اسمه في جوجل بشكل ملحوظ، ويتضح الآن أنّ كتبه أيضًا قد بيعت بنسبة أعلى من المعدّل.
فقد صدر بعد نحو أسبوعين من المراسم ملف جديد لترجمات قصائده من العربية إلى العبرية تحت عنوان “لا تعتذر عمّا فعلت”، بترجمة إيهود هورفيتش، وبالفعل نفدت الطبعة خلال أيام معدودة.
أهم ما قيل عن محمود درويش
عبدالله الغذامي “ناقد سعودي”: “رجل نُجمع على تبجيله .. وصاحب صيت هو الأكبر في ثقافتنا اليوم”.
ثريا جبران “وزير الثقافة المغربية السابقة”: “محمود درويش موحد للعرب بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، القضية الفلسطينية كانت حاضرة في كل أعماله، ورحيله خسارة كبيرة لكل الأمة العربية، وسيظل حاضراً في ذاكرتنا ووعينا ووجداننا ووجدان كل العرب”.
خوان غويتيسولو (كاتب إسباني): “محمود درويش أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي، ويرمز تاريخه الشخصي إلى تاريخ قومه، استطاع تطوير هموم شعرية جميلة مؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعًا مركزيًا، فكان شعره التزامًا بالكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعرًا نضاليًا أو دعويًا، هكذا تمكن درويش شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه”.
أحلام مستغانمي “الروائية الجزائرية”: “هو الشاعر المارد” الذي كلما كبر قلمه، صغر قلبه وبدا كأنه من عليائه يستنجد بنا، هو يريد منا “وردًا أقل” ونحن نعترف إننا ننتظر منه خسائر أكثر فداحة وحنينًا مدمرًا كإعصار، ننتظر مزيدًا من البكاء على كتف قصائده”.
زاهي وهبي “شاعر وإعلامي لباني”: ” سوف يُكتب الكثير عن محمود درويش ويمتزج الحبر بالدموع ، سوف يُكتب عن شعره الذي طالما أغضب المحتل الإسرائيلي وأفزعه وعن “فلسطينه” التي عشقها حتى الرمق الأخير، وعن نجمته بيروت، عن ريتا وعصافير الجليل، عن حصانه الذي ترك الحصان وحيدًا، وسرير الغريبة الذي يشتاق دفء قصيدته، وعن أثر الفراشة الذي لم تقدر جرافات الاحتلال على محوه من ذاكرة فلسطين، مثلما سوف يُكتب عن شاعريته، وفرادته وتمرده حتى على شعره وجمهوره، أما أنا فسوف أنتظر في بيروت مرددًا: تليق بك الحياة، في الحياة، وفي الموت الذي في حالة محمود درويش لا يكون كليًا” .
رثاه الشاعر سميح القاسم رفيق دربه بقصيدة قال فيها:
تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟
الجوائز والأوسمة التي حصل عليها درويش
حصل محمود درويش على العديد من الجوائز وأوسمة الشرف، وأبرزها جائزة ابن سينا، وجائزة لينين للسلام ، وجائزة لوتس من اتحاد الكتاب الأفرو آسيويين، ومنح رتبة نبيل في فرنسا للفنون، وميدالية بيلز ليترز، وجائزة عام للحرية الثقافية من مؤسسة لانان، جائزة الآداب من وزارة الثقافة الفرنسية، ووسام استحقاق فرنسي، وجائزة ستالين للسلام من الاتحاد السوفييتي، وغيرهم.
رحيل محمود درويش
توفي محمود درويش في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت سفره الأخير يوم السبت في 9 أغسطس من عام 2008م بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي في هيوستن، ليتم إعلان الحداد لمدة ثلاثة أيام على وفاته في فلسطين، فيما تم إحضار جثمانه إلى مدينة رام الله و دفن في ساحة قصر رام الله الثقافي.
ومن المثير للاهتمام أن درويش كتب قصيدة تتحدث عن موته و حياته، سماها “لاعب النرد” حيث لم يكن متأكدًا من عودته بعد عملية القلب المفتوح، و يقوم فيها بتأبين نفسه حيث قال: ” ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟”
وبذلك تنتهي قصة محمود درويش على هذه الأرض التي عاش فيها منفيًا ومسافرًا وشاعرًا، قدم فيها ما يجعل المواطن الفلسطيني فخورًا بفلسطينيته أينما حل، ومتمسكًا بحياته رغم الصعاب لأنه يتذكر ما قاله درويش: ” على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض.. سيدةُ الأرض.. أم البدايات أم النهايات.. كانت تسمى فلسطين.. صارتْ تُسمى فلسطين.. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة”.
شيراز نضال عواودة