“مش رايحة أوصّيكم”
تاريخ النشر: 28/08/18 | 18:30هُجّرت الحاجّة عفيفة مع أسرتها من قريتها البروة إثر النكبة، وفي الطريق إلى الشمال أُطلقت عليهم النيران وقُتل البعض، ومنهم زوجها وحمارهم، فدُفنوا في مقبرة ترشيحا. قرّرت الرجوع رغم اعتراض المرافقين لها من الأقارب وأبناء البلدة؛ عادت تحمل بقجتها التي تحوي كلّ ما تملك من حطام الدنيا. وصلت بعد يومين مشارف القرية لكنّها لم تستطع دخولها؛ إذ حاصرها المستوطنون والجنود، فاستغاثت بأقارب لها في قرية مجد الكروم الجليليّة، تقيم عندهم وتحلم بعودة قريبة إلى بيتها. حاولت كلّ يوم دخول القرية دون جدوى، حتّى نجحت بعد أسبوعين في التسلّل للبلدة فاسودّت عيناها: لا أثر للقرية ومعالمها… هُدمت البيوت على بِكرة أبيها!
مرّت خمسة أشهر وولدت بِكرها شكري، ربّته بعرق جبينها؛ اشتغلت في بيوت اليهود في المستوطنات المجاورة، قطفت الزعتر والحويرّة والعكّوب لتبيعها في سوق عكّا، ثمّ التين والزيتون في الموسم لتبيعهما للمارّين طريق الشاغور، حتّى أنهى دراسته الجامعيّة وقرّر السفر بحثًا عن عمل خارج البلاد.
مرّت السنون وهي ترسل المال إليه كلّ آخر شهر حالمة برجوعه إلى جوارها. بدأت اتّصالاته تخفّ تدريجيًّا ثمّ انقطعت أخباره. وكلّما سمعت عن قادم من الغربة ذهبت إليه تسأله عن أخبار ابنها، لكن دون جدوى.
ساءت حالتها الصحيّة وأملها الوحيد رؤية شكري قبل موتها، وصار القريب والبعيد يعرف قصّتها، إلى أن نجحت أخيرًا بالتوصّل إلى عنوانه في برلين. حضّرت الفطائر والكعك، زيت البلد والزعتر والسمّاق وعلبتين من التين البلديّ وسافرت إلى هناك؛ العنوان في زنّارها، وهي لا تقرأ ولا تكتب ولا تفكّ الحرف.
جلس شكري وزوجته لتناول وجبة الغداء يوم الأحد، يوم العطلة الأسبوعيّة، مع كأس نبيذه، فإذا الباب يُقرع بصخب على غير عادة الألمان الذين لا يفاجئون الغير بزيارة غير مرتقبة دون ترتيب مسبق، ولا سيّما ظهيرة الأحد! فتحت زوجته الباب فرأت فلّاحة تحمل حقيبتها لاهثة فأغلقت الباب بسرعة تحسبها غجريّة ونادت زوجها شكري، وما أن فتح الباب ثانيةً فإذا بأمّه قد أغمي عليها، خلف الباب.
أُجريت لها عمليّة جراحيّة طارئة استغرقت ثلاث عشرة ساعة، قام بها كبار الجرّاحين برئاسة الطبيب آدم، “واحد طالع وواحد فايت”… وخلال اجتماع الطاقم بجوار سريرها لتلخيص مُجريات العمليّة أفاقت الحاجّة عفيفة من التنويم في اللحظة التي دخل ابنها شكري الغرفة وشاهد ابنه آدم الجرّاح يحمل مفتاحًا استأصله من معدتها، فتمتمت قائلة: “مش رايحة أوصّيكم”… ثمّ فارقت الحياة.
المحامي حسن عبادي
شكرا على هذا العبره الجميله
شكرا
ما احلى ريحة بلادنا بقراص الزعتر وزهر العنبر. هذه نقطه من بحر تاريخ بلادنا وعبره لمن اعتبر.نريد المزيد.
قصه طريفه في غاية الروعه ومعبره لكل من يعتبر